خطبة عن الصحابي عبدالرحمن بن عوف

خطبة عن الصحابي عبدالرحمن بن عوف

خطبة عن الصحابي عبدالرحمن بن عوف


الخطبة الأولى

الحمد لله؛ أما بعد:
أيها الأحباب الكـرام، أقف وإياكم اليوم مع قصة لأحد الصحابة الأجلاء، وأحد أغنياء مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وثامن ثمانية أسلموا قبل أن يصبح عددهم اليوم فوق المليار، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة الذين اختارهم عمر ليخلفوه في إمارة المؤمنين.

أسلم حديثًا قبل أن يُنشئَ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم دارَ الأرقم بن أبي الأرقم، ولقي رضي الله عنه من العذاب ما لقيه المسلمون الأولون، فصبر وثبت وصمد وكافح ونافح، وفرَّ بدينه إلـى الحبشة مع مَن فرَّ مِن المسلمين.

كثرةُ مناقبه وخِلالِه وصفاته تجعل القلم واللسان عاجزًا في إعطائه حقَّه، المناقب كلها في جهة، وصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم خلفه في جهة أخرى.

سنتحدث في جمعتنا هذه عن الصحابي الجليل والتاجر المعروف، وأحد مؤسسي التجارة الإسلامية في المدينة المنورة في بدايتها المبكرة، وأحد أكبر أثرياء مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم: عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه.

كان اسمه في الجاهلية عبد عمرو، وقيل: كان اسمه عبدالكعبة، فسمَّاه الرسول صلى الله عليه وسلم عبدالرحمن، أسلم عبدالرحمن بن عوف في وقت مبكر، وبعد حـديث الصبر والمصابرة والأذى الذي لحِقه ولحِق إخوانه، كان رضي الله عنه من طليعة المهاجرين الذين هاجروا إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وترك خلفه كل ما معه، ووصل إلى المدينة فقيرًا لا يملك شيئًا، وتنازل عما يمكن أن يأخذه بيده وجيبه؛ ليفِرَّ بدينه وقلبه؛ لأن حياة القلوب أولى، والعيش تحت ظلال العقيدة أروع، والعيش مع معالم الإيمان أبرك.

ولهذا كان (عبدالرحمن بن عوف) من طليعة المهاجرين، ولما وصل المدينة آخى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، فكان أنه وافق أخًا أنصاريًّا كريمًا وغنيًّا؛ هو سعد بن الربيع، الذي عرض على (عبدالرحمن) عرضًا مذهلًا؛ «فعرض عليه أن يناصفه أهلَه ومالَه» ، عرضٌ مغرٍ لكثير من الناس، أموال كثيرة بلا تعب، وزوجة وبيت بلا نصب، وفرصة سانحة للغِنى من غير كدٍّ ولا جهد، فماذا كان رد (عبدالرحمن بن عوف) على هذا العرض؟ قال له عبدالرحمن: «بارك الله لك في أهلك ومالك، دلَّني على السوق»، إنه عفافٌ يعجز القلم عن وصفه، وعزةُ نفسٍ لا تجدها إلا عند هؤلاء الرعيل، عزة نفس لا تجدها في غير هذه المواطن، عزة نفس في أرقى صورها وأبهى معانيها، ولهذا «دلني على السوق»، كلمة لا تنسوها أبدًا، هذه الكلمة رمز للعِفَّة التجارية والاعتماد على النفس، إنها كلمة تعبر عن لغة إيجابية صادقة، دفعًا للبطالة والضياع، ودفعًا للخمول والكسل، إن كلمة «دلني على السوق» تدل على أن كل من يتقن عملًا أو يُحسن حركةً أو يجيد مهنةً، فليبدأ باليسير ومِن لا شيء، وبعد ذلك: ﴿ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [البقرة: 212].

توكلتُ في رزقي على الله خالقي
وأيقنتُ أن الله لا شكَّ رازقي
وما يكُ من رزقي فليس يفوتني
ولو كان في قاع البحار الغوامقِ
سيأتي به الله العظيم بفضله
وإن لم يكن مني اللسان بناطقِ
ففي أي شيء تذهب النفس حسرةً
وقد قسم الرحمن رزقَ الخلائقِ

ولهذا من شخصية أكبر تجار الصحابة، نرسل الرسائل والإشارات لتجَّارنا اليوم؛ ليعودوا إلـى التجار الأوائل، ويعود البائع إلى البائعين الأوائل، نقول لهم: التجارة رحمة، التجارة مواساة، التجارة شفقة ورعاية، لا ظلم ولا احتكار لأقوات الناس.

وقد كان كثير من أهل المدينة عيالًا على عبدالرحمن، تحت رعايته، تحت اهتمامه، تحت نفقته، فهل سيحتاجون بعدها لليهود بجوارهم ليقترضوا منهم؟ أو هل سيحتاجون لمشركي مكة ليعطوهم؟ لا؛ فقد أغنتهم عن ذلك تجارهم، ورحِمهم أثرياؤهم، فعاشوا في رخاء وأمن وأمان وسلام واطمئنان؛ ولهذا فإن التجارة عند (عبدالرحمن) فكٌّ للمعسِرِ، وتجاوز عن محتاجٍ، وإعانة للضعيف، ورحمة للمنكوب، والتاجر الصدوق الأمين يتنازل عن لُعاعةٍ يسيرة، وأثرةٍ بسيطة، ولا يضر بحياة الناس، ولا يحبس عنهم ما ينفعهم، ولا يرفع الأسعار، ولا يحتكر، طامحًا إلى أن يصطحب بعد ذلك خير الخلق يوم القيامة.

التجارة عند (عبدالرحمن) لم تعتمد على كذب ولا غش ولا شرٍّ؛ لأن دستور تجارته:« المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا فيه عيب إلا بيَّنَهُ له».

هذه هي الأخلاقيات، وهذه هي المعاملات التي نشرت الإسلام في ربوع الجزيرة العربية وفي جنوب شرق آسيا وإفريقيا، هذه هي الأخلاقيات التي أخضعت العتاة، ورقَّقت قلوب القساة فدخلوا في دين الله أفواجًا:

جباههم ما انحت لغير خالقها
             وغير من خلقَ الأكوانَ ما عبدوا

أحبتي الكرام، بتجارة (عبدالرحمن بن عوف) الصادقةِ والنقية والطاهرة، كانت النتيجة بالرزق الوفير والبركة والخير الذي صُبَّ عليه صبًّا، وكيف لا يبارك الله له؟ كيف لا يعطيه؟ كيف لا يكرمه؟ وقد حظي بدعوة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم له؛ حيث قال: «اللهم اسقِ عبدالرحمن بن عوف من سلسبيل الجنة»؛ [أحمد].

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.

الخطبة الثانية

أمـا بعد:
نقف اليوم مع قصة الصحابي الجليل وتاجر من مدينة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (عبدالرحمن بن عوف)، صاحب التجارة النظيفة والنقية، التي لم تكن في ربًا أو في مراباة؛ لأنه يتلو قول ربه جل وعلا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 278، 279].

ومع هذا لم يكن (عبدالرحمن بن عوف) ذلكم التاجر الذي تشغله تجارته عن الله؛ فلم يقصر في جمعة، ولم يبتعد عن جماعة، ولم يفرط في نافلة، فكان للقرآن تاليًا، ولربه ذاكرًا وشاكرًا، وفي سبيل الله بنفسه وماله مجاهدًا، وكان فارسًا شجاعًا قويًّا، شهِد بدرًا وأحدًا والغزوات كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتل يوم أحد حتى جُرح واحدًا وعشرين جرحًا، وأُصيبت رجله فكان يعرج عليها، ولما حضرته الوفاة أعتق ثلاثين عبدًا، وأوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله، وأوصى لمن بقي من أهل بدر لكل رجل أربعمائة دينار وكانوا مائة فأخذوها، وأوصى بألف فرس في سبيل الله.

إن التصدير للآخرة سريع عند هؤلاء، والشعور بضرورة الرصيد الأخروي مهم جدًّا؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [سبأ: 39]، تعالَوا لنتعرف ماذا أخلف الله على تاجر المدينة الأول (عبدالرحمن بن عوف):

ترك ألف بعير، ومائة فرس، وثلاثة آلاف شاة، وترك من الذهب والفضة ما قُسِّم بين ورثته بالفؤوس، حتى تأثرت أيدي الرجال من التقطيع كما قال ذلك أصحاب السِّيَرِ، ومع ذلك نجده «أُتي بطعام وكان صائمًا، فقال: قُتل مصعب بن عمير وهو خير مني، كُفِّن في بُردة؛ إن غُطي رأسه بدت رجلاه، وإن غُطِّيَ رجلاه بدا رأسه، وأراه قال: وقُتل حمزة وهو خير مني، ثم بُسط لنا من الدنيا ما بسط - أو قال: أُعطينا من الدنيا ما أعطينا - وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجِّلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام».

أحبتي الكــرام، يرحل (عبدالرحمن بن عوف) من الدنيا بعد حياة حافلة مليئة بالبذل والعطاء، والصدق والكرم، والشجاعة والإقدام، والتواضع والرحمة، والذود عن نبيه صلى الله عليه وسلم، عاش منها عشرات السنين في خدمة دينه وأمَّتِه، ومن الناس من يعيش هذا العمر لكنها سنون في ترك المساجد، سنون في العقوق والعصيان، سنون في الغفلة والقسوة والجفاء، سنون في قطع طريق الناس والمتاجرة بالربا والحرام والغش وأكل الحرام، سنون في انتهاك حرمات الله والتعدي على شرع الله ودين الله وإيذاء الصالحين.

رحم الله التاجر الأمين، والثري الصادق (عبدالرحمن بن عوف)، وإلى الملتقى غدًا في دارٍ تجمع سلامةَ الأبدان والأديان إلـى جوار الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

اللّهمّ صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد
0 / 100

إقرأ المزيد :



عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية