الحلم والأناة

الحلم والأناة

الحلم والأناة


نماذج من حلم الأنبياء والصالحين


إنَّ من محاسن الأخلاق التي حثَّ عليها الإسلام الحلم والأناة, وهما خصلتان يحبهما الله, فمن الناس من جبله الله على هذين الخلقين الكريمين, ومنهم من يجاهد نفسه للتخلق بهما, والأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- أعظم الناس حِلماً وأخلاقاً حسنة؛ قَالَ ابن مسعود -رضي الله عنه-: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُون"؛ فانظروا إلى حلم هذا النبي -عليه الصلاة والسلام- كيف أنَّ قومه ضربوه وأدموه, وهو يدعو لهم بالمغفرة على شنيع جرمهم؛ لضربهم إيَّاه ويعلمُ أنَّهم لا يعلمون!.

وحصل مثله لنبينا -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد؛ عندما شُجَّ وجهه -عليه الصلاة والسلام-, قال النووي -رحمه الله- عند شرحه لهذا الحديث: "فِيهِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ- عَلَيْهِمْ مِنَ الْحِلْمِ وَالتَّصَبُّرِ, وَالْعَفْوِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى قَوْمِهِمْ, وَدُعَائِهِمْ لَهُمْ بِالْهِدَايَةِ وَالْغُفْرَانِ وَعُذْرِهِمْ فِي جِنَايَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ"


وهذا رجل يقول لعمر -رضي الله عنه-: "هِيْ يَا ابْنَ الخَطَّابِ! فَوَاللهِ مَا تُعْطِينَا الجَزْلَ, وَلاَ تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالعَدْلِ"، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الحُرُّ بن قيس: "يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَّ! إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَالَ لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ﴿خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ﴾[الأعراف: 199], وَإِنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ"، وَاللهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ"

فمن استطاع كظم غيضه وغضبه فإنَّه يَحلِمُ ويعفو, ويُقابل الإساءة بالإحسان, قال الماوردي -رحمه الله-: "الحلم من أشرف الأخلاق وأحقها بذوي الألباب؛ لما فيه من سلامة العرض وراحة الجسد واجتلاب الحمد", ولقد أثنى الله على نبيه إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- بقوله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾[التوبة: 114], وقوله -تعالى-: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾[هود: 75], وأثنى على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[القلم: 4].


تعريف الحلم وذكر أسبابه وبواعثه


لمَّا قدِم وفد عبد القيس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ورأسهم الأشج -رضي الله عنه-, جاؤوا في ثيابهم وأناخوا رواحلهم, فسلموا على النبي -صلى الله عليه وسلم-, أما الأشج فبقي في رحالهم وعقل راحلته, ولبِسَ ثياباً حساناً وتهيَّأ للقيا النبي -صلى الله عليه وسلم-, ثم جاء إليه فأكرمه وقرَّبه, وقال له -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ؛ الحِلْمُ وَالأَنَاةُ"؛ والحِلْم: هو ضبط النفس, والطبع عن هيجان الغضب, وهو الطمأنينة عند سَوْرة الغضب., وتقول العرب: "الرفق بُنيُّ الحِلْم", والحليم رفيق متأنٍ لا غليظ عجول.

كم من غضوب عجول يتمنى لو كان حليماً متأنياً, لكنه لم يجاهد نفسه ولم يتعرَّف إلى بواعث الحِلْم وأسبابه, ألا وإنَّ من بواعثه: أن تسكن الرحمة في القلب؛ فيرحم من أخطأ عليه لعلمه أنَّه جاهل, قيل في منثور الحِكَم: "مِنْ أَوْكَدِ الْحِلْمِ رَحْمَةُ الْجُهَّالِ", وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِرَجُلٍ أَسْمَعَهُ كَلَامًا: "يَا هَذَا! لَا تُغْرِقَنَّ فِي سَبِّنَا، وَدَعْ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا؛ فَإِنَّا لَا نُكَافِئُ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِينَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ نُطِيعَ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- فِيهِ".

ومن بواعث الحلم: الترفع عن السباب, وقطع أسبابه وعِفَّة اللسان عن الفحش والتفحش, أَكْثَرُ رَجُلٌ مِنْ سَبِّ الْأَحْنَفِ -رحمه الله- وَهُوَ لَا يُجِيبُهُ فَقَالَ: "وَاَللهِ مَا مَنَعَهُ مِنْ جَوَابِي إلَّا هَوَانِي عَلَيْهِ", وحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِضِرَارِ بْنِ الْقَعْقَاعِ: "وَاَللهِ لَوْ قُلْت وَاحِدَةً لَسَمِعْتَ عَشْرًا", فَقَالَ لَهُ ضِرَارٌ: "وَاَللهِ لَوْ قُلْت عَشْرًا لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً", وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ:

إذَا نَطَقَ السَّفِيهُ فَلَا تُجِبْهُ
            فَخَيْرٌ مِنْ إجَابَتِهِ السُّكُوتُ

وقال بعض الحكماء: "في إعراضِكَ صَونُ أعرَاضِك, وإذَا سَكَتَّ عَنْ الْجَاهِلِ فَقَدْ أَوْسَعْتَهُ جَوَابًا وَأَوْجَعْتَهُ عِقَابًا", ولتعلم أنَّه خير لك أن تحتمل السفيه لا أن تتحلى بصورته, وأن تغضي عن الجاهل لا أن تشاكله.

ومن بواعث الحلم: أن تفكِّر في كلامك وعواقبه, فقد يقع على سفيه يؤذي أو أحمق لا يُدرِكُ مغبَّة تصرُّفه, وكما قيل: "الحِلم حجاب الآفات", فالحليم يحجبه حلمه فلا تصل إليه تلك الآفات قال الناظم:

اُرْفُقْ إذَا خِفْتَ مِنْ ذِي هَفْوَةٍ خَرَقًا
             لَيْسَ الْحَلِيمُ كَمَنْ فِي أَمْرِهِ خَرَقُ

سبَّ رجل ابن عباس -رضي الله عنهما- فلما فرغ قال: "يا عكرمة! هل للرجل حاجة فنقضيها؟" فنكَّس الرجل رأسه واستحى, وقال علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "لَيْسَ الْخَيْرُ أَنْ يَكْثُرَ مَالُكَ وَوَلَدُكَ, وَلَكِنَّ الْخَيْرَ أَنْ يَكْثُرَ عِلْمُكَ وَيَعْظُمَ حِلْمُكَ".


تعريف الأناة وعاقبتها الحميدة


ومن الأخلاق التي يحبها الله: الأناة وهي عدم العجلة في طلب شيء من الأشياء, والتمهُّل والترفق, والتثبت حتى يستبين الصواب, وبالتأني يحصل المراد, ومن تأنَّى في أمره, أُعطيَ توفيقاً ومُنح صواباً, وحَمِدَ العاقبة, قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "التَّأَنِّي مِنَ اللهِ , وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ"

الرفق يُمنٌ والأناة سعادة
            فتأنَّ في أمرٍ تُلاقِ نجاحا


ذم العجلة وبيان علامات صاحبها


ينبغي على المرء أن يستصحب التأنّي في جميع أموره؛ ففي ذلك السلامة, وفي العجلة الندامة.

لا تعجلنَّ فربَّما
             عَجِل الفتى فيما يضرُّه

ومن علامات العجول:

  • أولاً: استعجاله إجابة الدعاء, يقول: "دعوت دعوت؛ ولم أر يُستجب لي", والصواب أن يدعو ويلحَّ في الدعاء ويتأنَّى فلا يستعجل الإجابة.

  • ثانياً: دخول العجول في أمر لا يعنيه؛ ظنَّاً منه أنَّه يعنيه, فإذا استبصر وتأنَّى وتفكَّر علم أنَّه دخل في أمر ليس من شأنه.

  • ثالثاً: أنَّ العجول يتكلَّم قبل أن يعلم؛ فيقع في أخطاء عجلته, فيظهر جهله ويستبين الناس أمره.

  • رابعاً: أنَّ العجول يحكم على الشيء قبل تصوره تصوراً صحيحاً, وقبل التثبت؛ فيقع في الظلم الذي هو ظلمات يوم القيامة.

  • خامساً: أنَّ العجول يستعجل الشيء قبل أوانه؛ فيعاقب بالحرمان, كما في القاعدة الفقهية: "من استعجل شيئاً قبل أوانه؛ عوقب بحرمانه".

  • سادساً: أنَّ العجول يلومُ غيره قبل أن يعلم عذره, فإذا علم عذر صاحبه اعتذر منه على لومه, وندِم على عجلته.

  • سابعاً: أنَّ العجول لا يُتقن عمله, لاستعجاله في إنجازه, قال أَبُو حاتم -رحمه الله-: "العَجِلُ يقول قبل أن يعلم, ويُجيبُ قبل أن يفهم, ويَحمِدُ قبل أن يُجرِّب... تصحبه الندامة وتعتزله السلامة", وقال ابن القيم -رحمه الله-: "العجلة من الشَّيْطَان؛ فَإِنَّهَا خفَّة وطيش وحِدَّةٌ فِي العَبْد, تَمنعهُ من التثبت وَالْوَقار والحلم, وتوجب لَهُ وضع الْأَشْيَاء فِي غير موَاضعهَا, وتجلب عَلَيْهِ أنواعاً من الشرور, وتمنعه أنواعاً من الْخَيْر وَهِي قرين الندامة"(الروح).

فإياكم والعجلة؛ فإنَّها تمنع من التثبت والنظر في العواقب, وهي أمُّ الندامات, وتخلَّقوا بالحلم والأناة, ولينظر كلٌّ منَّا إلى نفسه هل اتصفت بالحلم والأناة مع إخوانه وأخواته وأبنائه وبناته وأهل بيته وجيرانه وأصحابه؟ أم أنَّه غضوب عجول كثير التشكي؟ فلنعمل -يا عباد الله- على مجاهدة أنفسنا تقويماً لها وإصلاحاً؛ لنجني فوائد وثمرات ذلك.


من فوائد الحلم والتأني


من فوائد الحلم والتأني أنَّهما صفتان يحبهما الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-, وتدلُّ على كمال عقل المتصف بهما, ومن كان حليماً متأنياً فإنَّه ينال محبة الله -تعالى- ثم محبة الناس, وبالحلم والأناة تتآلف القلوب وتجتمع, وتسود المحبة في المجتمع, وهي من علامات توفيق الله لعبده.


المرجع :

لا تنس ذكر الله
سبحان الله والحمدلله ولا إله إلا الله
0 / 100

إقرأ المزيد :



عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية