محتويات المقال
اسم الله الوارث
معرفة العباد لأسماء الله تبصرهم بعيوب أنفسهم
إن معرفة العباد لله -عز وجل- بأسمائه وصفاته تبصرهم بنقائص نفوسهم وعيوبها وآفاتها؛ فيجتهد كل عبد في إصلاحها، وأركان الجحود التي تصيب العبد أربعة: الكبر، الحسد، الغضب، الشهوة، ومنشأ هؤلاء الأربعة جهل العبد بربه وجهله بنفسه؛ فإنه لو عرف ربه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وعرف نفسه بالنقائص والآفات لم يتكبر، ولم يغضب لها، ولم يحسد أحدًا على ما آتاه الله؛ ويعلم علم اليقين أن كل شيء لله -سبحانه وتعالى-؛ ولذا فإن من أسماء الله التي ينبغي أن نتدبر معناها ودلالتها وآثارها اسم الله الوارث.
اسم الله الوارث معناه ودلالته
يقول ابن الأثير: "الوارث: هو الذي يرث الخلائق، ويبقى بعد فنائهم"، ومن شرح الإمام الخطابي لهذا الاسم قوله: "الوارث: هو الباقي بعد فناء الخلق، والمسترد أملاكهم وموارثهم بعد موتهم، ولم يزل الله باقيًا مالكًا لأصول الأشياء كلها، يورثها من يشاء ويستخلف فيها من أحب".
وقد ورد اسم الله الوارث في ثلاث آيات في كتاب الله, يقول أبو السعود في تفسير قوله -تعالى-: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ﴾[الحجر:23]؛ أي: الباقون بعد فناء الخلق قاطبة، المالكون للملك عند انقضاء زمان الملك، الحاكمون في الكل أولاً وآخراً، وليس لهم إلا التصرف الصوري والملك المجازي.
ويقول الإمام البغوي عند تفسير قول الله -تعالى-: ﴿وزكريا إذ نادى ربه رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾[الأنبياء: 89]؛ "أثنى على الله بأنه الباقي بعد فناء الخلق، وأنه أفضل من بقي حياً"، ويقول الإمام الطبري في بيان معنى قوله -تعالى-: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾[القصص:58]؛ ولم يكن لما خّربنا من مساكنهم منهم وارث، وعادت كما كانت قبل سكناهم فيها، لا مالك لها إلا الله، الذي له ميراث السماوات والأرض".
وورد في موضع واحد بصيغة الفعل، في قوله -تعالى-: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾[مريم:40]؛ قال ابن جرير -رحِمه الله -: "ونحن نرِثُ الأرض ومَن عليها؛ بأن نُميتَ جميعَهم فلا يبقى حيّ سوانا إذا جاء ذلك الأجل"، وقال الزَّجَّاجي: "الله -عز وجل- وارث الخلْق أجمعين؛ لأنَّه الباقي بعدهم وهم الفانون".
إن لكل اسم من أسماء الله دلالة تزيد في الإيمان واليقين, وتورث صاحبها السعادة والرضا, واسم الله "الوارث" له دلالات عظيمة فمن ذلك:
أن اسم الله الوارث يبين عظمة الرب -سبحانه- وأنه -عز وجل- مالك الملك ووارثه والمتصرف فيه, وأن كل شيء دونه إلى فناء, إلى جانب أنه يكشف حقيقة التملك عند الخلائق، فملكهم إلى زوال، وهو ملكٌ ناقصٌ ولحظيّ غير دائم، ناقصٌ من ناحية الكمّ إذ يبقى محدوداً بما وهبه الله، ومن ناحية القدرة على التصرّف شرعاً وقدراً، ولحظيٌّ مآله إلى زوال ثم يتركه إلى ورثته، بينما نجد أن ملك الله شاملٌ وكاملٌ لا يعتريه نقص، وباقٍ دائم لا يعتريه زوال، فهو الوارث على جهة الشمول والكمال، وهذا يجعلنا نستحضر عظمة الله -سبحانه- وأنه الوارث لكل شيء.
خرج هارون الرشيد يوماً في رحلة صيد فمرّ برجل يقال له: بُهلول, قد اعتزل الناس وعاش وحيداً, فقال هارون: عظني يا بُهلول قال: يا أمير المؤمنين! أين آباؤك وأجدادك من لدن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أبيك؟, قال هارون: ماتوا, قال: فأين قصورهم؟ قال: تلك قصورهم, قال: وأين قبورهم؟ قال: هذه قبورهم, فقال بُهلول: تلك قصورهم, وهذه قبورهم, فما نفعتهم قصورهم في قبورهم؟ قال: صدقت, زدني يا بهلول, قال: أما قصورك في الدنيا فواسعة فليت قبرك بعد الموت يتسع, فبكى هارون, وقال: زدني فقال: يا أمير المؤمنين! قد ولاك الله فلا يرى منك تقصير ولا تفريط فزاد بكاءه, وقال: زدني يا بهلول, فقال: يا أمير المؤمنين:
هب أنك ملكت كنوز كسرى
وعُمرت السنين فكان ماذا؟
أليس القـبر غـاية كـل حيٍ
وتُسأل بعده عن كل هذا؟
قال: بلى, ثم رجع هارون ولم يكمل رحلة الصيد تلك, وانطرح على فراشه مريضاً, ولم تمضِ عليه أيام حتى نزل به الموت, وترك ملك كان يمتد من الصين شرقاً إلى جبال البرنس في فرنسا غرباً.
ومن ذلك: أنَّ الله -تعالى- هو الوارِث، الَّذي يُورث الأرْضَ مَن يَشاء من عباده، قال -تعالى- عن نبيّ الله موسى وهو يُخاطب قومَه: ﴿اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾[الأعراف:128].
وقال -تعالى-: عن فرْعون وقومِه لمَّا عصَوُا الله وخالفوا أمره: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾[الدخان: 25 - 28]، وقال - سبحانه - عن بني إسرائيل: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾[القصص:5].
فالأرض لله والملك لله يورث كل ذلك من شاء من عباده إذا أدوا ما عليهم من واجبات العبودية تجاه ربهم, قال -تعالى-: ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾[الأحزاب 27].
وإذا كانت الأرض لله يورثها من شاء من عباده لأنه الوارث -سبحانه-, فإنه قد جعل الجنَّة ثوابًا للمتَّقين، وهو يُورثهم إيَّاها، قال -تعالى-: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[الأعراف:43]، وقال -سبحانه-: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا﴾[مريم:63]، وقال -تعالى- عن المؤْمِنين بعدما ذكر بعضًا من صفاتِهم: ﴿أولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[المؤمنون:10-11].
الآثار الإيمانية لاسم الله الوارث
لاشك أن لأسماء الله آثاراً في حياة العباد, تظهر في إيمانهم وسلوكياتهم وأخلاقهم, واسم الله الوارث له آثار؛ فمن ذلك:
الثبات على الحق وعدم اليأس من انتفاش الباطل وسطوته، أو الحزن من تسلّط أعداء الرسالات والمتآمرين على شريعة الله؛ فإنهم مهما طغوا وتجبّروا، وعتوا عما نهوا عنه، وتنكّبوا عن سبيل الحق، وأمعنوا في عداوة الصالحين ومحاربتهم بشتّى الوسائل؛ فإن مصيرهم إلى زوال، وليس لهم إلا ذلك النطاق الزمني اليسير؛ ليستكبروا بغير الحق, ويتحكّموا في رقاب الناس، ثم يرث الله -عز وجل- الأرض ومن عليها وإليه يُرجعون.
فالعاقبة للمتقين، وما على المؤمنين سوى الاستعانة بالله -جلّ وعلا- والتوكّل عليه، وهذا هو عين ما دعا إليه موسى -عليه السلام- حين خاف أتباعه من بطش فرعون وقومه: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾[الأعراف:128].
ومن ذلك: أن النصر مع الصبر, وأن التمكين مع الثبات, وأن العطاء الجميل لا يكون إلا من ملك متصرف وارث لكل شيء, قال -تعالى-: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾[الأعراف: 137].
ومن ذلك: استنهاض الهمم في مجالات الخير، لاسيما الإنفاق في سبيل الله، انطلاقاً من الإدراك العميق بأن ما بين أيدينا من الأموال إنما هي ودائع, استخلفنا الله -تعالى- عليها لينظر كيف سنتصرّف فيها ونتعامل بها:
وما المال والأهلون إلا ودائع
ولابد يوماً أن تردّ الودائع
فهو ترغيبٌ في إنفاق المال في وجوه الخير، وعدم البخل به واكتنازه، ونستبين هذه الدعوة من خلال قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يقول العبد: مالي، مالي! إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب، وتاركه للناس"
المرجع :
لا تنس ذكر الله