ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا

ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا

ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا


الخطبة الأولى

الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

أما بعد أيها المسلمون

روى الامام مسلم في صحيحه : (عَنْ جَابِرٍ قَالَ أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَ « أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ ». فَقَالَ لاَ. فَقَالَ « مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي ». فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِىُّ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَجَاءَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ « ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلأَهْلِكَ فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِى قَرَابَتِكَ فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا ». يَقُولُ فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ.

إخوة الإسلام

في الصحيحين :(عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ».
فالمتأمل للنصوص التي جاءت آمرة بالصدقة مرغبة فيها يدرك ما للصدقة من الفضل الذي قد لا يصل إلى مثله غيرها من الأعمال، حتى قال عمر رضي الله عنه: "ذكر لي أن الأعمال تباهي، فتقول الصدقة: أنا أفضلكم" [صحيح الترغيب].

لذا سوف يكون حديثنا اليوم -إن شاء الله تعالى- حول معنى هذا الأدب النبوي الكريم ،والذي يحثنا فيه صلى الله عليه وسلم على الصدقة والنفقة والإحسان، وأن يبدأ المرء بأهله وبقراباته ثم يتوسع في الصدقة ها هنا وها هنا، ففي الحديث دلالة على أن الصدقة والإحسان تكون في الأهل أولًا، ثم في القرابات، ثم ما وراء ذلك من وجوه الخير كما قال الله جل وعلا: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ) [النساء:36]، ولما سئل النبي ﷺ: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: ثم أباك قال: ثم من؟ قال: ثم الأقرب فالأقرب.

هكذا رتَّبَ الإسلامُ أولويَّاتِ الناسِ في النَّفقةِ والصَّدقةِ، وعلَّمَنا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك؛ حتى تَسِيرَ الحياةُ بصُورةٍ طيِّبةٍ، ولا يُظلَمُ فيها أحدٌ، ولا تَضطرِبُ الحُقوقُ والواجباتُ عندَ الناسِ، وفي هذا الحديث يقول جابرُ بنُ عبدِ اللهِ : "أعتَقَ رجُلٌ مِن بني عُذْرةَ عبْدًا له عن دُبُرٍ"، أي: قرَّرَ الرَّجلُ أنَّه بعدَ أنْ يَموتَ يُصبِحُ مَملوكُه حُرًّا، "فبلَغَ ذلك رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: "ألكَ مالٌ غيرُه؟ فقال: لا"، فبيَّنَ قولُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ سَببَ بَيعِه للعبدِ هو كونُ المعتِقِ فقيرًا لا يَملِكُ شيئًا غيرَ هذا العبدِ، "فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَن يَشتريهِ منِّي؟" فاشتراهُ نُعَيمُ بنُ عبدِ اللهِ العَدويُّ بثَمانِ مِئةِ دِرهمٍ، فجاء بها رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فدفَعَها إليه، ثمَّ قال: "ابدَأْ بنفْسِك فتَصدَّقْ عليها"، أي: اهتَمَّ بنفْسِك وتَصدَّقْ عليها؛ بإكرامِها وبالنَّفقةِ في الخيرِ، "فإنْ فضَلَ شَيءٌ فلِأهْلِك"، أي: فهو لأهْلِك، فتُنفِقُه عليهم، "فإنْ فضَلَ عن أهْلِك شيءٌ فلِذي قَرابتِك"، أي: لِأقْرِبائك الذين لَيسوا مِن أهْلِك، "فإنْ فضَلَ عن ذي قَرابتِك شيءٌ فهكذا وهكذا"، أي: تَتصدَّقُ به في وُجوهِ الخيرِ، كما بيَّنَ المُشارَ إليه بقولِه: "يقول: فبيْن يَدَيك، وعن يَمينِك، وعن شِمالِك". وهذا التَّرتيبُ إذا تأمَّلْتَه، علِمْتَ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدَّم الأَولى، فالأَولى، والأقْربَ؛ وهو أنَّه أمَرَه بأنْ يَبدَأَ بنفْسِه، ثم بأهْلِه؛ مِن الزَّوجةِ، والولدِ، أو الوالدينِ، ثمَّ الأقاربِ، ثم ما بقِيَ فيُمكِنُه التَّصرُّفُ فيه.

أيها المسلمون

وفي الحث على الانفاق والصدقة والتصدق ،يقول الله تعالى : (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (219) البقرة ،فقوله تعالى: {قُلِ الْعَفْوَ} يعني الفضل أو الزائد عن حاجتك وحاجة أهلك ومن تلزمك نفقتهم، وفي صحيح البخاري :(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ » ،وفي سنن البيهقي :(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي دِينَارٌ قَالَ :« أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ ». قَالَ : عِنْدِي آخَرُ. قَالَ :« أنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ ». قَالَ : عِنْدِي آخَرُ. قَالَ :« أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ ». وَفِى حَدِيثِ أَبِى عَاصِمٍ :« عَلَى زَوْجَتِكَ ». قَالَ : عِنْدِي آخَرُ. قَالَ :« أَنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِكَ ». قَالَ : عِنْدِي آخَرُ. قَالَ :« أَنْتَ أَعْلَمُ ». وَفِى حَدِيثِ أَبِى عَاصِمٍ :« أَنْتَ أَبْصَرُ » ، وفي صحيح مسلم :(أن أَبَا أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ وَلاَ تُلاَمُ عَلَى كَفَافٍ وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى ».فيه أيضا : (عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو إِذْ جَاءَهُ قَهْرَمَانٌ لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَ أَعْطَيْتَ الرَّقِيقَ قُوتَهُمْ قَالَ لاَ. قَالَ فَانْطَلِقْ فَأَعْطِهِمْ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ »، وفي سنن أبي داود : (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ قَالَ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بِمِثْلِ بَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ هَذِهِ مِنْ مَعْدِنٍ فَخُذْهَا فَهِيَ صَدَقَةٌ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا. فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ رُكْنِهِ الأَيْمَنِ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ رُكْنِهِ الأَيْسَرِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ خَلْفِهِ فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَحَذَفَهُ بِهَا فَلَوْ أَصَابَتْهُ لأَوْجَعَتْهُ أَوْ لَعَقَرَتْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ فَيَقُولُ هَذِهِ صَدَقَةٌ ثُمَّ يَقْعُدُ يَسْتَكِفُّ النَّاسَ خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى »، وفيه : (عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ مَالِكِ بْنِ نَضْلَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الأَيْدِي ثَلاَثَةٌ فَيَدُ اللَّهِ الْعُلْيَا وَيَدُ الْمُعْطِي الَّتِي تَلِيهَا وَيَدُ السَّائِلِ السُّفْلَى فَأَعْطِ الْفَضْلَ وَلاَ تَعْجِزْ عَنْ نَفْسِكَ ».،

أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

أما بعد أيها المسلمون

روى البخاري عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ
يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ»،
فهذا تصريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النفقة على الأهل كالصدقة في أجرها ،وعليه أن يحتسب ذلك أنها صدقة، وهذا سيدفع كثيرًا من الرجال إلى توسيع النفقة على الأهل؛ فشعور الرجل أنه "مضطر" إلى الإنفاق لأن هذا واجبه وفرضٌ عليه قد يُضجره ويُظْهِر الشُحَّ الذي في نفسه، أما تصوير الإنفاق على أنه صدقة؛ فهذا يُرِيح النفس جدًّا، ويفتح أمامها مجالات كثيرة للانطلاق، ويدعم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الفِكْر بأحاديث عدَّة؛ فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ».

هكذا يبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم الطريقة المثلى في استثمار المال على الوجه الذي يرضي الله تبارك وتعالى ،فطوبى لمن أنفق مالا جمعه في غير معصية، ورحم أهل الذلة والمسكنة، وطوبى لمن طاب كسبه، وصلحت سريرته، وكرمت علانيته، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله " .

أيها المسلمون

ومما نستخلصه من هذا الحديثِ: أنَّ أفضَلَ الصَّدقةِ الصَّدقةُ على النفْسِ، ثمَّ الأهلِ، ثمَّ الأقرباءِ.
وفيه: أنَّ الحُقوقَ إذا تَزاحَمت قُدِّمَ الأوكدُ، فالأوكدُ. وفيه: أنَّ الأفضلَ في صَدقةِ التَّطوُّعِ أنْ يُنوِّعَها الإنسانُ في جِهاتِ الخيرِ بحَسبِ المصلحةِ، ولا يَنحصِرُ في جِهةٍ بعَينِها.

لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية