محتويات المقال
نعيم القبر
مفهوم نعيم القبر
إن الله -تعالى- خلق الخلق في هذه الحياة ولم يجعلها لهم دوامًا أبديًا، وبقاءً سرمديًا؛ بل هي حلقة من سلسلة متصلة يتحول الخلق منها بالموت من حال إلى حال، وليست نهاية الدنيا عدمًا خالصًا؛ بل هي بداية لحياة أخرى أبدية حافلة بالأحداث الجسام، وأول مراحل تلك الحياة الأخرى هي: حياة القبر.
فيا ترى ما هو القبر؟ وهل فيه حياة حقًا؟ وليت شعري هل يجد المؤمنون فيه نعيمًا؟ وما هي أسباب تحصيل ذلك النعيم؟
كما أن هناك من يعذب في القبر ويعاني فيه ما يعاني من الآلام فإن هناك من ينعَّم فيه بأنواع النعيم الحقيقي الذي يناله العبد، وهو نعيم دائم لأهل الصلاح والتقوى، كما أن عذاب القبر دائم لأهل الكفر والضلال.
أدلة إثبات نعيم القبر وصوره
لقد تواترت الأدلة في إثبات هذه الحياة على اختلاف ما فيها من العذاب والنعيم، بل وجُعِل اعتقادها من ثوابت العقيدة الإسلاميّة التي ينبغي لكلّ مسلمٍ أن يؤمن بها كإيمانه بالجنة والنار وغيرهما من أمور الغيب التي أمرنا الله بالإيمان بها.
وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- صور لنعيم القبر:
فذكر أنه يُفرش للعبد المؤمن في قبره من فراش الجنة، ويُلبس من لباس الجنة، ويفتح له باب إلى الجنة، ليأتيهُ منْ نسيمها ورَوْحها، ويشم من طيبها وعبيرها، وتقرُّ عينهُ بما يرى فيها من النعيم، ويبشر برضوان الله وجنته، كما جاء عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال بعد أن ذكر إجابة المؤمن الصادقة في قبره على الملكين: "فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا"
وذكر أن العملَ الصالحَ يتمثَّلَ لصاحبه على صورة رجل حسن الثياب والهيئة، طَيِّب الرائحة والمعشر، حسن المجالسة والصحبة، كما جاء في حديث البراء -رضي الله عنه- أيضًا، أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال عن العبد المؤمن في قبره: "وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ"، فمن أكثر من العمل الصالح وجده بجانبه يؤنسة ويصاحبه، ومن كان عمله سيئاً وجده بجانبه يقض مضجعه، ويؤذيه.
وذكر -عليه الصلاة والسلام- سرور المؤمن برؤية مقعده من النار الذي أبدله الله به مقعداً من الجنة؛ كما جاء من حديث أبي سعيدٍ -رضي الله عنه- أنه شَهِد جنازة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فذكر ما يقع من فتنة للعبد عند سؤال الملكين له، ثم قال: "فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: صَدَقْتَ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ، فَيَقُولُ: هَذَا كَانَ مَنْزِلُكَ لَوْ كَفَرْتَ بِرَبِّكَ، فَأَمَّا إِذْ آمَنْتَ فَهَذَا مَنْزِلُكَ، فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ"، وأي نعيم يعادل أن يعرف الإنسان أنه قد نجا من النار، ويرى مقعده ومسكنه في الجنة؟!
وجاء من حديث أنس -رضي الله عنه- أنه يقال للعبد المؤمن بعد إجابته الصادقة لسؤال الملكين: "انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ، أَبدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَداً مِنْ الْجَنَّةِ، قَالَ -عليه الصلاة والسلام-: فَيَرَاهُمَا جَمِيْعًا"، أي يرى مقعده من النار، ويراها يأكل بعضها بعضاً، ثم يرى مقعده من الجنة؛ ليعلم فضل نعمة الله عليه بأن أنقذه من مقعده الذي في النار.
وهذه المشاهدة تتكرر على العبد في قبره كل يوم إلى يوم القيامة؛ كما جاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثُكَ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
وذكر -صلى الله عليه وسلم- أنه يُفسح للمؤمن في قبره الذي دخله وليس فيه متسع؛ لأن يتحول فيه إلى الجنب الآخر، وينور له فيه بعد أن كان ظلمة لا يرى فيها يده إن أخرجها؛ كما جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الملكين يقولان للعبد المؤمن بعد أن يجيب إجابة سديدة عن أسئلتهما: "قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُوْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعاً فِيْ سَبْعِيْنَ، ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيْهِ، وجاء من حديث البراء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، وينور له فيه".
وذكر -عليه الصلاة والسلام- أن المؤمن ينام فيه نومة العروس الذي لا ينغصه فيها شيء، يحس فيها براحته واطمئنانه، فقد جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه يقال للمؤمن: "نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِي لا يُوقِظُهُ إِلا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ"، وفي هذا الحديث يتجلى لنا جمال التعبير، ورقة التصوير، فاختيار نومة العروس إنما هو لأن العروس يكون في ليلة عرسه فرحًا مسرورًا، طَيِّبَ العيش هانئًا، فإذا نام نام آمنًا مطمئنًا، فإذا انفلق الفجر غداة ليلة زفافه أتى إليه أحب أهله إليه، وأعطفهم عليه، وأرأفهم به، وأقربهم إلى قلبه، فيوقظه بالرفق واللطف، وذلك لتعظيمه وعزته على أهله.
تلك بعض صور نعيم القبر التي أخبرنا بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكم أن تتصوروا كيف يكون حال المؤمن في قبره وهو يشاهد ما أعده الله له في الجنة من النعيم؟! وكيف يكون انتظاره وصبره واشتياقه ولوعته، وهو يعاين تلك المشاهد النَّظِرة، والرياض الْمُنْتَظِرَة؟! ولذلك ثبت في حديث البراء -رضي الله عنه- أن المؤمن إذا رأى ذلك تمنى قيام الساعة؛ استعجالًا ليصل إلى ما أعده الله له فيقول: "رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ".
حري بنا أن نحذر الغفلة عن تلك القبور قبل فوات الأوان، وقبل الارتحال إليها؛ فإنه والله ليس للعبد فيها إلا ما شيده وبناه، وقدمه وأسداه، فمن رام فيه النعيم عمل بما يرضي مولاه، وإلا فقد استبدل النعيم بالعذاب الأليم، واستبدل الباب الذي يُفتح له إلى الجنة بباب يفتح له إلى النار، فإن القبر دار يسكنها الإنسان في مرحلة بين الدنيا والآخرة، وفيها ينعم إن مؤمناً، أو يعذب إن كان مجرماً.
أسباب نعيم القبر
إن النعيم الذي يلاقيه العبد في قبره إنما هو حصيلة أعمال عملها، وأسباب اتصل بها؛ فمن أراد أن يكون من المنعمين في قبورهم فليلزم منهجهم، وليسلك طريقهم، ومن رام الوصول لشيء سلك أسبابه الموصلة إليه، وهاكم بعض أسباب نعيم القبر:
أولها: الإيمان، والإكثار من العمل الصالح، والاستقامة على طاعة الله، والمحافظة على الفرائض، وإتباعها بالنوافل، فقد جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الْمَيِّتَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَانَتِ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَكَانَ الصِّيَامُ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَتِ الزَّكَاةُ عَنْ شِمَالِهِ، وَكَانَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَتَقُولُ الصَّلَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُولُ الصِّيَامُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَسَارِهِ، فَتَقُولُ الزَّكَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، فَتَقُولُ فَعَلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ..."
ومن تلك الأسباب: الشهادة في سبيل الله؛ فقد ورد في حديث المقداد بن معدي كرب -رضي الله عنه- أن للشهيد خصالًا يتميز بها عن غيره، منها قوله -عليه الصلاة والسلام-: "وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ"
ومنها: الرباط في سبيل الله، كما جاء في حديث فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ -رضي الله عنه-: "كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَإِنَّهُ يَنْمُو عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَأْمَنُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ"
ومن أسباب الفوز بنعيم القبر: دعاء العبد ربه أن يجيره من عذاب القبر، والاستعاذة منه في صلاته، فقد كان من سنّة النّبي -صلى الله عليه وسلم- الاستعاذة من عذاب القبر قبل السّلام من صلاته، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ، يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"
فإذا أجير من عذاب القبر فإنه سيتنعم فيه لا محالة، وسيجد فيه الفسحة والنور، والبهجة والسرور.
فالواجب عليك يا عبدالله أن تتزود بالصالحات؛ لتنال رضا رب البريات، وتنجو من الحسرات، وتنعم في قبرك بتلك الروضات، واستمع إلى وصية رابع الخلفاء علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وأرضاه حيث يقول:
تزود من حياتك للمعاد
وقم لله واحمل خير زاد
أترضى أن تكون رفيق قوم
لهم زاد وأنت بغير زاد
المصدر :