الرُّؤَى والأحلام في ضَوْءِ الكتابِ والسُّنةِ

الرُّؤَى والأحلام في ضَوْءِ الكتابِ والسُّنةِ

الرُّؤَى والأحلام في ضَوْءِ الكتابِ والسُّنةِ


الحمدُ للهِ العليِّ العظيمِ القادرِ، ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ﴾ [الحديد: 3]، خَلَقَ فقدَّرَ، ودبَّر فَيَسَّرَ، فكُلُّ عبْدٍ إلى ما قدَّره عليه وقَضَاه صائر، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له، ولا وَلَدَ ولا مُظاهر، وأشهدُ أنَّ مُحمداً عبدُه ورسولُه صاحبُ الآيات والمعجزات والبصائر، اللهمَّ صلِّ على عبدكَ ورسولكَ محمدٍ وعلى آله وأصحابهِ، ومَن على سبيلهِ إلى الله سائر، وسلِّم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واحْمَدُوه واشكُرُوه على نِعمَتهِ بإكمالِ الدِّينِ، وإقامةِ رسولِه محمدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الْحُجَّة، وإيضاحهِ الْمَحَجَّة، وتبليغهِ عن اللهِ ما أَمَرَهُ بتبليغهِ، وكان مما بلَّغَهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قولُهُ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إنهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ ‌مُبَشِّراتِ ‌النُّبُوَّةِ إلاَّ الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أوْ تُرَى لَهُ» رواهُ مُسلمٌ، وبيَّنَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حقيقَتَها أَتَمَّ البيانِ، فجاءَ عنهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أحاديثُ كثيرةٌ في الرُّؤى، بعضُها في تعظيمِ شأن الرُّؤيا الصالحةِ، وأنها مِن مُبَشِّراتِ النُّبوَّةِ، فقالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ ‌مِنْ ‌سِتَّةٍ ‌وأَرْبَعِينَ جُزْءَاً مِنَ النُّبُوَّةِ» متفقٌ عليهِ، وبعضُها في رُؤْيَا الأنبياءِ عليهم السلام وأنها وَحْيٌّ، وهيَ أولُ مَبْدأ الوحي للأنبياءِ عليهم السلام، وبعضُها في رُؤيتهِ عليه الصلاةُ والسلامُ لِرَبِّهِ تَبَارَكَ وتَعَالى في الْمَنَامِ، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «إنِّي قُمْتُ مِنَ اللَّيْلِ فَتَوَضَّأْتُ، فَصَلَّيْتُ مَا قُدِّرَ لِي فَنَعَسْتُ فِي صَلاتِي فَاسْتَثْقَلْتُ، فإذا أَنَا برَبِّي تَبَارَكَ وتَعَالى في أَحْسَنِ صُورَةٍ» رواه الترمذيُّ، وقال الإمام البخاري: (حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ)، وبعضُها في أنواعِ الرُّؤَى التي مِنَ اللهِ، والتي مِن أحاديثِ النفسِ ومِنَ الشيطانِ، وبعضها في رُؤْيَتهِ عليه الصلاة والسلام في الْمَنَام، وأنها حقٌّ، وأنَّ الشيطانَ لا يَتَمثَّلُ به في الْمَنَامِ، وبعضُها في ذِكْرِ الرُّؤى الظاهرة التي لا تحتاجُ إلى تأويلٍ، وبعضُها في الرُّؤى التي تحتاجُ إلى تأويلٍ، وبعضُها في الآدابِ التي يَتَأَدَّبُ بها المسلمُ إذا رأى ما يُحبُّ، وإذا رأى ما يكره، وعِظَمُ إثمِ الكذب في الرُّؤْيا، وهل الرُّؤيا إذا عُبِّرَت وَقَعَت؟ والآداب المتعلقة بالْمُعبِّر، وغيرها من الآداب والأحكام المتعلقة بالرُّؤى.

عباد الله:

لقد اهتمَّ كِتابُ ربِّنا بالرُّؤيا الصالحة، وخاصة رؤى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما في سُوَرِ الأنفالِ ويونسَ ويوسفَ والصافاتِ والفتح وغيرها من الآيات، وكذلك اهتمَّت سُنَّةُ نبيِّنا صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بالرُّؤى، فلا تجدُ كتاباً مِن كُتُب الحديثِ إلا وفيه بابٌ أو كِتابٌ للرُّؤى والتعبير.

عباد الله:

إن الرُّؤى لها أهميةٌ في حياةِ الناس، لكثرةِ وُقوعها، وانشغال بعضهم بها، بين غُلُوٍّ وتفريطٍ وإفراطٍ، حتى إن بعضَ المُغرضين يَستغلُّون اهتمام الناس بالرُّؤى فينشُرون باطلهم مِن هذا الباب، كما في الرؤيا المكذوبة باسم رؤيا أحمد خادم الحجرة النبوية، وتكذيب العلماء لها.

إنَّ الرُّؤى والأحلام في اللغةِ بمعنى واحد، وهو ما يَراه الإنسانُ في مَنَامهِ، أمَّا في الشرع: فكَمَا قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «الرُّؤْيَا ‌الصَّادِقَةُ ‌مِنَ ‌اللهِ، والْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ» رواه البخاري.

إنَّ الرُّؤى عندَنا أهل السنة والجماعةِ عبارةٌ عن أمثالٍ مَضْرُوبةٍ للرائي، خلافًا لِمن شذَّ مِن المعتزلةِ أو الفلاسفة، فالمعتزلةُ تجعلُ الرُّؤيا كلُّها خيالاتٌ باطلة، وقالت الفلاسفة إنها بسبب الأخلاط، وكلا القولين خلافٌ لِمَا دلَّ عليه القرآنُ والسُّنة، قال ابنُ عبد البر: (ولا يُنكرُ الرُّؤيا إلاَّ أهلُ الإلحادِ، وشِرْذمةٌ مِن المعتزلةِ) انتهى.

إنَّ النُّصوصَ الشرعية دلَّت على أنَّ الرُّؤى تنقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «إنَّ ‌الرُّؤْيَا ‌ثلاثٌ: مِنها أَهَاوِيلُ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ بها ابْنَ آدَمَ، ومِنها ما يَهُمُّ بهِ الرَّجُلُ في يَقَظَتِهِ، فَيَرَاهُ في مَنَامِهِ، ومِنها جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وأربعينَ جُزْءَاً مِنَ النُّبُوَّةِ» رواهُ ابنُ ماجه وصحَّحهُ البُوصيري.

إنَّ الرُّؤيا الصالحةِ وُصِفَت بصفاتٍ عِدَّة، منها: كَوْنُها مِن اللهِ، وكونها مما يُحبُّ الْمَرءُ وتُعجبه، وكونُها مِن الْمُبشِّرات، وكونها صادقة، وكونها صالحة، وكونها جُزءاً مِن أجزاء النبوَّةِ، وكونها حَسَنة، وكونها حقَّاً.

إنَّ صلاح الرُّؤيا يَرْجع إلى صلاح ظاهرها، أو صلاح تعبيرها، وكذا الرُّؤيا المكروهةِ يَرجع إلى ظاهرها، أو إلى تعبيرها، ومُخالفةُ الرُّؤيا للشرعِ دليلٌ على فسادها وبُطلانها، وكونها من الشيطان، والقَطْعُ بكون الرُّؤيا صالحةً لا سَبيلَ إليهِ، وإنما ذلك على سَبيلِ غَلَبةِ الظنِّ، ولكنْ هُناك علاماتٌ تُفيد غَلَبَةَ الظنِّ بكونِ الرُّؤيا صالحة ومِن ذلكَ: التواطؤُ عليها، كأن يَرَاها أُناس، وكونُها مِن الْمُبشِّرات، ومِن ذلك ما رواه عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قالَ: (سَأَلْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عنْ قَوْلِهِ: «لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»؟ قالَ: «هِيَ ‌الرُّؤْيَا ‌الصَّالِحَةُ ‌يَرَاهَا ‌المُؤْمِنُ أَوْ تُرَى لَهُ» رواه الترمذيُّ وصحَّحه الألباني، وكونها مِن أهلِ الصِّدقِ والصلاحِ، ودلَّت النصوصُ الشرعية على أسبابٍ يَستطيعُ المسلم بها أنْ يَتَحرَّى الرؤيا الصالحة، فمِن ذلك: تحقيق ‌وِلاية الله سُبحانه، وتحرِّي الصِّدْقَ في الحديثِ، والتحرُّز مِن الشيطانِ، قال ابنُ عبد البر رحمه الله: (فَمَنْ خَلَصَتْ لَهُ نِيَّتُهُ في عِبَادَةِ رَبِّهِ ويَقِينِهِ وصِدْقِ حَدِيثِهِ ‌كانتْ ‌رُؤْيَاهُ ‌أَصْدَقَ، وإلى النُّبوَّةِ أَقْرَب) انتهى.

أما بعد:

إنَّ الناسَ في الرُّؤى يَنقسمون إلى ثلاثةِ أقسامٍ: مَن رُؤياهُم كُلُّها صِدْقٌ وحَقٌّ وهُمُ الأنبياءُ عليهم السلام، ومَنِ الغالبُ على رُؤياهم الصِّدق وهم الصالحون، ومَن الغالبُ على رُؤياهم الأضغاث وهُم عَدَا الأنبياء والصالحين.

عباد الله:

إنَّ الأحاديث جاءَت مُتواترةً في كَوْنِ الرُّؤيا الصالحة جُزءَاً مِن أجزاءِ النبوَّةِ، والمعنى: تشبيهُ الرُّؤيا بالنُّبوَّةِ في صِدْقِها، أو أنها عَلَمٌ مِن أعلامِ النُّبوَّةِ باقٍ والنُّبوَّةُ غيرُ باقيةٍ، كَمَا يُقالُ في الهديِ الصالحِ والسَّمْتِ الصالحِ مِن أجزاءِ النُّبوَّةِ، وكَمَا يُقالُ في إماطةِ الأذى مِن شُعَبِ الإيمان.

وليُعْلَمْ أنَّ الرُّؤيا الصالحة لا يَسَوغُ العَمَلُ بها، إلاَّ إذا وافَقَت نصَّاً شرعيَّاً، فالعبرةُ بالنصِّ لا بالرُّؤيا، وإنَّ المؤمن قد يَرَى رَبَّه تباركَ وتعالى في الْمَنَامِ بحَسَبِ إيمانهِ، وليسَ في ذلكَ نقْصٌ ولا عَيْبٌ؛ لأنَّ اللهَ ليسَ كَمِثلِهِ شيءٌ، كَمَا بَسَطَ هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ورُؤيةُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في المنامِ تكونُ حَقَّاً وصِدْقَاً إذا كانت على صُورتهِ المعروفةِ، والقولُ بإمكانِ رُؤيتهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بعدَ مَوْتهِ يَقَظَةً في الحياةِ الدُّنيا باطلٌ شَرْعَاً وعَقْلاً، وليُحذر مِن الكَذِبِ في الرُّؤيا فهو كبيرةٌ مِن كبائر الذنوب، لأنهُ كَذِبٌ على اللهِ أنه أَرَاهُ ولَمْ يُرِه، وقد جاءَ الوعيدُ الْمُغلَّظُ في ذلكَ: قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «إنَّ مِنْ ‌أَفْرَى ‌الفِرَى أنْ يُرِيَ عَيْنَيْهِ ما لَمْ تَرَ، وقال: مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لمْ يَرَهُ كُلِّفَ أنْ ‌يَعْقِدَ ‌بينَ ‌شَعِيرَتَيْنِ». رواهُما البخاري.

إنَّ تأويلَ الرُّؤيا مَبْنيٌّ على القياسِ والمشابهةِ بينَ الرُّؤيا وتأويلها، كما بَسَطَ ذلكَ شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهم، ويُشترطُ في الْمُعبِّرِ للرُّؤيا العلم بكتابِ اللهِ وسُنةِ رسولهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، والرُّؤيا إذا عُبِّرَت وَقَعَت، وذلكَ مَشْرُوطٌ بما إذا أَصَابَ الْمُعبِّر وجهَ التعبيرِ، وقد قيل في ذلكَ أنه مِن بابِ التفاؤلِ، وقد جاءت الأحاديثُ الكثيرةُ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في تأويلِ الرُّؤيا، وأنه كان كثيراً ما يَسألُ أصحابَهُ عن رُؤياهم، وجاءت الأحاديثُ الكثيرةُ في بيان الرُّؤيا وآداب مَن رأى رُؤيا يُحبُّها: بأنْ يَحْمَدَ اللهَ عليها، وأنْ يَسْتبشرَ بها، وألاَّ يُخبرَ بها إلا مَن يُحبُّ، وكذلك جاءت الأحاديث في بيان آداب مَن رأى رُؤْيا يكرهها: وذلكَ بأنْ يَستعيذ باللهِ مِن الشيطان الرجيم ثلاثاً، وأنْ يَستعيذ باللهِ مِن شرِّها، وأنْ يتفل عن يساره ثلاثاً، وأنْ يقومَ فيُصلِّي، وأنْ يَتَحوَّلَ عن جنبهِ الذي كانَ عليهِ إلى الجنبِ الآخر، وألاَّ يُخبرَ بها أَحَداً فإنها لا تَضُرّهُ.

لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية