الأسباب الجالبة لمحبة الله

الأسباب الجالبة لمحبة الله

الأسباب الجالبة لمحبة الله


منزلة محبة الله ومكانتها


يَهِيمُ الْمُحِبُّونَ لِلدُّنْيَا بِمَحَبَّتِهِمْ طَرَائِقَ قِدَدًا؛ فَذَاكَ مُتَيَّمُ الْقَلْبِ لِمَحْبُوبَتِهِ، وَذَاكَ صَرِيعُ الْعِشْقِ لِمَنِ اسْتَلَبَتْ فُؤَادَهُ، وَثَالِثٌ مُحِبٌّ مَفْتُونٌ بِمَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ، وَرَابِعٌ مَغْرُورٌ بِمُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، أَوْ حَرْثِهِ وَنَسْلِهِ، وَلَا تَكَادُ تَخْرُجُ هَذِهِ وَتِلْكَ عَنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ، وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقْنَطْرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ، وَعَنْهَا قَالَ -تَعَالَى-: ﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾[آل عمران: 14]، وَتَبْلُغُ الْمَحَبَّةُ دَرَكَاتِ الْحَضِيضِ حِينَ يَتَّخِذُ النَّاسُ أَنْدَادًا مِنْ دُونِ اللهِ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ.

أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ؛ فَلَهُمْ فِي الْمَحَبَّةِ شَأْنٌ آخَرُ؛ فَهُمْ وَإِنْ أَحَبُّوا الْمَالَ وَالْأَهْلَ وَالْوَلَدَ، وَأَنِسُوا بِمَا لَذَّ وَطَابَ مِمَّا أَحَلَّ اللهُ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا؛ فَهُمْ مُقْتَصِدُونَ فِي حُبِّهِمْ لَهَا، وَهُمْ أَشَدُّ حُبًّا للهِ مِنْهَا، يَأْنَسُونَ بِذِكْرِهِ وَيَسْتَلِذُّونَ بِطَاعَتِهِ يَسْتَكْثِرُونَ بِهِ مِنْ قِلَّةٍ، وَيَأْنَسُونَ بِهِ حِينَ الْوَحْشَةِ، وَتَطِيبُ فِي جُنْحِ الظَّلَامِ مُنَاجَاتُهُمْ لَهُ، مَحَبَّةُ اللهِ غَايَتُهُمْ، وَرِضَاهُ عَنْهُمْ أَحْلَى آمَانِيهِمْ، يُحِبُّونَ مَا يُحِبُّونَ للهِ، وَيُبْغِضُونَ مَا يُبْغِضُونَ فِي ذَاتِ اللهِ.

يا عبدالله يَا مَنْ تَبْحَثُ عَنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ؛ فَلَنْ تَجِدَ طَعْمَهُ حَتَّى يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِمَّا سِوَاهُمَا؛ فَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ".

الأسباب الجالبة لمحبة الله


فَإِنْ قُلْتَ: وَمَا السَّبِيلُ إِلَى مَحَبَّةِ اللهِ؟ وَمَا الْأَسْبَابُ الْجَالِبَةُ لَهَا؟

وَالْجَوَابُ ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ فَقَالَ:

قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَهُّمِ لِمَعَانِيهِ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ، كَتَدَبُّرِ الْكِتَابِ الَّذِي يَحْفَظُهُ الْعَبْدُ وَيَشْرَحُهُ لِيَتَفَهَّمَ مُرَادَ صَاحِبِهِ مِنْهُ.

وَمِنَ الْأَسْبَابِ: التَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ بِالنَّوَافِلِ؛ فَإِنَّهَا تُوصِلُهُ إِلَى دَرَجَةِ الْمَحْبُوبِيَّةِ بَعْدَ الْمَحَبَّةِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: "وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَحَبَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ"
وَمِنْ أَسْبَابِ نَيْلِ مَحَبَّةِ اللهِ: إِيثَارُ مَحَابِّهِ عَلَى مَحَابِّكَ عِنْدَ غَلَبَاتِ الْهَوَى، وَالتَّسَنُّمُ إِلَى مَحَابِّهِ وَإِنْ صَعُبَ الْمُرْتَقَى.

وَمِنْهَا: مُطَالَعَةُ الْقَلْبِ لِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمُشَاهَدَتُهَا وَمَعْرِفَتُهَا، وَتَقَلُّبُهُ فِي رِيَاضِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَمَبَادِئِهَا؛ فَمَنْ عَرَفَ اللهَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ أَحَبَّهُ لَا مَحَالَةَ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْمُعَطِّلَةُ وَالْفِرْعَوْنِيَّةُ وَالْجَهْمِيَّةُ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ التي تحول بين الْقُلُوبِ وَبَيْنَ وُصُولِهَا إِلَى الْمَحْبُوبِ.

وَمِنَ الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِمَحَبَّةِ اللهِ: مُشَاهَدَةُ بِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَآلَائِهِ، وَنِعَمِهِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ؛ فَإِنَّهَا دَاعِيَةٌ إِلَى مَحَبَّةِ اللهِ.

وَمِنَ الْأَسْبَابِ: انْكِسَارُ الْقَلْبِ بِكُلِّيَّتِهِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ -تَعَالَى-، وَلَيْسَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ الْأَسْمَاءِ وَالْعِبَارَاتِ.

وَمِنْ ذَلِكَ -أَيْضًا-: الْخَلْوَةُ بِهِ وَقْتَ النُّزُولِ الْإِلَهِيِّ لِمُنَاجَاتِهِ، وَتِلَاوَةُ كَلَامِهِ، وَالْوُقُوفُ بِالْقَلْبِ وَالتَّأَدُّبُ بِأَدَبِ الْعُبُودِيَّةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ خَتْمُ ذَلِكَ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ.

وَمِنْهَا: مُجَالَسَةُ الْمُحِبِّينَ الصَّادِقِينَ، وَالْتِقاطُ أَطَايِبِ ثَمَرَاتِ كَلَامِهِمْ، كَمَا يُنْتَقَى أَطَايِبُ الثَّمَرِ، وَلَا تَتَكَلَّمُ إِلَّا إِذَا تَرَجَّحَتْ مَصْلَحَةُ الْكَلَامِ، وَعَلِمْتَ أَنَّ فِيهِ مَزِيدًا لِحَالِكَ وَمَنْفَعَةً لِغَيْرِكَ.

وَمِنَ الْأَسْبَابِ: مُبَاعَدَةُ كُلِّ سَبَبٍ يَحُولُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

فَمِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ -أَيُّهَا الْأَخْيَارُ- وَصَلَ الْمُحِبُّونَ إِلَى مَنَازِلِ الْمَحَبَّةِ، وَدَخَلُوا عَلَى الْحَبِيبِ، وَمِلَاكُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَمْرَانِ: اسْتِعْدَادُ الرُّوحِ لِهَذَا الشَّأْنِ، وَانْفِتَاحُ عَيْنِ الْبَصِيرَةِ.

وَلَا عَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ قُلُوبُ النَّاسِ بِأَوْلِيَاءِ اللهِ مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَحُوهُمْ مِنْ مُغْرِيَاتِ الدُّنْيَا فَتِيلًا؛ ذَلِكُمْ لِأَنَّ وَاهِبَ الْمَحَبَّةِ هُوَ اللهُ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ، وَمَقَادِيرُ الْمَحَبَّةِ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَا تُوَزَّعُ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْفَرْقُ كَبِيرٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَفِي دُنْيَا الْوَاقِعِ يَجِدُ النَّاسُ مِصْدَاقَ قَوْلِ رَسُولِ الْهُدَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ"، وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي الْمُبْغَضِ مِنْ قِبَلِ اللهِ عَكْسُ ذَلِكَ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

بعض علامات صدق المحبة


لَيْسَتْ مَحَبَّةُ اللهِ دَعَاوَى تَجُوزُ عَلَى كُلِّ لِسَانٍ، أَوْ أَمَانِيَ وَظُنُونًا يُوصَفُ بِهَا كُلُّ إِنْسَانٍ، وَإِنْ كَانَ فَضْلُ اللهِ وَاسِعًا لَا يَسْتَطِيعُ حَجْرَهُ كَائِنٌ مَنْ كَانَ، وَلَكِنِ الدَّعَاوَى تُصَدِّقُهَا الْأَعْمَالُ أَوْ تُكَذِّبُهَا.

وَمِنْ بَرَاهِينِ الْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ للهِ: اتِّبَاعُ شَرْعِ اللهِ، وَالرِّضَا بِهِ، وَالتَّسْلِيمُ دُونَ حَرَجٍ أَوْ تَمَلْمُلٍ، وَطَاعَةُ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا أَمَرَ بِهِ أَوْ نَهَى، وَفِيمَا أَحَبَّتِ النَّفْسُ أَوْ كَرِهَتْ، قَالَ -تَعَالَى-: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[آل عمران:31].

ابْدَأْ -يَا أَخَا الْإِسْلَامِ- مِنَ الْآنِ فِي بِنَاءِ مُسْتَقْبَلِكَ الْحَقِيقِيِّ هُنَاكَ، أَمَّا الْمُسْتَقْبَلُ هُنَا فَلَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ، ابْدَأْ مِنَ الْآنِ فِي الْبِنَاءِ؛ شَابًّا كُنْتَ أَوْ هَرَمًا، رَجُلًا كُنْتَ أَوِ امْرَأَةً، وَاجْتَهِدْ فِي إِيدَاعِ الْأَرْصِدَةِ هُنَاكَ؛ فَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ خِزَانَتَانِ تُمْلَآنِ هُنَا وَتُفْتَحَانِ هُنَاكَ، فَاجْتَهِدْ فِي مَلْءِ تِلْكَ الْخَزَائِنِ بِبَرَاهِينِ الْمَحَبَّةِ للهِ وَعَنَاوِينِ الْإِخْلَاصِ، وَدَلَائِلِ الطَّاعَةِ لَهُ.

وَلَا تَنْسَ الِاسْتِعَانَةَ بِاللهِ، وَقُلْ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:"اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَالْعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ".

وَكُلَّمَا فَتَرَ عَزْمُكَ أَوْ ضَعُفَ سَيْرُكَ تَذَكَّرْ قُرْبَ الرَّحِيلِ إِلَى رَبِّكَ، وَاتَّخِذْ مِنْ أَصْحَابِ الْخَيْرِ عَوْنًا لَكَ فِي طَرِيقِكَ. رَعَاكَ اللهُ وَسَدَّدَكَ، وَجَعَلَنَا وَإِيَّاكَ مِنْ أَحْبَابِه الْعَالِمِينَ بِكِتَابِهِ، وَالسَّائِرِينَ عَلَى مِنْهَاجِهِ.

لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية