تنبيهات تربوية تخص الآباء
عباد الله، لقد أمر الله أمرًا واجبًا بطاعة الوالدين والبر بهما والإحسان إليهما، وأكَّد ذلك في آيات كثيرة كلنا نعلمها ونحفظها، ونريد اليوم أنْ نتحدث عن مفهوم هذه الطاعة، ونُنبه إلى بعض الأخطاء الواردة في ذلك، وعلى صور من الظلم الذي يقع من الآباء تجاه أبنائهم في التربية، وذلك من باب النصيحة، وحتى تستقر البيوت وتزول المشاكل، ويصلح الحال بإذن الله.
إن طاعة المسلم هي لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وطاعة الآخرين هي طاعة مقيدة بطاعة الله ورسوله، وليس عندنا كما عند النصارى طاعة كهنوتية وذل مطلق، كما أنه ليس عندنا تفلُّت وتهجُّم على أصحاب الحقوق، وإنما يجب في ديننا أنْ نعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه.
بعض الآباء - هدانا الله وإياهم - يتصور المسؤولية التي أولاه الله سبحانه وتعالى له على أبنائه بتصوُّرات خاطئة، فيتخيل أنَّ مهمته عليهم أنْ يضربهم، ويأخذ أموالهم، ويتحكَّم فيها بلا بصيرة ولا فقهٍ، وهذا في الحقيقة تصور خاطئ وتربية مغلوطة، وهي نتاج تخيُّلات بعض الآباء وتصرفاتهم، ولهذا ضجَّت البيوت بالمشكلات، وزادت الفرقة والاختلافات بين الأسرة الواحدة بسبب الانعكاسات السيئة لمثل هذه التصرفات؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58].
وأوجب الواجبات وأهم الأمانات الأسرية، هو العدل بين الأبناء والإصلاح بينهم، والقيام بحقوقهم بلا إفراط ولا تفريط، ولا يجوز للأب أبدًا أن يظلمهم أو يتسلَّط عليهم، أو يتسبب في تشريدهم والتضييق عليهم حسيًّا ومعنويًّا، بحجة أنه هو المسؤول عليهم، أو بحجة أنه هو من رباهم وعلَّمهم؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8].
روى التاريخ أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يخاطب رعيته، فيقول لهم عن عماله وولاته في الأمصار: "إني استعملتُ عليكم عمَّالي هؤلاء، ولم أستعملهم؛ ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم، ولا من أعراضكم، ولكن استعملتهم لِيَحْجِزُوا بَيْنَكُمْ أَوْ يَرُدُّوا عَلَيْكُمْ فَيْئَكُمْ، فَمَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَلْيَقُمْ..".
إنَّ في واقعنا بعض التصرفات الخاطئة التي تصدر من بعض الآباء - هداهم الله - تجاه حقوق أبنائهم، ومن هذه التصرفات:
أنَّ بعض الآباء يغلِّب مع أبنائه جانب المعاملة القاسية، وتراه كثيرًا ما يستخدم معهم الأسلوب الفظ والكلمات الجارحة، والعبارات المؤلمة التي تشعرهم بالهوان وعدم الاعتبار، وتجعلهم يرون في أبيهم الشدة والغلظة التي تجعلهم يتحسَّسون في أنفسهم منه، وينفضُّون من حوله، ويتهربون عن مجالسته، ويخشون من إبداء آرائهم في حضرته، ويخافون من مجرد الكلام في ظل وجوده. وكل هذا أسلوب نهى الله عنه وحذَّر مربيَ البشرية عليه الصلاة والسلام منه، فقال سبحانه: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159].
وبعض الآباء يعامل أبناءَه الكبار معاملة الأطفال الصغار، فلا يثق بهم ولا يُحمِّلهم شيئًا من المسؤوليات، ولا يمنحهم شيئًا من التصرفات؛ لأنهم في نظره مجرد أولاد لا يراعون ولا يأبهون، وأنه يجب أن يكون هو المسؤول الأول والأخير عن كل صغيرة وكبيرة في البيت، وما عليهم إلا أنْ يتبعوه فقط، وليس لهم من الأمر شيء، ولا من الرأي رأي، حتى وصل الحال ببعض الآباء ألا يثق بأحدٍ منهم حتى في شراء حاجات البيت، فهو فقط من يشتري الحاجات، وهو فقط من يقود السيارة، وهو فقط من يتولَّى جميع المهمات، وهذا الأسلوب ينتج عنه شعورهم بأن آبائهم هم السبب في تجهيلهم وعدم الثقة فيهم، ومِن ثم مطالبتهم بالاستقلالية وحرية التصرف في كل شيء.
ومن صور الظلم الواقعة من بعض الآباء تجاه أبنائهم الكبار: الفَهم الخاطئ لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم "أنت ومالك لأبيك"، فيظن الأب أنَّ على أبنائه أن يعطوه كل أموالهم، وأنْ يُسلِّموه جميع أتعابهم وجهودهم، وأنهم ليس لهم من المال فلس، ويجب على كل واحد منهم أنْ يأتي بكل ما عنده، فيضعه بين يديه، وهو فقط من يتصرف في هذه الأموال، وكأنهم لا حاجة لهم في شيء، حتى في الاحتياجات الخاصة التي يحتاجها الواحد منهم لنفسه أو لزوجته وأولاده. وهذا خطأ واضح نتَج عنه آثار اجتماعية وأخلاقية، فكم من أبناء يرون أنفسهم محرومين من أشياء ضرورية بسبب تسلُّط أبيهم على أموالهم وتصرُّفه وحْدَه فيها، وربما تمنى بعضهم موته بسبب هذا الشح والتسلط منه تجاههم، فإذا مات فعلًا صاروا من أكبر المبذرين والمتلاعبين بهذه الأموال التي يرون أنهم كانوا محرومين منها، فيريدون التعويض عن سنوات القهر والحرمان التي عاشوها، فإياكم إياكم أيها الآباء أنْ تكونوا سببًا لوصول الأبناء لهذا الحال الخاطئ بداية ونهايةً.
ومن الخطأ في التربية عند بعض الآباء معاملة أبنائه بأساليب يرى هؤلاء الأبناء أنها لا تناسب عصرهم، ولا توازي حياتهم، فيرون أنَّ أباهم يريد أنْ يحرمهم من أشياءَ هي من متطلبات العصر، والأب العاقل لا ينبغي له أنْ يحرم أبناءَه من بعض المتطلبات العصرية التي لا تخالف الدين، وليس فيها محذور شرعي؛ كأن يمنع الأب ابنه من المشاركة في شيء من الفعاليات الاجتماعية، أو يحول بينه وبين شراء بعض الأشياء التي تعد اليوم من الأشياء الضرورية.
ومن خطأ الآباء في تعاملهم مع أبنائهم: مخالفة إجماعهم وعدم التنازل لهم، والتمسك بالرأي حتى ولو كان خطؤُه ظاهرًا، فيظل الأب مستمسكًا برأيه مصوِّبًا له، رغم مخالفة الجميع له في الرأي، فيقع الأبناء في الحرج؛ فإما أنْ يخالفوا أمره، فيشعروا بالذنب، وإما أن يُطبقوا قوله وهم له كارهون، فيشعروا بفعل الخطأ البيِّن، وكلاهما في نظرهم مُرٌّ.
وعلى الأب أنْ يكون سهلًا إذا أجمع جميع من في البيت على رأي؛ حتى لا يكون في ذلك إرهاق لهم ومشقة عليهم؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ ﴾ [البقرة: 83].
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية :
أيها الآباء الكرام، كونوا عونًا لأبنائكم، وخذوا بأيديهم، ولا تخذلوهم في أوقات حاجتهم إليكم، ولا تُكلفوهم فوق ما يُطيقون، فإنما الطاعة في المعروف؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، روى البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، وأمر عليهم رجلًا من الأنصار، وأمرهم أن يُطيعوه، فغضب عليهم، وقال: أليس قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: قد عزمت عليكم لما جمعتم حطبًا وأوقدتم نارًا، ثم دخلتم فيها فجمعوا حطبًا، فأوقدوا نارًا، فلما هموا بالدخول، فقام ينظر بعضهم إلى بعض، قال بعضهم: إنما تبعنا النبي صلى الله عليه وسلم فرارًا من النار، أفندخلها؟ فبينما هم كذلك، إذ خمدت النار، وسكن غضبه، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها أبدًا، إنما الطاعة في المعروف».واعلموا - أيها الآباء - أنَّ سعادة البيوت واستقرارها، وسعادتكم أنفسكم بسعادة أبنائكم، وشقاء البيوت ومشاكلها بأيديكم، فأحسِنوا التصرف، والزموا العدل بين أبنائكم؛ فإن الله عدل يحب العدل: ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأنعام: 152].
وإياكم والكرهَ لأحد من الأبناء، فإن في ذلك شقاءً أسريًّا تستمر عواقبُه في أبنائكم وأجيالكم، فاتقوا الله وأحسِنوا التربية، واستعينوا بالله والصبر والدعاء والموعظة الحسنة، واطلبوا التوفيق من الله، فإن من طلب التوفيق منه سدَّده ويسَّر أموره: ﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 160].
يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: «اعدلوا بين أولادكم في العطية»، وهل للوالد أنْ يرجع في عطيته، وما يأكل من مال ولده بالمعروف، ولا يتعدى.
لا تنس ذكر الله
سبحان الله العظيم
0 / 100
إقرأ المزيد :
الفئة: خطب إسلاميةالأسرة المسلمة