حقوق الراعي على الرعية

حقوق الراعي على الرعية

حقوق الراعي على الرعية


مقدمة


لا تستقر أحوال أي مجتمع دون وجود حاكم وولي أمر شرعي، يُقيم القسط، وينشر العدل، ويحوط الأمة في دينها ودنياها، لا يؤثر نفسه وقرابته وأهله وعشيرته على سائر رعيته، بل يتحرى العدل في جميع مسالكه بقدر استطاعته، ويتخذ بطانة صالحة، ويُكثر مشاورة الحكماء في نوازل الأمة، فتستقيم أمور دولته، وتحبه رعيته وتدعو له، ويكثر التراحم في المجتمع بين الراعي والرعية.

التوازن في العلاقة بين الراعي والرعية


ومن سمات شريعة الرحمن: التوازن في العلاقة بين الراعي والرعية، وهذا منهج شرعي قويم، إذ لما أوجبت الشريعة على الراعي واجبات عديدة فرضت له في مقابلها حقوقًا على رعيته، وكذا لما أوجب الشرع على الأمة طاعة ولاة الأمور في غير معصية الله -تعالى-، فإنه أوجب للرعية على ولاة الأمور حقوقًا، ومصداق ذلك ما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "كلكم راعٍ، وكلم مسئول عن رعيته؛ فالإمام راعٍ وهو مسئولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"

وعندما يحدث الخلل، ويبحث كلٌّ عن مصالحه وينسى واجباته تصيب الأمة كوارث ومحن، وإن من أسباب كثير من الاضطرابات والفتن التي يعجّ بها العالم من حولنا: الأنانية والتطفيف وعدم أداء الواجبات قبل البحث عن الحقوق..

ويتجلى ذلك عندما ينظر الحاكم إلى أمته نظرة استعلائية، ويرى أنه يؤدي أكثر مما ينبغي، وأن رعيته جاحدة لا تشكر ولا تصبر، وفي المقابل تنظر الشعوب إلى حكامها نظرة احتقار وازدراء، فيرون أن هؤلاء الحكام مقصرون في واجباتهم، مضيّعون لشعوبهم، مبددون لثروات الأمة،.. ومما يزيل بعض أسباب هذا التنازع أن يحرص كل من الحاكم والمحكوم على أداء واجباته قبل أن يبحث عن حقوقه.

حقوق ولاة الأمور على الشعب


وللحكام وولاة الأمور حقوق على شعوبهم، ومن أبرز تلك الحقوق ما يلي:

  • السمع والطاعة في المعروف:

    من أهم حقوق ولاة الأمور السمع والطاعة في غير معصية الله -تعالى-، إذ السمع والطاعة في المعروف يجعل المجتمع متوائمًا مع الحكام متسقًا، كنسيج واحد يقف صفًّا واحدًا، غير خارج عن طاعته، ومن ثَم يكون بعيدًا عن الفتن والاضطرابات، وقد أمر الله -سبحانه- بذلك في القرآن العظيم، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "نزلَت هذه الآيةُ في الرعيَّة، عليهم أن يُطيعُوا أولِي الأمر إلا أن يأمُرُوا بمعصِيَةِ الله"، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌ عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ فِيمَا أحب أو كره ما لم يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ عَلَيْهِ وَلاَ طَاعَةَ"

  • تبجيلهم وحفظ مكانتهم وإكرامهم:

    إن إكرام الولاة الصالحين والحكام العدول واحترامهم واجبٌ شرعي، فاحترام الكبار وتوقيرهم وإنزال الناس منازلهم منهج قويم يؤدي لانتشار المحبة والتراحم بين الراعي والرعية، ويقطع أسباب النزاع، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إنّ مِنْ إجْلالِ الله إكْرامَ ذِي الشَّيْبَةِ المُسْلِمِ وحامِلِ القُرْآنِ غَيْرِ الغالِي فيهِ والجّافِي عَنهُ وإِكْرامَ ذِي السُّلْطانِ المُقْسِطِ" ومن هذا الحديث يتبين فضل توقير ولي الأمر واحترام الحاكم العادل، ونشر فضائله، وكتم مساوئه، وجمع قلوب الناس عليه.

  • النصيحة لهم:

    يجب على الرعية أن تنصح الحكام وولاة الأمور؛ لأنهم بشر يخطئون ويصيبون، وهم من أحوج الناس إلى النصيحة الصادقة لعظم مسئوليتهم، شريطة أن تكون النصيحة بالكلمة الطيبة والمقصد النبيل، ولذا تُشرع مُناصَحَة الولاة بالضوابِط الشرعيَّة دون تشنِيع ولا غلو، ومما يثبت لهم هذا الحق ما صح من حديث تميمٍ الداريِّ -رضي الله عنه-، أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "الدينُ النصيحة"، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولكتابِه ولرسولِه، ولأئمة المسلمين وعامَّتهم"
    ولكن يجب الاعتناء بآداب نصيحة ولاة الأمور، قال الإمام الشوكاني -رحمه الله-: "ينبغي لمن ظهرَ له غلَطُ الإمام في بعض المسائِل أن يُناصِحَه، ولا يُظهِرَ الشَّناعَةَ عليه على رُؤوسِ الأشهَاد؛ بل يأخُذُ بيدِه ويخلُو به، ويبذُلُ له النصيحة".

  • عدم الخروج عليهم:

    من أكثر ما ينشر الفُرقة في المجتمع: مفارقة الجماعة، ونزع اليد من الطاعة. وإن الخروج على ولاة الأمور محرم في شريعة الله -تعالى- ما داموا مقيمون للشرع، معظمون للدين، ويقيمون الصلاة، ويوالون المؤمنين لا الأعداء، ولا يضيعون مقدرات الأمة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من فارق الجماعة شبرًا فقد خلع رِبْقَة الإسلام من عنقه"

    وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثةٌ لا تسأل عنهم"، وذكر منهم "رجل فارق الجماعة وعصى إمامه فمات عاصيًا.."

    قال الإمام الطحاويُّ -رحمه الله-: "ولا نرَى الخروجَ على أئمَّتنا ووُلاة أمرِنا وإن جارُوا، ولا ندعُو عليهم، ولا ننزِعُ يدًا من طاعتِهم، ونرَى طاعتَهم من طاعةِ الله - عز وجل - فريضَة ما لم يأمُرُوا بمعصِية"

    وقال الإمام الحافظُ أبو زُرعة الرازيُّ -رحمه الله-: "أدرَكنا العلماءَ في جميع الأمصار - حجازًا وعراقًا، شامًا ويمنًا -، فكان من مذهبِهم: ولا نرَى الخروجَ على الأئمَّة، ونسمعُ ونُطيعُ لمن ولاَّه الله - عز وجل - أمرَنا، ولا ننزِعُ يدًا من طاعة، ونتَّبِعُ السنَّةَ والجماعة، ونجتنِبُ الشُّذوذَ والخلافَ والفُرقَة"
  • الدعاء لهم:

    رغَّب النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدعاء لولي الأمر الصالح الرفيق، وبيّن في ذلك منزلة الحاكم المحبوب من رعيته، فإذا رفق بهم وحرص على دينهم ودنياهم أحبوه وأحبهم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ -والصلاة هنا بمعنى الدعاء-، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ"

    وقال الإمامُ الطحاويُّ -رحمه الله- في حقِّ الأئمة: "وندعُو لهم بالصلاحِ والمُعافاة". وقال الإمامُ أحمدُ - رحمه الله -: "لو أن لي دعوةً مُستَجابَة لصرَفتُها للإمام"، وعن الفضيل بن عياض قال: "لو أن لي دعوةً مستجابة ما جعلتُها إلا في السلطان، فقيل له: يا أبا علي! فسّر لنا هذا؟، قال: "إذا جعلتُها في نفسي لم تَعْدُني، وإذا جعلتُها في السلطان صلح فصلح بصلاحه العباد والبلاد"

  • التعاون معهم وتأليفُ القلوب لهم:

    من حقوق الأئمة وولاة الأمور على الرعية: التعاون معهم، والوقوف في صفهم، وجمع القلوب عليهم، وستر معايبهم، وعدمُ تأليبِ العامَّة عليهم؛ وذلك لتنتظِم مصالِحُ الدين والدنيا، ويظهر المجتمع متماسكًا مما يضعف مؤامرات الكافرين والمنافقين.

  • الصبر على ما قد يقع منهم من جور:لا يخلو بشر من نقص، ولا يبعد أحد عن تقصير، حاكمًا كان أو محكومًا، والمنهج الشرعي مع الحاكم المسلم الحافظ لدين الأمة والمعظّم لشرع الله، ألا يقف المسلم على هفواته، بل يصبر على ما قد يحدث من أخطاء فلعلها لم تصله ولم يعلم بها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئاً يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الجَمَاعَةَ شِبْراً فَيَمُوتُ إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً"

هذه وصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالصبر على الحاكم المسلم إن بدأ منه جور أو تأول موقفًا، لأن في عدم الصبر عليه ضررًا، يدمر المجتمعات، ويمحق البركات، ويخلّف قتلى وتدمير ممتلكات وضياع مقدرات، والناظر فيما حولنا من مجتمعات فسد رأسها وأفسد، فأدى ذلك إلى بحور من دماء وأجيال من الأيتام، وضياع خيرات الأمة في حروب ونزاعات لا يعلم أحد غير الله -تعالى- إلام تنتهي، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وأخيرًا لم نستقصِ كل حقوق الراعي على الرعية، وإنما سردنا بعض واجبات الرعية نحو ولي الأمر، نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يولي عليهم خيارهم، وأن يجنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن.

المرجع: الخطباء - حقوق الراعي على رعيته وواجباتهم نحوه

لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية