الدين النصيحة
الحمدُ للهِ الذي أنزلَ برحمته آياتِ الكتابِ، وأجرى بعظمته شتاتَ السحابِ، وهزمَ بقوته جموعُ الأحزابِ، ﴿ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [الرعد: 41]، تبارك وتعالى، ﴿ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ ﴾ [الرعد: 36]، وسبحانهُ وبحمده، ﴿ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ﴾ [الرعد: 27]... وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، الكريمُ التواب، العظيم الوهّاب، ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 269]... وأشهد أن محمدًّا عبدهُ ورسولُه الْمُنيبُ الأواهُ الأوّاب.. سلامٌ على ذاكَ النبيِّ فإنَّهُ.. إليهِ العُلا والفضلُ والفخرُ يُنسبُ.. وأحسنُ خلقِ اللهِ خُلُقًا وخِلْقةُ.. وأطولهمْ في الجودِ باعًا وأرحبُ.. صفوهُ بما شئتمْ فواللهِ ما انطوى.. على مثلهِ في الكونِ أمٌّ ولا أبُ.. صلَّى اللهُ وسلّمَ وبارك عليهِ، وعـلى جميـعِ الآلِ والأهـلِ والأصـحـابِ، ما لمـعَ سـرابٌ، وهمعَ سحابٌ، وقُرِئَ كتابٌ، وعلى التابعين وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يوم المآبِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ:
فاتقوا اللهَ تعالى عبادَ اللهِ وأطيعوهُ؛ فلنِعمَ زادُ المؤمنِ تقوى اللهِ تعالى وطاعتهِ، ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197].معاشر المؤمنين الكرام:
ذُكر أن الحسن والحسين رضي الله عنهما، دخلا مكانًا للوضوء، فوجدا رجلًا كبيرًا لا يحسن الوضوء.. فأرادا أن يعلماه الوضوء الصحيح دون أن يحرجاه أو يجرحا شعوره.. فنظر الحسن والحسين إلى بعضهما نظرةً ذات مغزى، ثم اقتربا من الرجل، فقال له أحدهما: يا عماه: لقد اختصمت أنا وأخي هذا أينا أحسن وضوءً، فإن رأيت أن تحكم بيننا.. فقال الرجل: أفعل إن شاء الله.. فتقدم الحسن فتوضأ وضوءً نبويًا كاملًا، ثم تقدم الحسين فتوضأ أيضًا وضوءً نبويًا كاملًا، ثم التفتا إلى الرجل ينتظران منه الحكم، فوقع هذا العمل النبيل من الرجل موقعًا بليغًا، وقال لهما: بل أنا والله الذي لا يحسن الوضوء، وقد علمتماني أحسن تعليم، ونصحتماني أبلغ النصح.النصيحة في اللغة هي تخليص الشيء من الشوائب.. وفي الشرع كلمةٌ جامعة مرادفةٌ للدین، فإذا ضاعت النصيحة ضاع الدين.. والنصيحة هي إرادة الخير للغير.. والسعي في إصلاح حال المنصوح بالحكمة والموعظة الحسنة.. والنصيحة الشرعية نصحٌ مغلفٌ بالمودة، وإرشادٌ مضبوط بالحكمة، وتصحيحٌ وتقويمٌ بالتي هي أحسن.. ينبع من قلبٍ ملئ بحبِّ الخير للغير، ودافعه صدق الانتماء لهذا الدين.
النصيحة تعني إيقاظ المنصوح من غفوته، وتنبيهه إلى مواضع زلَّته، وتحذيره من مغبة غفلته، وإرشاده إلى الصراط المستقيم الذي يُدرك به هدفُه وغايته.. والنصيحة مَعلمٌ بارزٌ من معالم الأخوة الإسلامية، وهي من كمال الإيمان، وتمام الإحسان، إذ لا يكمُل إيمانُ المسلمِ حتى يحبَّ لأخيه المسلمَ ما يحبُّ لنفسه، وحتى يكره لأخيه ما يكرهه لنفسه.. روى البخاري ومسلم عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: "بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ".. والنصيحةُ من الأعمالِ الدالّة على صفاء السّريرة، وسلامة الصدر قال الفضيل رحمه الله: "ما أدرَك عندَنا من أدرَك بكثرةِ الصلاة والصيام، وإنما أدرَك بسخاءِ النفس وسلامةِ الصدر والنصح للأمّة، وأنصحُ الناس لك من خاف الله فيك".
والنصيحة من خصائص هذا الدين، وهي من دعائم استقامة الأمة واستقرارها، وعلامةٌ من علامات النضج الفكري لمن يؤديها ولمن يتقبلها.. وهو بذلك أقرب إلى الفوز بمحبة الله ورضاه.. وحين سئل ابنُ المبارك رحمه الله: أيُّ الأعمال أفضلُ؟ قال: النصحُ لله.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إنْ شئتم لأُقسمنَّ لكم بالله: أنَّ أحبَّ عبادِ الله إلى الله الذين يُحببون الله إلى عباده، ويُحببون عبادَ اللهِ إلى الله، ويسعون في الأرض بالنصيحة.
ويقول عليٌ رضي الله عنه: المؤمنون نصحة، والمنافقون غششة.
وقال شيخ الإسلام: المؤمن للمؤمن كاليدين تغسِل إحداهما الأخرى.
النصيحة يا عباد الله:
مبدأٌ شرعيٌ راسخ، وقاعدةٌ إسلاميةٌ صُلبة، مستمرةٌ مضطردة، في كل الأوقات وفي جميع الأحايين، لا تنقطع ولا تتوقف، لأن الإنسان لا يقوم بمفرده، ولا يعيش لوحده، بل لا بد له من التعاون والتكامل مع غيره؛ فالنصيحة إذن مسؤولية الجميع، الكلُّ فيها مُتساوون؛ إنها واجبٌ ديني لازم، وأمرٌ إلهي عام، وشرعٌ مفروضٌ على كلِّ مسلم ومسلمة، قال جريرٌ بن عبدالله رضي الله عنه: "بايَعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فاشتَرط عليَّ النصحَ لكلِّ مسلم".وعلى هذا فالنصيحة واجبة بالقدْر الذي يَعلمه المسلم من دينه، وبحسب امكانياته ومسؤوليته.. ومن أجل هذا؛ فإنه ينبغي على المسلم أن يسعى في نصح إخوانه وأقرانه وأهل زمانه، فللنصيحة أثرٌ عظيم، ونفعٌ كبير؛ فكم من غافلٍ سمِعَ آيةً من كتاب الله فحركت قلبه وأعادته إلى مولاه، وكم من عاصٍ سمِع كلمةً صادقةً فتاب إلى الله توبةً نصوحًا، وكم من ظالمٍ جائرٍ أثَّرت فيه موعِظةٌ بليغةٌ فأقلع عن جوره وظلمه، وأقام العدل في نفسه ومع غيره.
وليس من المقبول شرعًا ولا عُرفًا، أن يرى المسلم إخوانه المسلمين يقعونَ في شيءٍ من الخطأ، ثم لا يقولُ كلمةَ حقٍّ تُساهِم في إصلاح ما فسد من أحوالهم، وتُقِيمُ الحُجةَ على من عاند منهم، ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر ﴾ [العصر: 1، 3]، وحين شبهَ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم المجتمعَ بالسفينة الماخرةِ لُججَ البحارِ وأمواجِها العاتية، أكَّدَ أنه لن يُكتبَ لها السلامة حتى يقومَ الناصحون بدورهم في حمايتها من عبث الجاهلين وإفسادِ المخربين.
وحين يُعرِضُ الكثيرون عن نُصْحِ إخوانِهم إثارًا للسلامة، فإن هذا ليسَ من هدْي المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم الَّذي قال: "المسلِم الَّذي يُخالط النَّاسَ ويصْبِرُ على أذاهم خيرٌ منَ المسلم الَّذي لا يُخالط النَّاسَ ولا يصبرُ على أذاهم"، فالمسلم صاحبُ رسالة؛ ولا بدَّ لصاحب الرسالة أن يصبرَ وأن يُضحي في سبيل رسالتهِ.
وقد كان السلفُ يحبُّونَ من يُبصِّرهم بعيُوبهم، قال مِسعَرُ بن كِدام رحمه الله: " رحِم الله من أهدَى إليَّ عُيوبي في سرٍّ بيني وبينه".. فما الذي يمنعُ المسلمَ حين يرى أخاهُ على شيءٍ من الخطأ، أو حين يراهُ مقصرًا في حقٍّ من حقوق الله تعالى، أن ينصحهُ بالحسنى؟ وأن يُذكِّرهُ بما هو واجبٌ عليه بأسلوبٍ جميل؟
أليست النصيحة هي أصلُ الدين.. بل هي الدينُ ذاته، بل لقد حصرَ المصطفى صلى الله عليه وسلم الدينَ كلُّه في النصيحة.. كما في حديث مسلم: قال عليه الصلاة والسلام: «الدِّينُ النصيحة». قال الإمام النووي رحمه الله: فمَدارُ الدّين على هذا الحديث العظيم.
ولذلك كانت النصيحةُ هي دأْبُ الأنبياء ومنهج المرسَلين، قال نوحٌ عليه السلام لقومه: ﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ ﴾ [الأعراف: 62]، وقال هودٌ عليه السلام: ﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِين ﴾ [الأعراف: 68]، وقال صالحٌ عليه السلام: ﴿ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ﴾ [الأعراف: 79]، وقال شعيبٌ عليه السلام: ﴿ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ﴾ [الأعراف: 93]، وبعث الله موسى لتذكيرِ الناس ونصحِهم وإنذارِهم، قال عزّ وجلّ: ﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون ﴾ [القصص: 46].
أيها الأحبةُ الكرام:
روى مسلم في صحيحه عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، قُلْنَا لِمَنْ؟ قال: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ». قال الإمام الذهبيّ رحمه الله: "من لم ينصَح لله وللأئمّة وللعامّة كان ناقصَ الدين".فالنصيحة للهِ تعالى:
تكون بالاعتقاد والاقرارِ بأنَّهُ لا معبودَ بحقٍّ إلا اللهُ تعالى، وبطاعته جلَّ وعلا وإخلاصِ العبادةِ لهُ سبحانه، وبصدق القصدِ في طلب مرضاتهِ، وتجنبِ معصيته.وأمَّا النصيحةُ لكتاب اللهِ فتكونُ بالإيمان به وتعلُّمِه وتعليِمه وتلاوتهِ حقَّ التلاوة، وامتثالُ أوامرهِ واجتنابِ نواهيهِ، وتصديقِ أخبارهِ، وتدَبًّر آياتهِ، وفهمه والعمل به، والدعوةِ إليه، وعدمَ هُجرانه.
وأما النصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم فتكونُ بتصديقه في ما أخبر، وطاعتهِ في ما أمر، واجتنابِ ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
وأمَّا النصيحةُ لأئمة المسلمين فتكون بطاعتهم بالمعروف والتعاونِ معهم على البر والتقوى، وتذكيرهم بالحقَّ وإعانتهم عليه.
وأمَّا النصيحةُ لعامة المسلمين فهي أن تُحبَّ لكل فردٍ منهم ما تُحبَّ لنفسك وتكرهَ لهم ما تكرههُ لنفسك وأن تُرشدهم للخير وتحثُهم عليه.
فواجبٌ علينا أن نقدمَ النصيحةَ لكلِّ من يحتاجُها، وأن نصغي لنصيحة الناصِح، وأن نُقابلَ ذلك بالقبول، قال تعالى: ﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 17، 18].
بَارك الله..
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمد عبده وسوله، ومصطفاه وخليله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا..
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا مع الصادقين، وكونوا من ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 18]..معاشر المؤمنين الكرام:
للنصيحة آدابًا عامةً ينبغي أن يتحلى بها من أرادَ أن تُقبلَ مِنه نصيحتُه:أولها: أن تكونَ نَصِيحتُه خَالِصة لوجه اللهِ تعالى، وأن يكون دَافِعُها مَحبةُ الخير لأخيهِ المسلم، وكَراهِيةِ أن يُصِيبِهُ شرٌّ أو ضررٌ.. وأن يصدق في نصيحته فيبذُلَ فيها غايةَ وسعِهِ، ويَتحرى ويتثبت قبل النَّصِيحةِ، ولا يأخذَ أخاهُ بالظن، فيتَّهِمهُ بما ليس فيه.. وعلى الناصح أن يختارَ الوقتَ المناسبَ للنصيحة.. وأن تكونَ سِرٍّا بينهُ وبين من يَنصحُه.
قال ابن حزم رحمه الله: "إِذا نصحتَ فانصح سِرًا لَا جَهرًا، وبتعريضٍ لَا تَصْرِيح.. وقال الشافعي رحمه الله:
تَعَمَّدني بِنُصْحِكَ في انْفِرَادٍ
وجنِّبني النصيحة في الجماعهْ
فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ
من التوبيخِ لا أرضى استماعه
وَإنْ خَالَفْتنِي وَعَصَيْتَ قَوْلِي
فَلاَ تَجْزَعْ إذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَة
ومن آداب النصيحة:
ألا يُريدَ بها التعيير ولا التبكيت، وأن تكونَ النصيحةُ مشبَّعة بروح الأخوةِ والمودةِ، لا تَعنيفَ فيها ولا تَشدِيد، ولا لومَ ولا توبِيخ، قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159].وأن تكون النصيحةُ بعلمٍ وبيان، وحُجة مُقنِعة.
وأن لا تُؤدي إلى الخِصامِ والمجادلةِ والانتصارِ للنفس، فيذهبَ مقصُودها، قال تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125].
ومن الحكمة أن تكون النصيحةُ بأحسنِ الألفاظِ وأحكمِها، وأرقِ العباراتِ وألينها، قال عز وجل: ﴿ فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾. ومن الأمثال الجميلة: نصائحُ الأخيارِ كشمس الشتاء تُضيءُ ولا تُحرق.
ومن الحكمةِ أيضًا أن يَتلطَّفَ الناصحُ في الوصول إلى قلب المنصوحِ بذكرِ بعضِ محاسِنهِ قبلَ البَدءِ بالنصيحةِ، فقد قال نبيُ الله شعيبٌ عليه الصلاة والسلام لقومهِ وهو يَعِظُهم: ﴿ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ﴾ [هود: 84]، وقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمر: «نِعمَ الرجُلُ عبد الله، لو كان يُصلِّي من الليل»، ولنا في القرآن أسوةٌ حسنةٌ فقد تلطَف الله تعالى في عتاب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ.. ﴾ [التوبة: 43].
والناصحُ حكيمٌ فليبدأ بالأهم فالأهم، وليتدرج حسبَ حالِ المنصوحِ، وعليه أن لا يتعرضَ للقصدِ والنياتِ.. وأن يرُكزِ على الحلولِ وتبيينِ الأسبابِ المقنعةِ.. وإذا أغنى التلميحُ فلا داعيَ للتصريح، فاللبيبُ بالإشارةِ يفهمُ.. ويَكفيِ مِنَ القِلادةِ مَا أحَاطَ بالعُنق.. وفي الحديث: "أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا الْحُدُودَ".. وأذا اُضطرَ الناصِحُ لذكر الخطأ, فلا ينسبنهُ للمخطئ، فلا يقل مثلًا: فعلُك هذا خطأ، وإنما ليقل: هذا الفعل ليس صوابًا.. قال أبو الدرداء رضي الله عنه لقومٍ يَسُبُّون رجلًا أذنب: "لا تَسُبّوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم، قالوا: أفلا تَبْغُضُه؟ قال: إنما أبغُضُ عَمَلَه، فإذا تركه فهو أخي".
ومن الحكمة ألا تُشعِرَ المنصوحَ أنَّك تنصحُهُ من علوٍ، وأنَّكَ أفضلَ مِنهُ، بل أشعِرْهُ أنَّك تتفهمُ موقِفهُ ودَوافِعهُ، وأنَّ التقصيرَ والخطأَ واردٌ من كلِّ أحدٍ، ومِن الحكمةِ ألا تُشعِرهُ بأنَّك تَفرِضُ عليه أمرًا، أو أنَّ نصيحتكَ على شرطِ القبولِ.. بل عليكَ أن تَعرِضَ رأيكَ عليه عرضًا اختياريًا.. فلا تقل: كان ينبغي عليك أن تفعل كذا، وإنما قُل: ما رأيك في أن تفعل َكذا.. أو أليس فعل كذا أفضلَ وأحسن..
فإن لانت لك القلوبُ وقُبِلت نصيحتُك فاسجد لمولاكَ شُكرًا، فهو الذي أعانَ ووفق.. وإن اصطدمت نصيحتُكَ بقلبٍ تمكنت منه شُبهةٌ فلا تيأسْ، وكرِّر النصيحةَ في وقتٍ آخر، ونوِّع الأسلوبَ، فمفاتيحُ القلوبِ بيدِ علامِ الغيوبِ.. وإن رُدَّت نصِيحتُك فلا تحزَن، فإنَّما أدَّيتَها عبادةً للهِ، وليسَ عليك إلا البلاغُ المبين، ﴿ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [هود: 115].
ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان..
اللهم صل..
اللّهمّ صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد
0 / 100
إقرأ المزيد :
الفئة: خطب إسلامية