خطبة عن سعد بن معاذ رضي الله عنه

خطبة عن سعد بن معاذ رضي الله عنه

خطبة عن سعد بن معاذ رضي الله عنه



الخطبة الأولى

أما بعد:
أيها الأحباب الكرام، أجدد الترحيب بكم لنعيش مجددًا بصحبة صحابي جليل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع رجل عظيم حوى لؤلؤة السيادة، وتملَّك زمام القيادة، وبهر الناس بشجاعته، وبَزَّهم ببيانه، وفاقهم برأيه وحكمته.

كان من أعظم الناس جَنانًا، وأقومهم سلطانًا، وأصدقهم هدًى وإيمانًا، كان من جيل القرآن الذين تربَّوا على مأدُبتِه ينهلون بلا ارتواء، ويعملون بلا انقضاء، ويمضون على اهتداء.

رفع الإسلام من بطولته، وأعلى من كلمته، وزاد من فضله وقيمته، لم يكن ليسعدَ بلا إيمان، ولا ليعزَّ بلا قرآن، فسارع رضي الله عنه وأرضاه مع المسارعين، وبادر مع المبادرين، وسابق مع المتسابقين، وجانب طرائق المخالفين، وما إن غمرتْهُ السعادة، واحتواه الايمان، وخالطت العقيدة بشاشةَ قلبه إلا وقام ينفض غبار الوثنية، ويجعل النخوة الجاهلية نخوةً إسلامية؛ تقيم الحق، وتُزهِق الباطل، وتصلح الخَللَ والاعوجاج؛ فهو في أول أيام إسلامه داعيةٌ صدَّاح، وخطيبٌ مفوَّهٌ، يصبُّ الكلماتِ صبًّا، وينشرها أريجًا ومسكًا، ويُؤلِّفها ريحانًا وعطرًا، نادى في قومه أن لا عزَّ لكم إلا بالإسلام، ولا حياة لكم إلا بالإيمان؛ فقال لهم ووجهه مشرق بالإيمان وقلبه غامر بالسعادة: "يا بني عبدالأشهل، كيف تعلمون أمري معكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيًا وأيمننا نقيبة، فقال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرامٌ حتى تؤمنوا بالله ورسوله"، لقد شقَّت هذه الكلمات دياجيرَ الظلمات، وأعادت في المدينة البسمةَ بعد التعاسة والنكبات، فما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلا مسلمًا ومسلمة سوى رجلٍ واحد، فيا تُرى من هذا المعلم؟ ومن هذا الناصح الأمين؟ ومن هذا الأسد العملاق؟ ومن هذا القائد الشجاع؟!

إنه الصحابي الجليل الذي ما اهتزَّ لموته جبلٌ، ولا اهتزت أرض، إنما اهتز لموته عرشُ الرحمن جل جلاله، إنه الصحابي الجليل سعد بن معاذ رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، هو ابن النعمان السيد الكبير الشهيد أبو عمرو الأنصاري الأوسي الأشهلي البدري، وُلد في السنة التاسعة عشرة قبل الهجرة، وأسلم رضي الله عنه وأرضاه قبل الهجرة وعمره إحدى وثلاثون سنة على يد الصحابي مصعب بن عمير رضي الله عنهما، كان رجلًا أبيض طُوالًا، جسيمًا، أَعْينًا، حَسنَ الوجه، حسن اللحية، شهِد بدرًا وأحدًا، ورُمي يوم الخندق فعاش بعدها شهرًا، ثم انتفض جرحه فمات على أثره.

أيها المسلمون الكرام، ذلك الرعيل المؤمن أخرج لنا سعد بن معاذ الأمير القائد، والبطل المجاهد،

فتعالَوا معي على جناح السرعة لنسمع شيئًا من أخباره، ونجنيَ من أزهاره وأعطاره من الدروس والعِبر المفيدة التي نحتاجها في حياتنا.

ففي غزوة بدر الكبرى عقد الرسول صلى الله عليه وسلم مجلسًا استشاريًّا لملاقاة المشركين وصدِّ عدوانهم خارج المدينة، فجمع في هذا المجلس كبار الصحابة وطلب مشورتهم، فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو رضي الله عنه فتكلم وأحسن، وبعد سماع النبي الكريم لهؤلاء الثلاثة القادة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أشيروا عليَّ أيها الناس - وإنما يريد الأنصار - وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله، إنا بُرآءُ من ذِمامِك حتى تصلَ إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذِممنا نمنعُك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألَّا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دَهَمَهُ بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدوٍّ من بلادهم، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، قال له سعد بن معاذ: والله لَكَأنَّك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل، قال: فقد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لما أمرك الله، فوالذي بعثك بالحق، إن استعرضتَ بنا هذا البحر فخضتَه لخضناه معك، ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكرهُ أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنَّا لَصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقرُّ به عينُك، فَسِرْ بنا على بركة الله، فَسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشَّطه ذلك، ثم قال: سيروا على بركة الله وأبشروا؛ فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.»

ما أجملها من كلمات! وما أروعها من عبارات! لقد وثَّق سعد بن معاذ بهذه الكلمات الرنانة البيعةَ الصادقة، وزادها تأكيدًا، مقررًا خوضَ المعركة بالأنفس الباسلة التي تجتاح جموع الشرك في أشد الأوقات وأحلك الظروف، إنها شعار الإقدام والبسالة، وعنوان التضحية والجسارة:

فلسنا على الأعقاب تدمى كُلومُنا
ولكن على أقدامنا تقطر الدَّما
تأخرتُ أستبقي الحياة فلم أجدْ
لنفسي حياةً مثل أن أتقدَّما

إخواني وأحبابي الكرام، وفي ساعة أخرى شديدة تدنو فيها سهام الموت، ويتسع البلاء بسعد بن معاذ رضي الله عنه، فأصيب يوم الخندق بسهم صدَّ من تقدمه وأوقف جهاده وإصراره، لكنه رضي الله عنه وأرضاه لم يفقد الأمل، ولم يتذرَّع بالوجع بل يصنع الطموح في وقت الجراح، ويولد العزيمة أثناء الكروب والشدائد؛ ففي مسند أحمد بسند حسن قال سعد بن معاذ عندما أصابه السهم يوم الخندق، واسمعوا هذه الكلمات الذهبية التي نطق بها لسان الصدق والزهد والشجاعة والورع: "اللهم إن كنتَ أبقيتَ من حرب قريش شيئًا، فأبقني لها"، ما زالت نفسه تتمنى الذَّود عن دينها وعقيدتها، "اللهم إن كنتَ أبقيتَ من حرب قريش شيئًا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحبُّ إليَّ من أن أجاهدهم فيك من قوم آذَوا نبيك وكذبوه وأخرجوه"، ثم قال: "اللهم إن كنتَ وضعتَ الحربَ بيننا، فاجعلها لي شهادةً ولا تُمِتْني حتى تُقِرَّ عيني من بني قريظة".

يا لها من كلمات! ويا لها من أمنيات! ويا لها من عباراتٍ سطَّرها التاريخ بحروف من ذهب لتكون عبرةً للأجيال تلو الأجيال إلى قيام الساعة!

من يجود بمثل هذه الكلمات في موطن البلاء والسقم؟ من يعالج في نفسه حبَّ الدَّعَة والارتياح؟

من تشتاق نفسه لميادين الرهب والخوف؟ إنه لقلبُ المؤمن الذي أشرق بالقرآن وامتلأ بالإيمان، إنه قلب سعد بن معاذ الذي لم يُقِم للدنيا وزنًا، ولم يرفع لها رأسًا، ولم يهبْها عقلًا أو بالًا، لقد صانه الله من أن يكون من عبيد الدنيا، ومن أن يكون ممن يلهثون وراء فُتاتها، ويُخدعون بمفاتنها وبظلِّها المزيف وسرابها الخادع، فبات رضي الله عنه وأرضاه طالبًا للآخرة وساعيًا للشهادة وراغبًا فيما عند الله: ﴿ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الشورى: 36].

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ويا فوز المستغفرين ويانجاة التائبين...

الخطبة الثانية

أما بعد:
فيا أيها الأحباب الكرام، وفي يوم من الأيام الحزينة التي مرت على المسلمين يموت الصحابي سعد بن معاذ في عرينه من أثر السهم الذي أُصيب به يوم الخندق، مات الأسد سعد بن معاذ بعدما حكم في بني قريظة بحكم الله تعالى، مات سعد بن معاذ في عام الخندق في السنة الخامسة من الهجرة وعمره يناهز السابعة والثلاثين.

وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم دفن سعد بن معاذ وهو قاعد على قبره قال: «لو نجا أحد من فتنة القبر أو مسألة القبر، لنجا سعد بن معاذ ولقد ضُمَّ ضمةً ثم أُرخي عنه».

إنه القبر أيها المسلمون الذي سيحتضن ويضم بضمته الجميعَ: المسلم والكافر، البر والفاجر، الأبيض والأسود، الذكر والأنثى، الحر والعبد، الغني والفقير، فإما أن تكون ضمة رحمة وحنان وشفقة ورأفة كضمَّةِ الأم لوليدها، أو تكون ضمةَ عذابٍ وويلٍ وهلاك وخسران تختلف لذلك أضلاع صاحبها:

القبر روضة من الجنانِ
أو حفرة من حفر النيرانِ
إن يكُ خيرًا فالذي من بعدِهِ
أفضل عند ربنا لعبدِهِ
وإن يكُ شرًّا فما بعدُ أشد
ويلٌ لعبد عن سبيل الله صد

نعم أحبابي الكرام، ضمَّ القبر سعدًا وهو أحد الصحابة الأجلاء الذين أبلَوا بلاءً حسنًا، ونصر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقدم روحه في سبيل دينه وعقيدته، ضمَّ القبر سعدًا وهو الصحابي الوحيد الذي اهتز لموته عرش الرحمن، وفُتحت له أبواب السماء؛ كما قال ذلك رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في حديثه: «هذا العبد الصالح الذي تحرك له العرش، وفُتحت له أبواب السماء، وشهِده سبعون ألفًا من الملائكة لم ينزلوا إلى الأرض قبل ذلك»، فأي كرامة هذه؟ وأي فضل هذا الذي ناله سعد بن معاذ بأن تفتح له أبواب السماء، ويشهد جنازته سبعون ألفًا من الملائكة، ويتحرك ويهتز لموته عرش الرحمن؟ والعرش خلق مسخر إذا شاء أن يهتز اهتز بمشيئة الله؛ يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: "اهتز العرش لموت سعد بن معاذ من فرح الربِّ عز وجل".

فبالله عليكم أحبتي، ما الذي فعله سعد لينال هذا الوسام ويحوز هذا الشرف؟ ماذا قدم سعد، وماذا فعل لينال هذه الدرجة الرفيعة والمنزلة العالية؟ ما عبادته، ما صيامه، ما قيامه لينال كرامة أن يهتز له عرش الرحمن وتنزل حشود من الملائكة لتشييعه؟ وفي كم من العمر أمضاه في خدمة دين الله والجهاد والدعوة في سبيل الله؟ في عمر قصير لا يتجاوز ستَّ سنوات؛ فلقد أسلم وعمره إحدى وثلاثون سنة ومات وعمره سبع وثلاثون سنة؛ يعني: ست سنوات فقط قضاها في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وخدمة دينه، ست سنوات كانت كفيلة لأن يهتز العرش فرحًا به واستعدادًا لاستقباله، بيد أنه رضي الله عنه وأرضاه كما قيل عنه وقف أربعةَ مواقف لم يقفها إلا سعد:

الموقف الأول:

في الدعوة إلى الله حين دعا قومه إلى دين الله، وقال لهم بلسان الشجاع:"إن كلام نسائكم ورجالكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله"؛ فما أمسى فيهم رجل أو امرأة إلا مسلم ومسلمة.

الموقف الثاني:

موقفه في الغزوات؛ فلقد شهد بدرًا وأحدًا والخندق، ونافح وكافح في سبيل نصر الدين وحماية العقيدة.

الموقف الثالث:

موقفه في الذَّبِّ عن عرض النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومن أهمها في حادثة الإفك وهو يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ويقول: «من يعذِرني من رجل بلغ أذاه في أهل بيتي، فقال سعد بن معاذ: أنا أعذِرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك...».

المواقف الرابع:

موقفه في البراءة من الموالي والأولياء من دون الله، وذلك حينما حكم في بني قريظة بحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

فاستحق رضي الله عنه وأرضاه بهذه المواقف وهذه الحياة القصيرة في ست سنوات فقط أن يهتز له عرش الرحمن وأن يشيِّعَه سبعون ألفًا من الملائكة.

ست سنوات فقط كانت كفيلة لأن يكون هذا الهُمامُ من أهل السبق والفضل ومن الذين أنعم الله عليهم.

مات سعد بن معاذ سيد الأنصار، لكن لم تمت أخباره البهية ولا آثاره المرضية.

مات سعد وفارق الدنيا تاركًا مبادئَ رواها، وأخلاقًا أحياها، ومُثُلًا أسسها وبناها.

مات سعد وأبقى لنا تراث البطولة الصادقة والتضحية الجبارة التي تعيش لتسمو بالإسلام، وتعز لتُعليَ أهله كالأطواد والأعلام.

مات سعد وخلَّف لنا عقيدة الإيمان بالله التي لا تخشى النكبات، وتتحدى الرزايا والابتلاءات.

مات سعد بعد أن علَّمنا دروسًا في الصبر والعزيمة والاحتمال، وشرح لنا الحزم في المواقف ومنهاج السلامة لطلاب السلامة، وطريق الآخرة لمرتجي الثواب العظيم والمقام الكريم.

فطبتَ حيًّا وطبت ميتًا، وسلام عليك يوم أسلمتَ، ويوم جاهدتَ، ويوم مِتَّ، ويوم تُبعث حيًّا، ورضي الله عنك ورضي الله عن الصحابة أجمعين، وإلى الملتقى غدًا في دار تجمع سلامة الأديان والأبدان إلى جوار الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23].

﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

اللّهمّ صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد
0 / 100

إقرأ المزيد :



عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية