محتويات المقال
القرض الحسن
من أبواب الخير ونيل مرضاة الله القرض الحسن
أَبوَابُ الخَيرِ كَثِيرَةٌ، وَسُبُلُ البِرِّ مُتَعَدِّدَةٌ، وَأَسبَابُ رِضَا اللهِ عَنِ العَبدِ وَدُخُولِهِ في رَحمَتِهِ أَجَلُّ مِن أَن تُحصَى، وَإِنَّ فِيهَا مِمَّا يَخطُرُ عَلَى البَالِ وَمَا لا يَخطُرُ عَلَيهِ شَيئًا كَثِيرًا وَقَدرًا كَبِيرًا، وَمِن رَحمَتِهِ-تَعَالى-لَمَّا فَاوَتَ بَينَ العِبَادِ في الأَعمَالِ وَالأَرزَاقِ وَالعَزَائِمِ وَالقُدُرَاتِ وَالرَّغَبَاتِ، أَن نَوَّعَ لَهُمُ الأَعمَالَ الَّتي يَدخُلُونَ بِهَا الجَنَّاتِ، وَيَنَالُونَ بِهَا رِضَاهُ عَنهُم وَرَفِيعَ الدَّرَجَاتِ، كُلاًّ بِمَا يُسِّرَ لَهُ وَفُتِحَ لَهُ فِيهِ، فَمَن لم تَرتَفِعْ دَرَجَتُهُ بِالصَّلاةِ، فَرُبَّمَا كَانَت رِفعَتُهُ بِالصِّيَامِ، وَمَن لم يَكُنْ كَثِيرَ تَنَفُّلٍ في هَذَينِ، فَقَد يُرزَقُ مَالاً حَلالاً مُبَارَكًا، تَكُونُ بِهِ نَجَاتُهُ وَرِفعَةُ دَرَجَاتِهِ، وَقَد لا يُوَفَّقُ مُسلِمٌ في العِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ البَارِزَةِ، فَيَكُونُ لَهُ حَظٌّ مِنَ العِبَادَاتِ الخَفِيَّةِ المُخَبَّأَةِ، وَفَضلُ اللهِ عَظِيمٌ لا يَحُدُّهُ حَدٌّ، وَرَحمَتُهُ وَاسِعَةٌ لا يُحَاطُ بِهَا وَلا تَنفَدُ، وَمَا عَلَى العَبدِ إِلاَّ التَّعَرُّضُ لِرَحمَةِ اللهِ، وَالثَّبَاتُ فِيمَا وُفِّقَ إِلَيهِ وَفُتِحَ لَهُ فِيهِ؛ فَمَن حُبِّبَت إِلَيهِ الصَّلاةُ فَلْيَلْزَمْهَا، وَمَن كَانَ مِن أَهلِ الصِّيَامِ فَلْيَتَمَسَّكْ بِهِ، وَمَن بُورِكَ لَهُ في مَالٍ فَلْيُرَ أَثَرُ ذَلِكَ عَلَيهِ في إِنفَاقِهِ وَعَطَائِهِ، وَفي قَضَائِهِ حَاجَةَ المُحتَاجِ وَتَفرِيجِهِ كُربَةَ المَكرُوبِ.
وَإِنَّ ثَمَّةَ عَمَلاً صَالِحًا مَبرُورًا، وَإِحسَانًا مَذكُورًا مَشكُورًا، كَادَ يَختَفِي مِنَ المُجتَمَعِ المُسلِمِ بَينَ شُحِّ الشَّحِيحِ وَخِيَانَةِ الخَائِنِ، وَعَجَلَةِ الحَرِيصِ وَعَجزِ المُفَرِّطِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الأَجرِ العَظِيمِ وَالثَّوَابِ الجَزِيلِ، وَالأَثَرِ المُبَارَكِ عَلَى المُجتَمَعِ في العَاجِلِ وَالآجِلِ، وَغَرسِ المَحَبَّةِ في القُلُوبِ وَتَحبِيبِ بَعضِ النَّاسِ إِلى بَعضٍ؛ أَتَدرُونَ مَا ذَاكُمُ العَمَلُ ؟! إِنَّهُ القَرضُ الحَسَنُ.
أَجَل إِنَّهُ القَرضُ الحَسَنُ، الَّذِي لا يُرِيدُ بَاذِلُهُ مِن وَرَائِهِ إِلاَّ مَا عِندَ الرَّحِيمِ الرَّحمَنِ، وَلا يَنتَظِرُ جَزَاءً وَلا شُكُورًا إِلاَّ مِنَ الكَرِيمِ المَنَّانِ، وَاللهُ-تَعَالى-هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ، يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقدِرُ، وَيُوَسِّعُ لِهَذَا وَيُضَيِّقُ عَلَى ذَاكَ، وَيَجعَلُ المَالَ الكَثِيرَ عِندَ امرِئٍ بِحِكمَتِهِ، وَيَحُولُ بَينَ آخَرَ وَبَينَهُ حَتَّى لا يَكَادَ يَجتَمِعُ لَدَيهِ مِنهُ قَلِيلٌ وَلا كَثِيرٌ، وَلَو شَاءَ-جَلَّ وَعَلا-لَسَاوَى بَينَ النَّاسِ في مِقدَارِ أَرزَاقِهِم وَجَعَلَهُم كُلَّهُم أَغنِيَاءَ، وَلَيسَ ذَلِكَ بِنَاقِصٍ مِمَّا في خَزَائِنِهِ شَيئًا، وَلا غَائِضًا مِن فَائِضِهَا؛ فَفِي الحَدِيثِ القُدسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ مُسلِمٌ قَالَ اللهُ-تَبَارَكَ وَتَعَالى-: "يَا عِبَادِي، لَو أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُم، وَإِنسَكُم وَجِنَّكُم، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعطَيتُ كُلَّ إِنسَانٍ مِنهُم مَسأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِندِي إِلاَّ كَمَا يَنقُصُ المِخيَطُ إِذَا أُدخِلَ البَحرُ".
من الحكم في تباين الناس في الأرزاق
إِنَّ تَبَايُنَ النَّاسِ في الرِّزقِ، وَاختِلافَ مَا تَملِكُهُ أَيدِيهِم مِنَ المَالِ، إِنَّ ذَلِكَ لَمِمَّا جَعَلَهُ اللهُ فِيهِم لِحِكمَةٍ بَل لِحِكَمٍ كَثِيرَةٍ، مِنهَا أَن يُسَخِّرَ بَعضُهُم بَعضًا في الأَعمَالِ وَالحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ، وَلَو تَسَاوَوا في الغِنى وَلم يَحتَجْ بَعضُهُم إِلى بَعضٍ، لَتَعَطَّلَت كَثِيرٌ مِن مَصَالِحِهِم وَمَنَافِعِهِم، قَالَ-سُبحَانَهُ-: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[الزخرف: 32].
وَمِنَ الحِكَمِ في تَبَايُنِ النَّاسِ في أَرزَاقِهِم أَن يُبتَلَى بَعضُهُم بِبَعضٍ؛ فَيَعلَمَ اللهُ مَن يَشكُرُ مِمَّن يَكفُرُ، وَمَن يُعطِي مِمَّن يَمنَعُ، وَمَن يَجُودُ مِمَّن يَبخَلُ، وَمَن تَمتَدُّ يَدُهُ لِرِقَّةِ قَلبِهِ، وَمَن يَكُفُّ كَفَّهُ لِشُحِّ نَفسِهِ، وَالجَمِيعُ بَعدَ ذَلِكَ إِلى اللهِ عَائِدُونَ، وَلِمَا في أَيدِيهِم قَلَّ أَو كَثُرَ تَارِكُونَ، وَعِندَ رَبِّهِم مُحَاسَبُونَ، وَإِلى مَا قَدَّمُوا قَادِمُونَ، وَعَلَى مَا قَصَّرُوا فِيهِ نَادِمُونَ؛ أَمَّا العُقَلاءُ النُّبَلاءُ، فَقَد عَلِمُوا أَنَّ الدُّنيَا ظِلٌّ زَائِلٌ، وَهُم فِيهَا ضُيُوفٌ مُرتَحِلُونَ، وَأَنَّ المَالَ في أَيدِيهِم عَارِيَّةٌ مُؤَدَّاةٌ وَوَدِيعَةٌ مُستَرَدَّةٌ، وَأَنَّ فِيهِ للهِ حُقُوقًا، وَأَنَّهُ لا يَنقُصُ بِإِنفَاقٍ مِنهُ في سَبِيلِ اللهِ، وَمِن ثَمَّ فَقَد جَعَلُوا أَنفُسَهُم في أَعلَى مَنَازِلِ أَهلِ الأَموَالِ، فَوَصَلُوا بِهِ أَرحَامَهُم، وَأَكرَمُوا ضُيُوفَهُم، وَأَعطَوا مِنهُ وَتَصَدَّقُوا، وَبَذَلُوا وَأَجزَلُوا، وَأَقرَضُوا وَصَبَرُوا، وَوَسَّعُوا عَلَى المُعسِرِينَ، وَفَرَّجُوا عَنِ المَكرُوبِينَ، وَقَضَوا حَاجَاتِ المُحتَاجِينَ، وَأَدخَلُوا السُّرُورَ عَلَى المَحزُونِينَ، فَنَالُوا بِذَلِكَ في دُنيَاهُم عَاجِلَ البُشرَى، وَكَسِبُوا حَسَنَ الصِّيتِ وَجَمِيلَ الذِّكرِ، وَحَازُوا حَمِيدَ السُّمعَةِ وَطَيِّبَ الثَّنَاءِ، وَلَهَجَتِ الأَلسِنَةُ لَهُم بِالمَدحِ وَالشُّكرِ وَالدُّعَاءِ، مَعَ مَا يَنتَظِرُهُم إِن خَلَصَتِ النِّيَّةُ مِن حَسَنَاتٍ كَالجِبَالِ، وَأَمَّا أَهلُ الهَلَعِ وَالجَزَعِ؛ فَقَدِ اشتَغَلُوا بِالجَمعِ وَالمَنعِ، فَلَم تَنْدَ أَيمَانُهُم بِخَيرٍ وَلا بَذلِ مَعرُوفٍ، وَلم تَهتَزَّ نُفُوسُهُم لإِسعَافِ ذِي حَاجَةٍ مَلهُوفٍ، فَقَلَّ حَامِدُهُم، وَكَثُرَ حَاسِدُهُم، وَمَاتَ كَثِيرٌ مِنهُم وَالقُلُوبُ مِنهُ نَافِرَةٌ، بَل وَصَارَ أَفرَحَ النَّاسِ بِمَوتِهِ أَهلُهُ وَأَقَارِبُهُ، وَالمُوفَّقُ مَن وَفَّقَهُ اللهُ، وَالمَخذُولُ مَن تَخَلَّى عَنهُ رَبُّهُ، وَوَكَلَهُ إِلى نَفسِهِ.
فضل القرض الحسن
لَقَد وَرَدَت في فَضلِ قَضَاءِ حَاجَاتِ المُحتَاجِينَ وَالتَّيسِيرِ عَلَى المُعسِرِينَ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ وَأُخرَى حَسَنَةٌ، لا يَسمَعُ بِهَا مُؤمِنٌ مُصَدِّقٌ بِمَا فِيهَا مِن وَعدٍ، إِلاَّ تَمَنَّى لَو قَسَّمَ مَالَهُ كُلَّهُ عَلَى المُحتَاجِينَ وَالمُقِلِّينَ، وَخَاصَّةً أَهلَ الدِّينِ وَالمُرُوءَةِ وَالصِّدقِ، الَّذِينَ ضَاقَت بِهِمُ السُّبُلُ، وَأَرهَقَتهُمُ الحَاجَاتُ وَأَعيَتهُمُ الحِيَلُ، قَالَ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-:"مَن مَنَحَ مَنِيحَةَ لَبَنٍ أَو وَرِقٍ، أَو هَدَى زُقَاقًا، كَانَ لَهُ مِثلُ عِتقِ رَقَبَةٍ"
وَقَالَ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "مَن أَقرَضَ وَرِقًا مَرَّتَينِ، كَانَ كَعَدلِ صَدَقَةٍ مَرَّةً"
وَالوَرِقُ هُوَ المَالُ مِنَ الفِضَّةِ؛ فَمَن أَقرَضَ مِنهُ شَيئًا مَرَّتَينِ، كَانَ كَمَا لَو تَصَدَّقَ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَأَيُّ فَضلٍ مِثلُ هَذَا الفَضلِ ؟! يُقرِضُ المَرءُ مَبلَغًا مِنَ المَالِ مَرَّتَينِ، فَيَعُودُ إِلَيهِ مَالُهُ كَامِلاً، وَيَبقَى عِندَ اللهِ أَجرُهُ مُوَفَّرًا، وَحَتَّى وَإِن كَانَ المُقتَرِضُ قَدِ استَفَادَ مِنَ القَرضِ وَانتَفَعَ بِهِ، إِلاَّ أَن صَاحِبَ المَالِ كَاسِبٌ مِن وَجهَينِ، وَمُنتَفِعٌ في الدَّارَينِ، إِذْ بَقِيَ مَالُهُ عِندَهُ، وَتَقَدَّمَ أَجرُهُ أَمَامَهُ، فَمَن يَزهَدُ في مِثلِ هَذَا إِلاَّ شَحِيحٌ لَئِيمٌ ؟! وَإِنَّهُ وَإنْ تَكُنِ الصَّدَقَةُ في الأَصلِ أَفضَلَ مِنَ الإِقرَاضِ؛ مِن جِهَةِ أَنَّ المُتَصَدِّقَ يَهَبُ المَالَ وَيَسمَحُ بِهِ وَلا يُلحِقُهُ نَفسَهُ، إِلاَّ أَنَّ مَن يُقرِضُ المُحتَاجَ وَيُوَسِّعُ صَدرَهُ وَيَطُولُ صَبرُهُ عَلَيهِ، لَهُ فَضِيلَةٌ أُخرَى وَمَزِيَّةٌ عُظمَى، يَنَالُهَا مِن رَبِّهِ جَزَاءً عَلَى إِحسَانِهِ إِلى خَلقِهِ بِإِنظَارِهِم وَالتَّيسِيرِ عَلَيهِم، قَالَ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-:"مَن يَسَّرَ عَلَى مُعسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيهِ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ"
وَعَن حُذَيفَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنهُ-قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-:"تَلَقَّتِ المَلائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّن كَانَ قَبلَكُم، فَقَالُوا: عَمِلتَ مِنَ الخَيرِ شَيئًا ؟! قَالَ: لا قَالُوا: تَذَكَّرْ قَالَ: "كُنتُ أُدَايِنُ النَّاسَ فَآمُرُ فِتيَانِي أَن يُنظِرُوا المُعسِرَ وَيَتَجَوَّزُوا عَنِ المُوسِرِ قَالَ: قَالَ اللهُ: تَجَاوَزُوا عَنهُ"
وَعَن بُرَيدَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنهُ-قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-يَقُولُ: "مَن أَنظَرَ مُعسِرًا فَلَهُ كُلَّ يَومٍ مِثلُهُ صَدَقَةً"، ثم سَمِعتُهُ يَقُولُ: "مَن أَنظَرَ مُعسِرًا فَلَهُ كُلَّ يَومٍ مِثلَيهِ صَدَقَةً" فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، سَمِعتُكَ تَقُولُ: "مَن أَنظَرَ مُعسِرًا فَلَهُ كُلَّ يَومٍ مِثلُهُ صَدَقَةً" ثم سَمِعتُكَ تَقُولُ: "مَن أَنظَرَ مُعسِرًا فَلَهُ كُلَّ يَومٍ مِثلَيهِ صَدَقَةً" قَالَ: "لَهُ كُلَّ يَومٍ مِثلُهُ صَدَقَةً قَبلَ أَن يَحِلَّ الدَّينُ، فَإِذَا حَلَّ فَأَنظَرَهُ، فَلَهُ بِكُلِّ يَومٍ مِثلَيهِ صَدَقَةً"
وَقَالَ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-:"مَن أَنظَرَ مُعسِرًا أَو وَضَعَ لَهُ، أَظَلَّهُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ تَحتَ ظِلِّ عَرشِهِ يَومَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ"
أَلا فَلْنَتَّقِ الله وَلْنُنفِقْ مِمَّا آتَانَا اللهُ ابتِغَاءَ وَجهِهِ، وَلْنَحذَرِ الطَّمَعَ وَالجَشَعَ، وَخَاصَّةً مَا كَانَ مِنهُ دَاعِيًا إِلى أَكلِ الحَرَامِ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾[البقرة: 278 -281].
آداب ينبغي أن يتحلى بها المقرِض والمقرَض
مِن إِتمَامِ المَعرُوفِ في القَرضِ الحَسَنِ، أَلاَّ يُلحِقَهُ صَاحِبُهُ بِمَنٍّ وَلا أَذًى، وَلا إِلحَافٍ في المُطَالَبَةِ بِالوَفَاءِ وَهُوَ يَعلَمُ حَاجَةَ صَاحِبِهِ وَضِيقَ حَالِهِ، وَأَن يَكُونَ سَمحًا في طَلَبِهِ وَاستِيفَائِهِ، فَهُوَ في الأَصلِ إِنَّمَا بَدَأَ بِهِ طَلَبًا لِمَا عِندَ اللهِ مِن عَظِيمِ الأَجرِ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ، وَأَجرُهُ مَا يَزَالُ جَارِيًا بِقَدرِ إِنظَارِهِ صَاحِبَهُ المُعسِرَ، وَمَا عِندَ اللهِ خَيرٌ مِنَ الدُّنيَا وَمَا فِيهَا، وَالعِبرَةُ بِبَرَكَةِ المَالِ وَالانتِفَاعِ بِهِ وَنَفعِ النَّاسِ، لا بِكَثرَتِهِ وَإِحكَامِ حِفظِهِ، وَالتَّمَتُّعِ بِمَا في الخَزَائِنِ أَوِ الحَسَابَاتِ مِنهُ مِن أَرقَامٍ، قَالَ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-:"مَن طَلَبَ حَقًّا فَلْيَطلُبْهُ في عَفَافٍ، وَافٍ أَو غَيرُ وَافٍ"
وَقَالَ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "رَحِمَ اللهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشتَرَى وَإِذَا اقتَضَى"
وَمَعَ هَذَا؛ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالاً، وَحَقُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ الوَفَاءُ لَهُ أَسرَعَ مَا يُمكِنُهُ وَأَوفَاهُ وَأَكمَلَهُ، وَأَلاَّ يُلجِئَهُ إِلى مَا لا يُحمَدُ بِسُوءِ القَضَاءِ أَوِ المُمَاطَلَةِ، وَإِذَا طَلَبَ صَاحِبُ الحَقِّ حَقَّهُ وَرَغِبَ في استِيفَائِهِ، وَكَانَ الغَرِيمُ مَلِيئًا غَنِيًّا، وَمَطَلَهُ وَسَوَّفَ بِهِ، فَهُوَ وَالحَالَةُ هَذِهِ ظَالِمٌ لَهُ، وَالظُّلمُ مُحَرَّمٌ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؛ فَعَن أَبي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-أَنَّ رَسُولَ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-قَالَ: "مَطلُ الغَنيِّ ظُلمٌ، فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُم عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ"
وَعَنهُ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- أَنَّ رَجُلاً أَتى النَّبيَّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَتَقَاضَاهُ فَأَغلَظَ لَهُ، فَهَمَّ بِهِ أَصحَابُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "دَعُوهُ؛ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مقالاً" ثم قَالَ:" أَعطُوهُ سِنًّا مِثلَ سِنِّهِ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لا نَجِدُ إِلاَّ أَمثَلَ مِن سِنِّهِ. قَالَ: "أَعطُوهُ؛ فَإِنَّ خَيرَكُم أَحسَنُكُم قَضَاءً"
وَعَن أَبي رَافِعٍ مَولَى رَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-قَالَ: استَسلَفَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-بَكْرًا، فَجَاءَتهُ إِبِلٌ مِنَ الصَّدَقَةِ، قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَأَمَرَني رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-أَن أَقضِيَ الرَّجُلَ بَكرَهُ، فَقُلتُ: لا أَجِدُ في الإِبِلِ إِلاَّ جَمَلاً خِيَارًا رَبَاعِيًّا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-:"أَعطِهِ إِيَّاهُ؛ فَإِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحسَنُهُم قَضَاءً"
وَعَن عَبدِاللهِ بنِ رَبِيعَةِ-رَضِيَ اللهُ عَنهُ-أَنَّ النَّبيَّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-استَسلَفَ مِنهُ حِينَ غَزَا حُنَينًا ثَلاثَينَ أَو أَربَعِينَ أَلفًا، قَضَاهَا إِيَّاهُ ثم قَالَ لَهُ النَّبيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-:"بَارَكَ اللهُ لَكَ في أَهلِكَ وَمَالِكَ، إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الوَفَاءُ وَالحَمدُ"
المرجع:
لا تنس ذكر الله