توجيهات قرآنية لأمهات المؤمنين

توجيهات قرآنية لأمهات المؤمنين

توجيهات قرآنية لأمهات المؤمنين وللنساء المسلمات


الخطبة الأولى:


إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن مِن كمال هذا الدين الذي أعلى اللهُ شأنه، وعظَّم قدْرَه، وامتنَّ به على عباده - كما قال سبحانه: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]؛ أنه نظَّم شؤون الناس، وسَلَكَ بهم سبُل السلام، وهيَّأ لهم المعايش الكريمة، ونظَّم العلاقات فيما بينهم، فمهما التزم المجتمع بهذه التوجيهات الربانية، والأُطُر الأخلاقية الإسلامية سيجد الخير، ويتنامَى الفضل، ويُحِسن الناسُ بعضُهم إلى بعض، وتنكفُّ الشرور والأضرار عنهم.

ذلك أيها الإخوة الكرام؛ أنَّ هذه المجتمعات البشرية لا بد لها من تنظيمٍ قائم على العدل، وعلى ملاحظة ما ينبغي أن يكون من العواقب الحميدة، التي تنتج خيرًا وبرًّا بين أفراد المجتمع، ولن يكون نظام، ولا قانون، ولا تشريع أفضل، ولا أعظم، ولا أجلَّ وأتقى وأنقى مما تنزَّل به القرآن العظيم، ذلك أنه تنزيل مِن حكيم حميد، تنزيل من العليم الخبير ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]، وربنا القائل - جلَّت قُدرته -: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38]، وكل ما يحتاجه الناس جاء مبيَّنًا موضَّحًا، فإذا استقاموا عليه نالوا خيًرا عاجلًا وآجلًا. وينالهم الضر والشر والفساد بقدْر اعوجاجهم عن هذا المنهاج الرباني.

ومن جملة ما عُنِيَتْ به الشريعة الغرَّاء في مجال العلاقات: ما يتصل بالعلاقة بين الرجال والنساء؛ سواء كان ذلك في الدائرة الكبرى وهي علاقة الرجل بالمرأة على وجه العموم، أو كان فيما دون هذا من الدوائر الأخرى كالعلاقة الزوجية، وعلاقة الأب ببناته، كيف يحسن إليهن؟ وبأخَواته: كيف يَرْفُق بهن؟ إلى غير ذلك.

ولما كان النساءُ مخاطَباتٍ بالشرع؛ لأنهن يتوقف عليهن كثير من الأمور، فقد حمَّلهن الله جل وعلا الأمانة، ووجِّه الخطاب إليهن على وجه الخصوص في عدد من المواضع من القرآن العزيز، فإذا كان الخطاب الشرعي في أصله موجَّهًا إلى الرجال والنساء، وربما جاءت نصوص فيها الاختصاص للرجال؛ فكذلك جاءت نصوص فيها الاختصاص بالنساء.

ومن جملة ما يحسن التوقف عنده؛ ليستفيد منه الرجال، ويتبيَّنوا ما ينبغي عليهم، وكذلك ليستفيد منه النساء، ويعلمن ما ينبغي عليهن، تلك الوصايا الربانية العظيمة التي حفل بها القرآن العزيز، وجاءت خطابًا ابتدائيًّا لأمهات المؤمنين؛ أزواج نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورضي الله عنهن، ولكن هذا الخطاب يحمل في غضونه، وفي ضمنه مخابطة عموم النساء، إذا ما أردنا أن يرتقين إلى معارج الفضل ومقامات النبل، التي تَميَّز بها أمهاتُ المؤمنين.

فمِن جملة تلكم التوجيهات التي أحاط الله جل وعلا بها بيتُ نبيِّه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بمزيد الرعاية والعناية: ما حفلت به سورة الأحزاب حيث قول ربنا تعالى وتقدس: ﴿ يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 32 - 34].

فهذه آدابٌ أمَر اللهُ تعالى بها نساء نبيِّه صلى الله عليه وسلم، ونساء الأمة تبعٌ لهن في ذلك، وإنما وَجَّهَ الخطاب لهن؛ لأن لهن فضيلةً ومنزلةً لا يلحقهن فيها أحد من النساء، وذلك لتمكينهن من تَسَنُّمِ أعلى المقامات في التربية والسلوك حتى يكُنَّ قدوة للمؤمنين والمؤمنات، فكانت تلك الآداب النافعة، والوصايا الجامعة التي تخلع عنهن مزيدًا من الجلال والوقار، ولكل مَن اقتدى بهن من النساء نصيبٌ بحسب ذلك الاقتداء، الذي مَبْنَاهُ وأساسُه تقوى اللهِ جلَّتْ قدرتُه، وخشْيتُه سبحانه.

وأول تلك الوصايا بعد أن بُنيت وقدِّم لها التقوى ﴿ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ﴾ [الأحزاب: 32]، لأن التقوى هي المنطلق، أول تلك الوصايا بعد التقوى ألا يخضعن بالقول ﴿ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ﴾ [الأحزاب: 32]؛ بمعنى ألا يعمَدْن إلى ترقيق كلامهن إذا خاطبن الرجال حتى لا يطمع فيهن مَن في قلبه ريبة ودَغَلٌ، بل يكون كلامهن جزلًا، وقولًا فصلًا، بلا ترخيم، ولا تَغَنُّج، إذ لا يحل للمرأة أن تخاطب الرجال الأجانب كما تخاطب زوجها، وذلك قوله جل وعلا: ﴿ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [الأحزاب: 32].

وينبغي أن نلاحظ أن الذي خُوطب ابتداءً في هذه الآية: أمهاتُ المؤمنين؛ يقول لهن الرب جل وعلا: ﴿ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ﴾ [الأحزاب: 32] لم؟ ﴿ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ [الأحزاب: 32]؛لم يُعصم مَن في قلبه مرض أن يطمع في أشرف النساء وأكملِهن، ومَن هن بمنزلة أمَّهاتِنا، فما الحال إذًا بغيرهن؟ فهذا معه ندرك أنه إذا وجد الترقيق للصوت، والتساهل بالحديث فيه بين المرأة والرجل الأجنبي كان ذلك المفتاح الأول للشيطان؛ ليدخل بينهما، والمسألة ليست على سبيل التهمة لرجل، ولا امرأة؛ ولكن هذا أمر ربنا، وهو العليم الخبير، وهو الخالق لهذا الإنسان ذكرًا أو أنثى، فإنه جل وعلا يخبرنا بأن الخضوع بالقول ابتداء ربما فتح الباب للشيطان؛ ليجعل هنالك التصور للشر بين هذين الاثنين، ولذلك كان من علامات وُفُورِ عقل المرأة، ودلائل عظيم حشمتها أن كلامها مع الرجال الأجانب يلاحظ فيها هذا الأساس الذي أمر به القرآن: عدَم الخضوع بالقول؛ لا ترقيق فيه، ولا تغنج، ولا كما يكون بين المرأة وزوجها، فلزوجها كلام يناسبه في طبيعته وطريقته، وللرجال الأجانب طريقة أخرى في الكلام، فليس بمحرم عليها أن تخاطب الرجال الأجانب فيما تحتاج إليه، فهذا ليس من سماحة الدين، ولكن من حكمة الدين أن جعل لطريقة الكلام التي يسلكها الإنسان؛ أن جعل لها منهجًا وأسلوبًا يراعى فيه هذا المقام، فكما أمر الناس عمومًا رجالًا ونساءً بتخيُّر الألفاظ الحسنة، والعبارات الطيبة في المحادثة فيما بينهم، أُمرَتِ المرأة أن تتجنب ما يكون فيه ترقيق للصوت، أو ما يكون فيه حديث يشبه حديثها لزوجها بل تستشعر أن مَن أمامها رجل أجنبي، وأن الشيطان حاضر ليكون ما حذر الله منه ﴿ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ [الأحزاب: 32].

والوصية الثانية: أن يلزمن بيوتهن؛ فلا يخرجن لغير حاجة؛ إذ ينبغي عليهن أن يصرفن عنايتهن الخاصة، واهتمامهن الزائد إلى تدبير بيوتهن؛ إذ لا تتحقق سعادة الأسر على الوجه الأكمل إلا باستقرار المرأة في بيتها، وتعاونها مع زوجها، ورخَّص للمرأة أن تخرج عند الحاجة مع لزوم الحشمة والتستر والبعد عن أسباب الفتنة، ولذلك لما حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لنسائه في تلك الحجة - حجة الوداع – ((هذه ثم ظهور الحصر)) رواه أحمد، وأبو داود، وغيرهما:

هذه حِجَّتُكن، ثم الزمْنَ الحصر: الحصير الذي في الدار، والمعنى هنا: تأكيد أن كثرة الخروج، ولو للحج؛ حج التطوع، أنه ليس مرغبٌ فيه في شريعة الإسلام؛ لأن المرأة عندها مسؤولية عظمى، ورسالة كبرى، وهي المسؤولة عن دارها في تصريفه، والعناية بشؤونه؛ رعاية لحق الرجل، وتدبيرًا وتربية للأولاد، فهذه هي المسؤولية الكبرى، والتي قطعًا لا يستطيع أن ينتصب لها أعقل الرجال، ولا أكملهم في فهمه وذكائه وإدراكه، لكن الله تعالى هيَّأ المرأة قدرات، وخصائص تتمكن من خلالها أن تكون مسؤولةً عن إدارة دارها، والقيام على شؤونه، لا في ما يتعلق بالزوج، ولا في ما يتعلق في أولادها إن كانت صاحبة أولاد، ولا يعني هذا أن تحبس المرأة في بيتها، وألا يكون لها خروج لحاجاتها، ومن جملة الحاجات: ما يكون من الرغبة في التغيير من جهة حاجتها إلى الاسترواح وغير ذلك مما تميل إليه النفوس، وكل ذلك في إطار الحشمة والحياء ورعاية الآداب العامة، وهذا مدلولُه قول الله جل وعلا: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾ [الأحزاب: 33]، ولنتأملْ أنَّ القرآن العزيز ينسُب عادةً البيت للمرأة، ينسُبه إليها كأنما هو ملكها وإن لم تكن مالِكَتَه كما في هذه الآية ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾ [الأحزاب: 33]، مع أن البيوت للنبي صلى الله عليه وسلم، ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾ [الأحزاب: 34]، وهكذا قوله جل وعلا: ﴿ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ﴾ [الطلاق: 1]؛ مع أن البيت قد يكون للزوج ملكًا له لكن المرأة نُسب إليها؛ لأنها أكثر اختصاصًا به، وأكثر تعلُّقًا بإدارته ورعاية شؤونه.

والوصية الثالثة في هذه الآيات: أنهن إذا احتجْن للخروج لزمَهنَّ أن يجتنبن التبرُّج، ومنه ما كان في الجاهلية الأولى قبل الإسلام؛ حيث كانت مِشية النساء مِشية التبختر والتكسر والترنج بغرض إظهار الزينة، وإبراز المحاسن للرجال، وتحريك قلوبهم إلى تعاطي أسباب الفاحشة، ولأجل هذا قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (يا معشر النساء، قصتكن قصة امرأة واحدة: أحلَّ الله لكنَّ الزينة غير متبرجاتٍ لمَن لا يحل لكُنَّ أنْ يروا منكُن محرَّمًا)، وهذه الوصية دل عليها قول ربنا سبحانه: ﴿ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾ [الأحزاب: 33]، والمُشاهد اليوم لأحوال المجتمعات - مسلمةً كانت أو غير مسلمة - يدرك أن تعاطي النساء للزينة، والمبالغة فيها بإظهارها لمن لا يحل من الرجال، هو الباب الذي فُتح من خلاله أنواعٌ من الشرور والمآسي؛ من جهة وجود الفواحش، واختلال البيوت، ووجود اللقطاء، وغير ذلك من المشكلات التي تنهار معها المجتمعات، ولذلك كان تأكيدُ الشريعة على أن تكون المرأة لزوجها الذي أحل اللهُ سبحانه، وألا تظهر زينتها إلا لمَن أحل اللهُ جل وعلا؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ﴾ [النور: 31]: أزوجاهن هم أخص مَن يباح أن يرى زينتها منها، وذلك لأن الله أحل له ذلك وأباحه، وهكذا مَن تحتاج إلى مخالطته مِن محارمها كما سردتهم الآية الكريمة؛ مِن آباء وإخوان وأعمام وأخوال وغيرهم مِن محارمها؛ لأن نظر هؤلاء الرجال إليها إنما هو نظر فطرة، وليس فيه دافع إلى شيء مِن المحرمات.

والوصية الرابعة: أنه لما نهاهن عن الشر أمرهن بالخير؛ وذلك بإقامة الصلاة التي هي عماد الدين، والحد الفاصل بين الكفر والإيمان، والعجب أن الإخلال بهذه الفضيلة العظيمة بات أمرًا معتادًا مِن كثير مِن الرجال والنساء، مع أنه لا سعادة للإنسان، ولا هناء في حياته إلا بمحافظته على هذه الفريضة التي جعل الله فيها من أنواع الخيرات والبركات ما لا يمكن حصره، ألم يقل رب العزة سبحانه: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45]، وهكذا ما جاء من النصوص العظيمة في إجلال هذه الفريضة، وما ينبغي مِن الحرص والحفاظ عليها، وقد يكون لدى بعض النساء نوعٌ من الإخلال بهذه الفريضة مِن جهة ما يعرض لهن مِن العُذر الشرعي، الذي يُدخل بعضَ النساء في نوعٍ من التفريط من جهة عدم مراعاتها لبدء ومنتهى العذر، فربما تركت فرائض أو أخلَّت بما يجب في ذلك، وهذا يوجب على المرأة أن تكون متفقهة في هذا الدين، وأن يتواصى الأبوان بأن يُبيِّنا لبناتهن ما ينبغي في شأن هذه الفريضة، وما يستوجب لها من الفرائض والأركان، والتي من جملتها ما يتعلق بالطهارة لها، وفي جملة ما أوصى الله تعالى به في هذا الخير: أن تكون المرأة قائمة إن كانت ذات مال أن تؤدي الزكاة التي أمر الله جل وعلا في هذا المال، وهذا هو الشق الثاني من الخير الذي أوصينا به، وهذه الفريضة ولا شك هي عماد التكافل بين المؤمنين، ومظهر من مظاهر الإحسان للمخلوقين، وذلك قول ربنا سبحانه: ﴿ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ ﴾ [الأحزاب: 33]، وفي بعض المجتمعات كمجتمعنا على سبيل المثال كثير من الأموال، التي في أرصدة البنوك عائدة للنساء، حتى جاء في بعض الإحصائيات أنها تصل إلى ستين في المائة مما يُتَمَلَّكُ من الأموال أنها عائدة للنساء، ولا شك أن هذا يوجب أن يلاحظ فيها أمرُ الله جل وعلا وفريضته فيما يتعلق بالزكاة، وهذا أمر يشترك فيه الرجال والنساء، وقد أُحصيتِ الزكاة للأموال التي يتملَّكها رجال الأعمال المسلمين في عام من الأعوام؛ فوصلت إلى نحو ستين مليار دولار، ولا شك أن هذه الأموال لو أديت فيها الزكاة لخف كثير مِن العناء على الفقراء والمساكين والمحتاجين وأصحاب الديون وغيرهم من أهل الزكاة، ولا غَرْوَ حينئذ أن تكون هذه الوصية موجَّهةً إلى النساء تأكيدًا كما أنها وصية للرجال أيضًا.

والوصية الخامسة في سياق هذه الآيات الكريمة: أن يُطِعْنَ الله ورسوله طاعةً تامة عامة، مصحوبة بالرضا والتسليم كما قال سبحانه: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]، ولا ريب أن التأكيد على هذه الطاعة - التي يُسلِّم معها المؤمن والمؤمنة لربه جل وعلا فيما حكم وقضى - توجب عليه أن يكون ذلك مُطلَقَ التسليم، لا أن يتخير مِن الأحكام الشرعية ما يوافق هواه، ويرد ما يخالف هواه، ولا غرو حينئذ أن نجد مِن أعداء الإسلام مَن يشجِّع النساء، ويهوِّن في نظر الرجال ما يتعلق بالتفسُّخ الأخلاقي، والخروج عن آداب الإسلام فنجد على سبيل المثال المطالبة بأن لا يكون للرجال قوامة على النساء، وذلك بزعم أن هذا حد من الحرية، وهذا في واقع الأمر خَلل في الفهم لمعنى القوامة، فقوامة الرجل التي قال الله جل وعلا فيها: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ﴾ [النساء: 34] لا تعني: تسلُّط الرجلِ، ولا تحكمه في شأن المرأة، ولا أن يختار لها ما يضر بها، أو يظلمها، ولكنه في الحقيقة هو نوع من خدمة المرأة، ونوع من إعانتها على مواجهة ما قد يكون لها في هذه الحياة من الاستغلال بالنظر لطبيعتها الأنثوية المبنية على الضعف، وهذا أمر مشاهد وملحوظ، أما أن يكون مفهوم القوامة لدى بعض الرجال أن يكون متصرِّفًا بالمرأة فيما يختار هو وفيه ضرر بها؛ فهذا ليس من الشرع في شيء، وقد وقع في زمان نبيِّنا صلى الله عليه وسلم أن رجلًا أراد أن يزوِّج ابنته لابن أخيه، وكان ابن أخيه غيرَ كفؤ لها، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله إن أبي أراد أن يزوِّجني بابن أخيه ليرفع خَسِيسَتَهُ، تعني بذلك: أنَّ ابن عمها لم يكن كفؤًا لها، وكان أقل مِن مواءمته لها، وأن يكون مكافئًا لها، إما في فهم وعقل وإدراك، أو في غير ذلك من الأمور، وجملة القول أنها هي لم ترتضه أن يكون زوجًا لها، عرضتْ هذا الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المشرِّع بأمر ربه جل وعلا، فنقض النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وردَّ هذا التوجُّه من الأب نحو ابنته ليزوجها مَن لا يكافئها، هذا هو شرع الله، ولذلك في هذه القضية نجد اشتراط موافقة المرأة على مَن يتقدم إليها فلو رضيه؛ رضي هذا الخاطبَ أبوها أو أمُّها أو غيرهم، فهذا كله متوقف على رضاها وموافقتها هي، فهذا نموذج في هذا الأمر الكبير، وهو ملاحظة أن تكون هذه القوامة، ووجود الولي بالنسبة للمرأة متوقف على مرادها ومصلحتها، وهكذا في أمور كثيرة من أمور الحياة ومعايشها، كل ذلك إنما هو فيما يتعلق في القوامة أن يكون الرجل - أبًا كان أو أخًا أو زوجًا أو غير ذلك - ساعيًا في مصلحة المرأة، لا على سبيل التهمه والاستضعاف لها، ولكن لتأكيد الرعاية والعناية، وأن تكون المرأة معتنًى بها معظمًا شأنُها، وإذا نظرنا فيما يتعلق بما يطرح في شأن الولاية والقوامة فإن الذي يطلب مِن قبَل مَن زاغت بهم الأهواء أن يختاروا النموذج الغربي فما هو هذا النموذج الغربي؟ هو أنها إذا بلغت البنت ثمانية عشر عامًا قيل لها: لا بقاء لكِ في دار أبويك، ولا في الحضن الذي نشأتِ فيه، إلى أين تذهب؟ إلى المجهول الذي مبناه هو استغلال هذه الفتاة، استغلالها في عفتها على وجه الخصوص، ووجه الابتداء فتتقلب بين أحضان الرجال فحشًا وسوءًا، فلا تَسَلْ حينئذ: ماذا يكون من الظلم لهذه المرأة؟ فهل يقارن هذا الحال الذي رُئِيَ رأي العين في المجتمعات الغربية، بحالٍ يقول الله جل وعلا فيها: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ [النساء: 34]؛ فالرجل مأمور بالنفقة: فالأب ينفق على ابنته إلى حين أن يكون انتقال هذه الأمانة وهذه الرعاية إلى الرجل الزوج الكفؤ، والرجل بعد ذلك مطالب أيضًا بأن يكون منه النفقة على هذه المرأة، مع أداء الحقوق الواجبة بشرع الله، ولذلك أبيح للمرأة أنه في حال ما إذا قصَّر الرجل الزوج في النفقة عليها أن تأخذ من ماله هو - ولو لم يعلم - ما يكفيها في نفقتها هي بنفسها ولأولادها، إن كان ثمت أولاد، ولذلك لما شَكَتِ امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أن زوجها لا ينفق عليها؛ فهل عليها مِن حرج إن أخذتْ مِن ماله وهو لا يعلم؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف»، فجعلت المرأةَ مباحًا لها هذا الأمر الذي هو محرم في أصله إذا ما قصَّر الرجل في النفقة على زوجته؛ لأنه يعلم أنها لو رفعت أمرها إلى القضاء لتطلب هذه النفقة، فربما تعسَّر عليها الأمر في كثير من الأحيان، وهذا لا يعني إطلاق المرأة في مال الرجل، ولكنها جُعلت مؤتمنة؛ «ما يكفيك وولدك بالمعروف» فالله مطَّلع على ما تصنع وتفعل، ومهما يكن من أمر فالمقصود في هذا المقام: أن الله سبحانه وتعالى قد اختار للنساء ما يناسبهن، وأهْل الضلال يريدون أن يميلوا بهن ميلًا عظيمًا ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 27].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية


الحمدلله الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله على عبد الله ورسوله نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد.

أيها الإخوة الكرام إن الطمأنينة للناس أن يتوجهوا ويعلموا ما أمر الله تعالى به، وما أمر به رسوله عليه الصلاة والسلام، وما من شيء يحتاجه الناس إلا وهو مبينٌ وموضَّح، لا في ما يَستجلِب الخيرات، ولا ما تُدفع به الشرور والآفات.

ومِن جملة ما عُنِيَتْ الشريعة الغراء بتأكيده وبيانه: ما يتعلق بالأمور العامة للمجتمعات، ذلك أن إدارة الأمور العامة ينبغي أن يُلاحظ فيها المصالح العُليا، التي يُحفظ بها كيان المجتمع، ويحفظ بها أمنه، ويبعد هذا المجتمع عما قد يؤول به إلى الفوضى، ومن جملة ما يتعلق بهذا الأمر: التأكيد على الاجتماع والائتلاف، والبعد عن الفرقة والاختلاف، ولا يخفى أن مِن جملة ما يطرح بين حين وآخر ما يتعلق بالنساء، وحثِّهن على أن يأخذن حقوقهن؛ هذا هو العنوان العريض الذي يُعلَن ويُشار إليه، لكن في غضون ذلك وتفاصيله أن المرأة تدعى لأن تكون على منهاج غير منهاج الإسلام.

ومن جملة ذلك أيضًا فيما يتعلق بالمسائل العامة: أنه ربما استُغِلَّت بعضُ الأحوال الاقتصادية لبعض المجتمعات لحثِّهم على الفوضى، وعلى التوجُّه إلى أخذ حقوقهم بأيديهم كما يُقال ويُزعم، وهذا في ما يُعلن عنه بين حين وآخر مِن دعوة إلى الفوضى تحت مسمى المظاهرات؛ فبين حين وآخر يُتنادى إلى هذا الأمر، ومنه ما يتم التنادي إليه في التاريخ الإفرنجي الحادي والعشرين من إبريل الذي يوافق هذا اليوم، وقد جُعلت الدعوة لهذه الفوضى متَّكئة على مطالبات هي في ظاهرها مما يؤنس به، وهو أيضًا مطلب ينبغي أن ينفَّذ، وأن يكون حاضرًا؛ وذلك فيما يتعلق بالحرص من قبل كل مسؤول أن يدير الأمور على ما أوجب الله تعالى، وعلى ما فيه نفع الناس، لكن هؤلاء الذي تنادوا إلى هذا الموعد للمظاهرات والفوضى ونحو ذلك، في حقيقة الأمر ليس هذا مطلبهم المباشر، وإنما مطلبهم أكبر من ذلك، وهو فرقة وفوضى وإخلال بكيان المجتمع، ونحن ندرك بما دل عليه كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبما شوهد بالواقع في القديم والحديث: أن الدعوة إلى الفوضى وإلى المواجهة بين الناس وبين حكامهم؛ أنها إنما تؤول إلى شر وإلى ظلم وإلى اختلال لا نظير له، شوهد هذا في الشرق والغرب، فلم يعد هذا أمرًا يُذكر نظريًّا، ولكنا نشاهده تطبيقًا وواقعًا في كثير من الدول، في تلك الدول التي كان نظام الحكم فيها غير شرعي؛ أعني غير قائم على شرع الله، وإنما هو بأنظمة وضعية، ومع ذلك حصل ما حصل، فكيف يُنادى بمثل هذه الدعوات ونحن في بلاد، الدستور فيها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ نعم قد يوجد أنواع من القصور الذي لا يخلو منه مجتمع، لكن الخير ظاهر، والبر وافر، وينبغي على الناس أن يتعاونوا فيما بينهم في تحسين وتحصيل معايشهم على الأسلوب الذي ارتضاه الشرع المطهر، وأيضًا خوطب كل مسؤول تسلم مسؤولية معينة أن يبذل الجهد في أداء الأمانة، والنصح للناس، وأداء الحقوق إليهم، هذا منهاج واضح؛ أما هذه الدعوات فكل مسلم يدرك - كل مسلم اطلع وعلم من شرع الله فإنه يدرك - ما فيها من الشر والضر، علاوة على أن هذه الدعوات إنما يُدعى إليها من مجاهيل عبر شبكات التواصل الاجتماعي فلا يُدرى مَن هم؟ ولا يُدرى مَن الذين وراءها؟ وإن أُعلنت بعضُ الأسماء فإنهم أناس خالفوا شرع الله، وعارضوا ولاة أمورهم، وخرجوا عن جماعة المسلمين، فهم يقولون كما يقول القائل: عليَّ وعلى أعدائي، فهم يريدون أن يَهلكوا، وأن يُهلكوا معهم الناس، وهذا البيان والتذكير والتوضيح إنما هو تأكيد لنظرة الشرع المطهر لمثل هذه الدعوات، فليس في شرع الله ما يدل على مشروعية، ولا إباحة مثل هذه الدعوات، بل إن الشرع بضدها كما أن الواقع بيَّن خطرها وضررها على المجتمعات.

أسال الله جل وعلا أن يُعيذنا مِن الفتن؛ ما ظهر منها وما بطن، وأن يُصلح أحوالنا والمسلمين في كل مكان. ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله نبينا محمد فقد أمرنا ربنا بذلك فقال عز من قائل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

اللهم، صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم، أعز الإسلام والمسلمين، وأصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم، مَن أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، فاجعل تدبيره تدميرًا عليه، يا سميع الدعاء، اللهم، أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم، وفقهم بما فيه خير للعباد والبلاد، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، وأبعد عنهم بطانة السوء يا رب العالمين، اللهم، اغفر لنا ولوالدينا كما ربونا صغارا، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنه وقنا عذاب النار، سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية