مواعظ القرآن (1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
كلُّنا - ولله الحمد والمنة – يقرأ القرآن، ولكن ما أقلَّ تدبُّرَنا لكتاب ربِّنا تبارك وتعالى، وأين أثر التدبُّر؟ وربُّنا القائل: ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، فهل هناك أقفالٌ على قلوبنا تمنعنا من تدبُّر كتاب الله تعالى؟! عباد الله.. وإنَّ أعظم المواعظ هو التذكير بكلام الله تعالى القائل: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45].
• قال الله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴾ [النبأ: 10]. امتنَّ الله تعالى على الناس؛ بأنْ جعل لهم الليل كاللباس؛ أي: ساتِراً يَستُر عن العيون؛ لأنه يغشاهم بسواده وظلامه؛ كما يُغَطِّي الثوبُ لابِسَه.
ووجه الامتنان - في جعلِ الليلِ لِباساً: أنَّ مَنْ أرادَ عبادةَ ربِّه حيث لا يراه أحدٌ من الناس فليَقُمْ من الليل يُصلِّي، فالليل يستُره عن عيون الناس. ومَنْ أراد هرباً من عدوٍ أو تَبييتاً لعدوٍ؛ فالليل يَصلُح فيه ذلك؛ كما قال سبحانه: ﴿ إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ﴾ [القمر: 34]. ومَنْ أراد الراحةَ والسِّترَ على نفسه فيه؛ ففيه الراحةُ والسُّكون والسِّتر. ويندفع بالليل أذى التَّعب الجسماني، وأذى البشر.
• في يوم القيامة يأتي الناسُ فُرادى: ﴿ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴾ [مريم: 95]. ويأتون أيضاً جماعات: ﴿ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ﴾ [النبأ: 18].
والظاهِرُ أنَّ إتيانهم أفواجاً إنما هو عند النَّفخ في الصور، وعند خروجهم من القبور؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ﴾ [يس: 51]؛ وكما في قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ﴾ [المعارج: 43]؛ وقوله: ﴿ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ ﴾ [القمر: 7].
وأمَّا مجيئهم فُرادى؛ فذلك عند لقاء الله تعالى للسؤال والحساب.
• أخبر الله تعالى بأنَّ الجِبالَ العظيمةَ لها أحوال يوم القيامة: ﴿ وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ﴾ [النبأ: 20]. والسَّراب: هو الشيء الذي يَنظُرُ إليه الرَّائي من بَعيدٍ فَيَحسَبُه ماءً، وليس هو بشيء، وكذلك تكون الجبال، فتُصبِحُ الجبالُ كالعِهن، وهو الصُّوف: ﴿ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ﴾ [القارعة: 5].
وتُزاح عن أماكنها: ﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً ﴾ [الكهف: 47]. وتُنْسَفُ نَسْفاً: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلاَ أَمْتًا ﴾ [طه: 105-107].
وتَصِير كالهَباء: ﴿ وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ﴾ [الواقعة: 5-6]؛ بل يُخَيَّلُ إلى الرَّائي أنَّ هذا جبلٌ، ولكن ليس ثَمَّ جِبال: ﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ﴾ [النمل: 88].
• هل يُكلِّمُ الله تعالى الكفارَ يوم القيامة؟ قال الله تعالى - في شأن الكفار: ﴿ أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 77]، فذَكَرَ اللهُ تعالى أنه لا يُكلِّمهم، وفي مَوطِنٍ آخَرَ كلَّمَهم اللهُ تعالى فقال لهم: ﴿ فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا ﴾ [النبأ: 30].
ويُجْمَع بين الأمرين؛ بأن يُقال: إنَّ قوله: ﴿ وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ ﴾ محمولٌ على الكلام الذي ينفعهم، بمعنى لا يُكلِّمُهم كلاماً ينفعهم. وأنَّ مَواقِفَ القيامة تتعدَّد؛ فأحياناً يَحْدُثُ التكليم، وأحياناً يكون التكليم للتوبيخ والتأنيب، والتَّبشير بالعذاب.
• نهى اللهُ عبادَه عن التنابُزِ بالألقاب فقال سبحانه: ﴿ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ ﴾ [الحجرات:11]. فكيف يُوصَفُ ابنُ أُمِّ مكتومٍ - رضي الله عنه بـ"الأعمى" في قوله تعالى: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى ﴾ [عبس: 1-2].
فيُقال: وُصِفَ بالأعمى للإشعار بِعُذرِه في الإقدام على قَطْعِ كلامِ الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو كان يرى ما هو مُشْتَغِلٌ به مع صَناديدِ الكفَّار؛ لَمَا قَطَعَ كلامَه. والإنسانُ إذا اشْتُهِرَ بشيءٍ ولم يُعلَمْ من حاله أنه يَتَضايقُ من هذا الوصفِ الذي وُصِفَ به فلا حرج أنْ يُنادى بهذا الوصف، ولا يُعدُّ ذلك تَنَابُزاً بالألقاب، ودلَّ على ذلك أيضاً قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَكَمَا يَقُولُ "ذُو الْيَدَيْنِ"؟» رواه البخاري، لِرَجُلٍ كان في يديه طُولٌ.
وبَوَّبَ البخاري - رحمه الله - لِبَعْضِ طُرُقِ هذا الحديثِ في "كتاب الأدب" بقوله: باب مَا يَجُوزُ مِنْ ذِكْرِ النَّاسِ نَحْوَ قَوْلِهِمُ: "الطَّوِيلُ" وَ"الْقَصِيرُ". وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا يَقُولُ "ذُو الْيَدَيْنِ"». وَمَا لاَ يُرَادُ بِهِ شَيْنُ الرَّجُلِ.
قال ابن حجر - رحمه الله -: (هذه الترجمة مَعقودة؛ لبيان حُكْمِ الألقاب، وما لا يُعْجِبُ الرَّجلُ أنْ يُوصَفَ به مِمَّا هو فيه، وحاصِلُه: أنَّ اللَّقبَ إنْ كان مِمَّا يُعْجِبُ المُلَقَّب، ولا إِطراءَ فيه مِمَّا يَدخُلُ في نهي الشَّرْع فهو جائِزٌ أو مُسْتَحب، وإنْ كان مِمَّا لا يُعجِبُه فهو حرامٌ أو مكروه، إلاَّ إنْ تَعَيَّنَ طريقاً إلى التَّعريفِ به، حيثُ يَشْتَهِرُ به ولا يَتَميَّزُ عن غيرِه إلاَّ بِذِكره، ومن ثَمَّ أكثَرَ الرُّواةُ من ذِكْرِ "الأعمش" و"الأعرج" ونحوِهما...، وإلى ما ذهَبَ إليه البخاريُّ من التَّفصيل في ذلك ذهَبَ الجمهور).
• قال الله تعالى - في خَلْقِ الإنسان: ﴿ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ﴾ [عبس: 19-20]؛ وقال في خَلْقِ النَّبات: ﴿ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ﴾ [عبس: 25-27].
فمِنْ أوجه التَّطابقِ بين خَلْقِ الإنسان وخَلْقِ النبات: أنَّ قَذْفَ المَنيِّ في الرَّحِم في قوله: ﴿ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ ﴾؛ يُطابِقُ صَبَّ الماءِ من السماء إلى الأرض في قوله: ﴿ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ﴾. وتَيسيرُ سبيلِ الخروجِ له من بطنِ أُمَّه في قوله: ﴿ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ﴾؛ يُطابِقُ خُروجَ النَّباتِ من الأرض في قوله: ﴿ ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا ﴾. وتقديرُ خَلْقِ الإنسان وكتابةُ أجلِه ورِزقِه وعملِه وشَقِيٍّ أو سعيدٍ وكذلك تقديرُه ذكراً أو أُنثى، وتقديرُ النُّطفةِ هل هي مُخلَّقَةٌ أو غيرُ مُخلَّقة؛ يُطابِقُ أصنافَ الطعامِ التي نَبَتَتْ من الأرض في قوله: ﴿ فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً ﴾ إلى آخِرِ الآيات.
الخطبة الثانية
الحمد لله... عباد الله..قال اللهُ تعالى في - مَشْهَدٍ من مَشاهدِ يوم القيامة: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ﴾ [التكوير: 1-3]؛ وقال أيضاً: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ﴾ [الانفطار: 1-4].
روى الطبري - بإسنادٍ حسن - عن أُبَيِّ بن كعبٍ - رضي الله عنه - قال: (سِتُّ آيَاتٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ: بَيْنَا النَّاسُ فِي أَسْوَاقِهِمْ، إِذْ ذَهَبَ ضَوْءُ الشَّمْسِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ تَنَاثَرَتِ النُّجُومُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ وَقَعَتِ الْجِبَالُ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، فَتَحَرَّكَتْ وَاضْطَرَبَتْ وَاحْتَرَقَتْ، وَفَزِعَتِ الْجِنُّ إِلَى الإِنْسِ، وَالإِنْسُ إِلَى الْجِنِّ، وَاخْتَلَطَتِ الدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ وَالْوَحْشُ، وَمَاجُوا بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ ﴿ وَإِذَا الْوحُوشُ حُشِرَتْ ﴾. قَالَ: اخْتَلَطَتْ ﴿ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ﴾. قَالَ: أَهْمَلَهَا أَهْلُهَا ﴿ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ﴾. قَالَ: قَالَتِ الْجِنُّ لِلإِنْسُ: نَحْنُ نَأْتِيكُمْ بِالْخَبَرِ؛ قَالَ: فَانْطَلَقُوا إِلَى الْبِحَارِ، فَإِذَا هِيَ نَارٌ تَأَجَّجُ؛ قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ تَصَدَّعَتِ الأَرْضُ صَدْعَةً وَاحِدَةً، إِلَى الأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى، وَإِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ الْعُلْيَا؛ قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرِّيحُ فَأَمَاتَتْهُمْ).
وقال ابنُ القيم - رحمه الله - في حِكْمَةِ اللهِ في هَدْمِ هذه "الحياة الدنيا": (قرأَ قارِئٌ: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ﴾ وفي الحاضِرِينَ "أبو الوفاء ابنُ عقيل"، فقال له قائلٌ: يا سيِّدي، هَبْ أنه أنْشَرَ الموتى للبعث والحساب، وزَوَّجَ النفوسَ بِقُرَنائِها بالثَّوابِ والعقاب؛ فَلِمَ هَدَمَ الأبنيةَ وسَيَّرَ الجِبالَ، ودَكَّ الأرض، وفَطَرَ السَّماءَ، ونَثَرَ النُّجومَ، وكَوَّرَ الشَّمس؟
فقال: إنما بَنَى لهم الدارَ لِلسُّكنى والتَّمتُّع، وجَعَلَها وجَعَلَ ما فيها للاعتبار والتَّفكرِ والاستدلالِ عليه بِحُسْنِ التأمُّلِ والتَّذكُّر؛ فلمَّا انقضت مُدَّةُ السُّكنى وأجْلاَهم من الدار خَرَّبَها لانتقالِ السَّاكن منها. فأراد أنْ يُعلِمَهم بأنَّ الكَونَ كان مَعْموراً بهم. وفيه: إحالةُ الأحوالِ، وإظهارُ تلك الأهوالِ، وبيانُ المَقْدِرَةِ بعد بَيانِ العِزَّةِ، وتَكذِيبٌ لأهلِ الإلحادِ، وزنادِقَةِ المُنَجِّمين، وعُبَّادِ الكواكبِ والشمسِ والقمرِ والأوثان، فيَعْلَمُ الذين كفروا أنهم كانوا كاذِبين، فإذا رأَوا آلِهتَهم قد انْهَدَمَتْ، وأنَّ مَعْبوداتِهم قد انتَثَرتْ وانْفَطَرتْ، ومَحالَّها قد تَشَقَّقَتْ؛ ظهرتَ فضائِحُهم، وتَبَيَّنَ كَذِبُهم، وظَهَرَ أنَّ العالَمَ مَربوبٌ مُحْدَثٌ مُدَبَّر، له ربٌّ يُصَرِّفُه كيف يشاء، تكذيباً لِمَلاحِدَةِ الفلاسفةِ القائلين بالقِدَم. فَكَمْ لله تعالى من حِمكةٍ في هَدْمِ هذه الدار، ودلالةٍ على عِظَمِ عِزَّتِه وقُدرتِه وسُلطانِه، وانفرادِه بالرُّبوبية، وانقيادِ المخلوقاتِ بأسْرِها لِقَهْرِه، وإذعانِها لِمَشِيئتِه، فتبارك اللهُّ ربُّ العالَمين).
لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100
إقرأ المزيد :
الفئة: خطب إسلامية