الإسلام دين الإنسانية والسلام

الإسلام دين الإنسانية والسلام

الإسلام دين الإنسانية والسلام


رسالة الإسلام بمجموعها رسالة إنسانية


إن الرسالة المحمدية بمجموعها رسالة إنسانية؛ فقد جاءت لتراعي إنسانية الإنسان فيما تأمر به أو تنهى عنه؛ وإذا نظرنا إلى المصدر الأول للإسلام؛ وهو القرآن كتاب الله، وتدبرنا آياته، وتأملنا موضوعاته واهتماماته، نستطيع أن نصفه بأنَّه: "كتاب الإنسان"؛ فالقرآن كله إما حديث إلى الإنسان، أو حديث عن الإنسان؛ ولو تدبرنا آيات القرآن كذلك لوجدنا أنّ كلمة "الإنسان" تكررت في القرآن ثلاثًا وستين مرةً، فضلًا عن ذكره بألفاظ أخرى مثل: "بني آدم"، التي ذكرت ست مرات، وكلمة "الناس" التي تكررت مائتين وأربعين مرة في مكيِّ القرآنِ ومدنيِّه؛ وكلمة (العالمين) وردت أكثر من سبعين مرَّة؛ والحاصل أن إنسانية الإسلام تبدو من خلال حرص الشريعة الإسلامية وتأكيدها على مجموعة من القضايا المهمة.

امثلة وشواهد على إنسانية رسالة الإسلام


ولعل من أبرز الدلائل على ذلك أنّ أول ما نزل من آيات القرآن على رسول الإسلام محمد -صلى الله عليه وسلم- خمسُ آيات من سورة "العلق" ذكرت كلمة "الإنسان" في اثنتين منها، ومضمونها كلها العناية بأمر الإنسان. قال تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾[العلق: 1-5].

وإذا نظرنا إلى الشخص الذي جسَّد اللهُ فيه الإسلامَ، وجعله مثالًا حيًّا لتعاليمه وقِيَمه الإنسانية، وكان خُلُقه القرآن، نستطيع أن نصفه بأنَّه: "الرسول الإنسان"؛ وإذا نظرتَ في الفقه الإسلامي وجدتَ "العبادات"، لا تأخذ إلا نحو الربع أو الثلث من مجموعه، والباقي يتعلق بأحوال الإنسان من أحوالٍ شخصية، ومعاملات، وجنايات، وعقوبات، وغيرها.

والعبادات كلها فيها معاني إنسانية سامية؛ فالزكاة المفروضة-مثلًا- ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب، بل فيها معانٍ إنسانية سامية؛ فهي غَرْس لمشاعر الحنان والرأفة، وتوطيد لعلاقات التعارف والأُلفة بين شتى الطبقات، وقد نص القرآن على الغاية من إخراج الزكاة بقوله: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾[التوبة: 103].

وفي الصيام نعلم أن رمضان هو شهر الأخلاق ومدرستها، فهو شهر الصبر، وشهر الصدق، وشهر البِرِّ، وشهر الكرم، وشهر الصلة، وشهر الرحمة، وشهر الصفح، وشهر الحِلْم، وشهر المراقبة، وشهر التقوى، وكل هذه أخلاق إنسانية يغرسها الصومُ في نفوس الصائمين، وذلك من خلال قوله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة: 183]، بكل ما تحمله كلمة التقوى من دلالات ومعان إيمانية وأخلاقية وإنسانية.

وشعيرة الحج مدرسة أخلاقية وإنسانية؛ فيجب على الحاجِّ اجتناب الرفث والفسوق والجدال والخصام في الحج، فضلًا عن غرس قِيَم الصبر وتحمُّل المشاقّ والمساواة بين الغني والفقير والتجرد من الأمراض الخلقية.

لقد ضرب لنا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة في القيم والمعاني الإنسانية والخلقية قبل البعثة وبعدها؛ وقد شهد له العَدُوُّ قبل القريب؛ ونحن نعلم قول السيدة خديجة فيه لما نزل عليه الوحي وجاء يرجف فؤاده: "كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ؛ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ؛ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ؛ وَتَقْرِي الضَّيْفَ؛ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ". ؛ بل إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- صاحب الرسالة المحمدية؛ كان مشهورا وملقَّبًا في قريش قبل البعثة بالصادق الأمين.

وأما بعد البعثة فقد شهد له ربُّه بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[القلم: 4]؛ ولقد شهدت له زوجُه عائشة -رضي الله عنها-؛ وهي ألصق الناس به، وأكثرهم وقوفًا على أفعاله في بيته، بأنه -صلى الله عليه وسلم-: "كان خلقه القرآن"، ؛ قال الإمام الشاطبى: "وإنما كان صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن لأنه حكَّم الوحيَ على نفسه حتى صار في عمله وعلمه على وَفْقِه، فكان للوحي موافقًا قائلًا مذعنًا ملبيًّا واقفًا عند حكمه". فكان صلى الله عليه وسلم قرآنًا يمشي على الأرض.

وﺭُﻭﻱ ﺃﻥ ﺃﻋﺮﺍﺑﻴًّﺎ ﻗﺎﻝ ﻟﺴﻴﺪﻧﺎ ﻋلي -رضي الله عنه-: "ﻋﺪِّﺩ ﻟﻨﺎ ﺃﺧﻼﻕ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ -صلى الله عليه وسلم-!!"، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ -رضي الله عنه-: "ﻫﻞ ﺗﻌﺮﻑ ﺍﻟﻌﺪّ؟ ﻗﺎﻝ: ﻧﻌﻢ! ﻓﻘﺎﻝ علي -رضي الله عنه-: ﻋُﺪَّ ﻟﻲ ﻣﺘﺎﻉ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ! ﻓﻘﺎﻝ ﺍﻷﻋﺮﺍﺑﻲ: ﻣﺘﺎﻉ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻻ ﻳُﻌَﺪُّ! ﻓﻘﺎﻝ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ -رضي الله عنه-: ﻋﺠﺰﺕَ ﻋﻦ ﻋﺪ ﺍﻟﻘﻠﻴﻞ! ﺇﺫ ﻳﻘﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ -تعالى-: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾[النساء: 77]، ﻭﻃﻠﺒﺖَ مني ﻋﺪَّ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ؛ حيث ﻳﻘﻮﻝ -تعالى-: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[القلم: 4]!!!!

وهكذا كانت الرسالة المحمدية رسالة إنسانية؛ والرسول -صلى الله عليه وسلم- رسول الإنسانية؛ وهذا ما يتضح من خلال هذه الصُّوَرِ والنماذج في عنصرنا التالي -إن شاء الله تعالى-.

الجوانب الإنسانية في الإسلام


للجوانب الإنسانية في الإسلام صُوَرٌ عديدة تشمل أفرادًا وأعمارًا وألوانًا مختلفة من ضِعاف المجتمع، وسوف نذكرها لنأخذ منها العبرة والعظة ونطبقها على أرض الواقع:

الإنسانية في التعامل مع الخدم والعبيد:

فعن أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "خَدَمْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ، وَلَا لِمَ صَنَعْتَ، وَلَا أَلَّا صَنَعْتَ"، وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-"؛ ولم تكن هذه الوصيةُ بالخدم والعبيد فترة معينة في حياته، أو عند ظروف مخصوصة، إنما ظل كذلك حتى لحظات موته الأخيرة، وكان من آخر وصاياه للمسلمين: "الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ"

الإنسانية في التعامل مع الأطفال والصبيان:

فقد كان -صلى الله عليه وسلم- رحيمًا بالأطفال: فعن أَبَي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ:" قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا، فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ: مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ"؛ وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضَعًا لَهُ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا فَكَانَ يَأْتِيهِ وَإِنَّ الْبَيْتَ لَيُدَّخَنُ فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ"

وعن عَبْد اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَقْبَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَعْثُرَانِ وَيَقُومَانِ، فَنَزَلَ فَأَخَذَهُمَا فَصَعِدَ بِهِمَا الْمِنْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: "صَدَقَ اللَّهُ: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾[التغابن: 15]، رَأَيْتُ هَذَيْنِ فَلَمْ أَصْبِرْ"، ثُمَّ أَخَذَ فِي الْخُطْبَةِ. ؛ وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن شَدَّادِ بن الْهَادِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فِي إِحْدَى صَلاتَيِ النَّهَارِ: الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ، وَهُوَ حَامِلٌ الْحَسَنَ أَوِ الْحُسَيْنَ، فَتَقَدَّمَ فَوَضَعَهُ عِنْدَ قَدَمِهِ الْيُمْنَى، فَسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَجْدَةً فَأَطَالَهَا، فَرَفَعْتُ رَأْسِيَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَاجِدٌ، وَإِذَا الْغُلامُ رَاكِبٌ ظَهْرَهُ، فَعُدْتُ فَسَجَدْتُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ نَاسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لَقَدْ سَجَدْتَ فِي صَلاتِكَ هَذِهِ سَجْدَةً مَا كُنْتَ تَسْجُدُهَا، أَشَيْئًا أُمِرْتَ بِهِ، أَوْ كَانَ يُوحَى إِلَيْكَ؟ قَالَ: "كُلٌّ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي، فَكَرِهْتُ أَنْ أُعْجِلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ". ؛ وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ " النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَؤُمُّ النَّاسَ، وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ؛ وَهِيَ ابْنَةُ زَيْنَبَ بِنْتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، عَلَى عَاتِقِهِ، فَإِذَا رَكَعَ، وَضَعَهَا، وَإِذَا رَفَعَ مِنَ السُّجُودِ، أَعَادَهَا"

الإنسانية في التعامل مع الضعفاء ولين الجانب لهم:

فعَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا رَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وسَلَّمَ- مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ، قَالَ: أَلا تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ؟ قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللهِ، بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ، تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ، فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا، ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا، فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ -يَا غُدَرُ- إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ، وَجَمَعَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَتَكَلَّمَتِ الأَيْدِي وَالأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا. قَالَ: يَقُولُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وسَلَّمَ-: صَدَقَتْ، صَدَقَتْ، كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ؟

وعَنْ سَعْدٍ قَالَ: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سِتَّةَ نَفَرٍ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اطْرُدْ هَؤُلَاءِ لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا، قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَبِلَالٌ وَرَجُلَانِ لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾[الْأَنْعَامِ: 52]"

الإنسانية في التعامل مع الأَسْرَى:

فقد تجلَّت مظاهر الإنسانية في تعامل رسول الله مع الأسرى؛ فعن علِيٍّ قال: لَمَّا أَتَى بِسَبَايَا طَيئ وَقَفَتْ جَارِيَةٌ حَمْرَاءُ لَعْسَاءُ ذَلْفَاءُ عَيْطَاءُ، شَمَّاءُ الأَنْفِ، مُعْتَدِلَةُ الْقَامَةِ وَالْهَامَةِ، دَرْمَاءُ الْعَيْنِ، خَدِلَةُ السَّاقَيْنِ، لَفَّاءُ الْفَخِذَيْنِ، خَمِيصَةُ الْخَصْرَيْنِ، ضَامِرَةُ الْكَشْحَيْنِ، مَصْقُولَةُ الْمَتْنَيْنِ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهَا أُعْجِبْتُ بِهَا وَقُلْتُ: لأَطْلِبَنَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجْعَلَهَا فِي فَيْئِي، فَلَمَّا تَكَلَّمَتْ أُنْسِيتُ جَمَالَهَا لِمَا رَأَيْتُ مِنَ فَصَاحَتِهَا، فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُخَلِّيَ عَنَّا وَلا تُشْمِتْ بِي أَحْيَاءَ الْعَرَبِ فَإِنِّي ابْنَةُ سَيِّدِ قَوْمِي، وَإِنَّ أَبِي كَانَ يَحْمِي الذِّمَارَ وَيَفُكُّ الْعَانِيَ، وَيُشْبِعُ الْجَائِعَ، وَيَكْسُو الْعَارِي، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَيُفْشِي السَّلامَ، وَلا يَرُدُّ طَالِبَ حَاجَةٍ قَطُّ، أَنَا ابْنَةُ حَاتِمِ طَيئ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا جَارِيَةُ، هَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا، لَوْ كَانَ أَبُوكِ مُسْلِمًا لَتَرَحَّمْنَا عَلَيْهِ، خَلُّوا عَنْهَا فَإِنَّ أَبَاهَا كَانَ يُحِبُّ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ"، فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ دِينَارٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يُحِبُّ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ إِلا بِحُسْنِ الْخُلُقِ"

وروى أنها جُعِلَت في حظيرة بباب المسجد، فمرَّ بها رسول الله؛ فقامت إليه، وكانت امرأةً جَزْلة ؛ فقالت: يا رسول الله، هَلَكَ الوالدُ، وغاب الوافدُ، فامْنُنْ علَيَّ مَنَّ الله عليك... فقال رسول الله: "قَدْ فَعَلْتُ، فَلا تَعْجَلِي بِخُرُوجٍ حَتَّى تَجِدِي مِنْ قَوْمِكِ مَنْ يَكُونُ لَهُ ثِقَةً حَتَّى يُبَلِّغَكِ إلَى بِلادِكِ، ثُمَّ آذِنِينِي". تقول ابنة حاتم الطائي: وأقمْتُ حتى قَدِمَ رَكْبٌ من بَلِيٍّ أو قضاعة، وإنما أُرِيد أن آتي أخي بالشام، فجئتُ فقلتُ: يا رسول الله، قد قَدِمَ رهطٌ من قومي لي فيهم ثقةٌ وبلاغٌ. قالت: فكساني، وحَمَلَني، وأعطاني نفقة، فخرجتُ معهم حتى قَدِمْتُ الشام"؛ وهنا وقفة مع هذا الموقف العظيم؛ نرى فيه -بوضوح- هذا التعامل الإنساني الرحيم من رسول الله مع هذه الأسيرة؛ حيث لم يَرْضَ لها أن تخرج منفردةً وحيدةً، بل طلب منها ألاّ تتعجَّل بالخروج حتى تجد من قومها مَنْ يكون ثقة فتسير معه. وكان صلى الله عليه وسلم يدفع الأسير إلى بعض صحبه ويقول: "أحسن إليه"، فيؤثر على نفسه وأهله إمعانًا في العمل بوصية رسول الله، وأملا في دخوله ضمن أبرار عباد الله، وهذا معنى قوله -تعالى-: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾[الإنسان: 8-9].

وعاتَبَ جُندَه على قتل رجل مشرك رحمةً بامرأة تحبه، فقد روى الطبراني في الأوسط بسند حسن: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ سريةً فغنموا، وأخذوا رجلا منهم، فقال: إني لستُ منهم، إني عشقتُ امرأةً فلحقتها، فدعوني أنظر إليها ثم اصنعوا ما بدا لكم، فلما رآها قال: أسلمي حُبَيْش قبل نفاد العيش. قالت: نَعَمْ فدَيْتُكَ. ثم قدموه وضربوا عنقه. فوقعت عليه وشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت حَزَنًا، فلما قَدِمُوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخبروه بما جرى فقال: "أما كان فيكم رجل رحيم؟!!".

الإنسانية في إقامة الحدود:

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-:" أُتِيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ قَالَ: اضْرِبُوهُ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ؛ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ. قَالَ: لَا تَقُولُوا هَكَذَا لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ"

الإنسانية في التعامل مع النساء:

فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دائم الوصية بالنساء، وكان يقول لأصحابه: "اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا"، بل إن هناك ما هو أعجب من ذلك؛ وهو رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالإِمَاء، وهُنَّ الرقيق من النساء، فقد روى أنس بن مالك قال: "إِنْ كَانَتِ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ!"

إننا نتحدى العالم أجمع أن يأتي لنا بموقف من حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آذى فيه امرأة أو شقَّ عليها، سواءً من زوجاته أو من نساء المسلمين، بل من نساء المشركين.. وأحيانًا تُخطئ زوجته خطأً كبيرًا، ويكون هذا الخطأ أمام الناس، وقد يسبب ذلك الإحراجَ له -صلى الله عليه وسلم-، ومع ذلك -فمن رحمته وإنسانيته- يُقدِّر موقِفَها، ويرحم ضَعْفها، ويعذر غيرتها، ولا ينفعل أو يتجاوز، إنما يتساهل ويعفو... فقد روى أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان عِنْدَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلَتْ أُخْرَى بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ فَضَرَبَتْ يَدَ الرَّسُولِ فَسَقَطَتِ الْقَصْعَةُ فَانْكَسَرَتْ، فَأَخَذ َصلى الله عليه وسلم الْكِسْرَتَيْنِ فَضَمَّ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى فَجَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ، وَيَقُولُ: "غَارَتْ أُمُّكُمْ، كُلُّوا"، فَأَكَلوا، فَأَمْسَكَ حَتَّى جَاءَتْ بِقَصْعَتِهَا الَّتِي فِي بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الرَّسُولِ وَتَرَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْهَا. لقد أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا الموقف ببساطة، وجمع الطعام من على الأرض، وقال لضيوفه: "كُلُوا"، وعلل غضب زوجته بالغَيْرة، ولم ينس أن يرفع قدرها، فقال "غارت أمكم"، أي أم المؤمنين!! فأي إنسانية وأي رحمة هذه التي كانت في قلبه -صلى الله عليه وسلم-!! قارِنْ بينَ ذلك وبين ما يحدث في البيوت وغيرة النساء!!

الإنسانية في التعامل مع الحيوان:

فقد تجاوزت إنسانيته -صلى الله عليه وسلم- ذلك كله إلى الحيوان والبهيمة؛ فيروي عبد الله بن جعفر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل حائطًا لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلما رأى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه -صلى الله عليه وسلم- فمسح ظفراه فسكت، فقال صلى الله عليه وسلم: "مَن رَبُّ هذا الجَمَلِ؟ لمن هذا الجمل؟"، فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال له: "أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا؛ فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ ‏‏وَتُدْئِبُهُ"

وقد مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ فَقَالَ: "اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً وَكُلُّوهَا صَالِحَةً"، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُّ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ"، وفي المقابل: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ"، و"المُوقُ: الخف". وَ "يُطِيفُ: يدور حول"، "رَكِيَّةٍ: البئر". بشربة ماء غفرت ذنوبها، وبشربة ماء سترت عيوبها، وبشربة ماء رضي عنها ربها، بل بشربة ماء غفر الله الخطايا للبغايا فكيف بمن يرحم عباد رب البرايا؟!!

وتتجاوز رحمته البهائم إلى الطيور الصغيرة التي لا يَنتفع بها الإنسانُ كنفعه بالبهائم، ولننظر إلى رحمته بعصفور! حيث يقول رسول الله: "مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا‏ عَجَّ‏ ‏إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: يَا رَبِّ، إِنَّ فُلانًا قَتَلَنِي عَبَثًا، وَلَمْ يَقْتُلْنِي لِمَنْفَعَةٍ"

الإنسانية في التعامل مع كبار السن:

فقد جاء أبو بكر بأبيه عامَ الفتح، يقوده نحوَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورأسه كالثَّغامة بياضا من شدة الشيب، فرحم النبي -صلى الله عليه وسلم- شيخوختَه وقال: "هلَّا تركتَ الشيخَ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: هو أحق أن يمشي إليك يا رسول الله من أن تمشي إليه"، وهو القائل -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا"

الإنسانية في التعامل مع الكفار:

فالإنسانية في الإسلام لم تقتصر على المسلمين فحسب؛ بل تعدت لتشمل الكفار كذلك، فعندما قيل له -صلى الله عليه وسلم- ادْعُ على المشركين، قال: "إني لم أُبعث لعَّانًا، وإنما بُعثت رحمةً"، وقال في أهل مكة -لما جاءه مَلَكُ الجبال ليأمره بما شاء-: "بل أرجو أن يُخرج اللهُ من أصلابهم مَن يَعبد اللهَ وحده لا يشرك به شيئا"، ولمَّا أُصيب في أُحُد قال له الصحابة الكرام: "ادع على المشركين"، فقال: "اللهم اهْدِ قَوْمي؛ فإنهم لا يعلمون"

الإنسانية في التعامل مع المخطئ:

فعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَامَ أعرَابِيٌّ فَبَالَ في الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "دَعُوهُ وَهَرِيْقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، أوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَم تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ" وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَا ثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي، لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ، وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ، لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ"
هذا غيضٌ مِن فيض من صُوَر ونماذج الإنسانية في الإسلام؛ وما أغفلناه أكثرُ ممَّا ذكرناه، ويكفي القلادةُ ما أحاط بالعنق!!!

إن من ينظر إلى الواقع الأليم يجد انحدارًا ملحوظًا في المعاني الإنسانية التي تربي عليها آباؤنا وأجدادنا؛ ولذلك حينما تجلس مع أحدٍ من كبار السن تجد هذه المعاني متأصلة فيهم؛ وتجدها في سُلَّم الانحدار فيمن بعدَهم من شباب الموضة والمظاهر الخداعة؛ وفي ذلك يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "أتى على الناس زمان كان الرجل يدخل السوق ويقول: مَن ترون لي أن أعامل من الناس؟ فيقال له: عامِلْ مَن شِئْتَ. ثم أتى زمان آخر كانوا يقولون: عامل من شئت إلا فلانًا وفلانًا، ثم أتى زمان آخَر فكان يقال: لا تعامل أحدًا إلا فلانًا وفلانًا، وأخشى أن يأتي زمان يذهب هذا أيضًا". وكأنه قد كان الذي كان يحذر أن يكون، فإنا لله وإنا إليه راجعون"

وما أحوج الأمة الإسلامية إلى تطبيق المعاني الإنسانية التي تربى عليها الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- أجمعين؛ هذه الإنسانية جعلت الواحد منهم يقضي وقته كله من أجل احترام إنسانية الإنسان الذي أمامَه؛ مهما كان موضع كلٍّ منهما؛ فهذه خولة بنت ثعلبة ذاتَ يوم مرت بعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أيام خلافته، وكان خارجًا من المنزل، فاستوقفته طويلًا ووعظته قائلةً له: يا عمرُ، كنتَ تُدعى عميرا، ثم قيل لك عمر، ثم قيل لك: يا أمير المؤمنين، فاتّق الله يا عمر... فإن من أيقن بالموت خاف الفوتَ، ومَن أيقن بالحساب خاف العذابَ... وعمر -رضي الله عنه- واقف يسمع كلامها بخشوع، فقيل له: يا أمير المؤمنين، أتقف لهذه العجوز هذا الوقوفَ كُلَّه؟!! فقال عمر: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلتُ "إلا للصلاة المكتوبة"، ثم سألهم: أتدرون مَنْ هذه العجوز؟ قالوا: لا. قال رضي الله عنه: هي التي قد سمع الله قولَها من فوق سبع سماوات.. أفيسمع ربُّ العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟!!" -رضي الله عنه وأرضاه- . فأين نحن من هذه المعاني الإنسانية؟!

مت أحوجَ الأُمَّةَ إلى القيم الإنسانية، ولا سيما مع الضعفاء وذوي الاحتياجات؛ وذلك بأن نقضي حاجتهم ونرفق بهم، فعن أنس -رضي الله عنه-: أن امرأة كان في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة! فَقَالَ: "يَا أُمَّ فُلانٍ! انظري أَيّ السّكَكِ شِئْتِ، حَتّىَ أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ"، فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا. . وهذا من حِلْمِه وتواضعه -صلى الله عليه وسلم- وصبره على قضاء حوائج ذوي الاحتياجات الخاصة، وفي هذا خير كثير وبركة عظيمة للأمة بوجود هؤلاء الضعفاء؛ بل إن وجود الضعفاء في المجتمع سببٌ لرفع الضر والعذاب عنا، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: "لَوْلا شُيُوخٌ رُكَّعٌ، وَشَبَابٌ خُشَّعٌ، وَأَطْفَالٌ رُضَّعٌ، وَبَهَائِمُ رُتَّعٌ، لَصَبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابَ صَبًّا"

إننا نحتاج إلى أن نربي إنسانا بمعنى الكلمة؛ نحتاج إلى زرع إنسانٍ يبقى أثرُه مئات السنين؛ كما قال أحدُهُم: إذا أدرتَ أن تزرع لِسَنَةٍ فازرع قمحا؛ وإذا أردتَ أن تزرع لعشر سنوات فازرع شجرة؛ أما إذا أردتَ أن تزرع لمئة سنة فازرع إنسانا!!

فيجب أن لا تفقدوا الأمل في الإنسانية؛ لأنها محيط، وإذا ما كانت بضع قطرات من المحيط قذرة؛ فلا يصبح المحيط بأكمله قذرا!!

الحاجة إلى الإنسانية في التعامل مع الجميع


إننا نحتاج إلى إنسانية في التعامل مع الكبير؛ إنسانية في التعامل مع المُذْنِب؛ إنسانية في التعامل مع المخطئ؛ إنسانية في التعامل مع الحيوانات؛ إنسانية في التعامل مع النساء؛ إنسانية في التعامل مع غير المسلمين؛ إنسانية في تعامُل الطبيب مع المرضى؛ إنسانية في تعامل رَبِّ العمل مع عماله؛ إنسانيه في تعامُل الموظفين والمسئولين والإداريين مع الجماهير وقضاء حوائجهم؛ إنسانية في التعامل مع جميع فئات المجتمع مع اختلاف ثقافاتهم وبيئاتهم وأشكالهم وألوانهم ووظائفهم وأحوالهم؛ نحتاج أن نجسد الإنسانية من خلال شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم-، في التعامل مع الآخرين ونُسْقِطَها على أرض الواقع؛ فهو قدوتنا وأسوتنا؛ وهذا هو احتفالنا واحتفاؤنا به -صلى الله عليه وسلم-. ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[الأحزاب: 21].

ألا ما أحوج البشرية إلى هذه المعاني الإسلامية السامية، وما أشد افتقار الناس إلى التخلق بخُلُق الإنسانية التي تضمِّد جراح المنكوبين، والتي تواسي المستضعفين المغلوبين، ولا سيما في هذا العصر، الذي فقدت فيه الإنسانية من أكثر الخلق، فلا يسمع في هذا العصر لصرخات الأطفال، ولا لأنين الثكلى، ولا لحنين الشيوخ، ولا لكلمة الضعفاء، لا يُسمع فيه إلا للغة القوة، ومنطق القدرة، فإذا استحكم الظلام في النفوس، وطغى طوفان المادة الجافة آذنت الإنسانية بالرحيل، كما قال قائلهم: "إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئابُ"، و "إن لم تجهل يُجهل عليكَ"، و "إن لم تتغدَ بِزَيدٍ تعشَّى بك".

أحبتي عليكم بالإنسانية والرفق واللين والرحمة بجميع فئات المجتمع، الآباء والصبيان والأرامل والعجزة والأُجَراء وغير ذلك مما ذكرنا، إننا -إن فعلنا ذلك- تحقق فينا قولُه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"مسلم

لا تنس ذكر الله
سبحان الله والحمدلله ولا إله إلا الله والله أكبر
0 / 100

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية