الشح والبخل: مظاهره وأسبابه

الشح والبخل: مظاهره وأسبابه

الشح والبخل


ذم الشح والبخل


الشُّحُّ والبُخْلُ صِفَتان مَذْمُومَتان في كُلِّ إنسان, يُطِيعُ بِهِمَا نفسَه, وهواه, والشَّيطان. وهذه الصِّفةُ الذَّمِيمةُ طَهَّرَ اللهُ منها أنبياءَه, ووَقَى شرَّ تأصُّلِها في أوليائه.

تعريف الشح والبخل


ويُعرَّف الشُّحُّ: بأنه حالَةٌ نَفْسِيَّةٌ تَقْتَضِي مَنْعَ الإنسانِ ما في يدِه, أو ما في يَدِ غيرِه. وقيل: هو شِدَّةُ الحِرْصِ التي تُوجِبُ البُخْلَ والظُّلْمَ, وهو مَنْعُ الخيرِ وكراهَتُه. وقال الأزهَرِيُّ -رحمه الله- في معنى قولِه -تعالى-: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾[الحشر: 9]: "مَنْ أَخرج زَكَاتَهُ, وَعَفَّ عَنِ المَالِ الَّذِي لَا يَحِلُّ لَهُ، فَقَدْ وُقِيَ شُحَّ نَفْسِهِ". ويُعرَّف البُخْلُ: بأنه امْتِناعُ المرءِ عن أداءِ ما أوجَبَ اللهُ -تعالى- عليه. قال الحسنُ بنُ عليٍّ -رضي الله عنه-: "البُخْل: أنْ يَرَى الرَّجلُ ما يُنْفِقُه تَلَفًا, وما يُمْسِكُه شَرَفًا".

الفرق بين الشح والبخل


الفَرْقُ بين الشُّحِّ والبُخْل: أنَّ الشُّحَّ: هو شِدَّةُ الحرصِ على الشَّيءِ, والاسْتِقْصاءُ في تحصيلِه, وجَشَعُ النَّفْسِ عليه. والبُخْل: مَنْعُ إنفاقِه بعدَ حُصولِه, وحُبُّهُ وإِمْساكُه، فهو شحيحٌ قَبلَ حصولِه, بَخِيلٌ بعد حصوله، فالبُخْل ثمرةُ الشحِّ, والشُّحُّ يدعو إلى البُخْل. قَالَ الخَطَّابِيُّ -رحمه الله-: "الشُّحُّ أَعَمُّ مِنَ البُخْلِ, وَكَأَنَّ الشُّحَّ جِنْسٌ, وَالبُخْلَ نَوْعٌ, وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ البُخْلُ فِي أَفْرَادِ الأُمُورِ, وَالشُّحُّ عَامٌّ؛ كَالوَصْفِ اللَّازِمِ, وَمَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الطَّبْعِ".

أحاديث وآيات عن الشح والبخل


ومِمَّا جاء في التَّرْهِيبِ مِنَ الشُّحِّ والبُخْل: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ, وَالشُّحُّ...". وقال أيضًا: "لاَ يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "شَرُّ مَا فِي رَجُلٍ: شُحٌّ هَالِعٌ -الهَلَعُ: أَشَدُّ الفَزَع-, وَجُبْنٌ خَالِعٌ -أي: أنَّه يَخْلَعُ قلبَه مِنْ شِدَّةِ تَمَكُّنِه منه-"

وعن جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلى الله عَلَيه وسَلم-: "مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلِمَةَ؟" قَالُوا: الجَدُّ بْنُ قَيْسٍ, عَلَى أَنَّا نُبَخِّلُهُ. فَقَالَ: "وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنَ البُخْلِ؟ بَلْ سَيِّدُكُمُ عَمْرُو بْنُ الجَمُوحِ"

وقال أيضًا: "يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَتَشِبُّ مِنْهُ اثْنَتَانِ: الحِرْصُ عَلَى المَالِ, وَالحِرْصُ عَلَى العُمُرِ"

والإنسانُ مَجْبولٌ على الشُّحِّ إلاَّ مَنْ رَحِمَ الله؛ فلو امْتَلَكَ خَزائِنَ اللهِ لَمَا طَوَّعتْ له نفسُه أنْ تُنْفِقَ منها بِسَعَةٍ, ولَقَامَتْ له مِنْ طَبِيعَتِه الضَّيِّقةِ عِلَلٌ شتَّى تَضَعُ في يديه الأغلالَ؛ قال -تعالى-: ﴿قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا﴾[الإسراء: 100]. قال ابنُ كثيرٍ -رحمه الله-: "وَاللَّهُ -تَعَالَى- يَصِفُ الإِنْسَانَ مِنْ حَيْثُ هُوَ -إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَهَدَاهُ-؛ فَإِنَّ البُخْلَ وَالجَزَعَ وَالهَلَعَ صِفَةٌ لَهُ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلا الْمُصَلِّينَ﴾[المعارج: 19 -22].

مظاهر الشح والبخل


إنَّ مَظاهِرَ الشُّحِّ والبُخْلِ كثيرةٌ, ويقَعُ فيها كثيرٌ من الناس, إلاَّ مَنْ نجا بنفسِه, ومن أهمها:

  1. مَنْعُ الصَّدَقَةِ على الأقارِبِ المُحْتاجِين: قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَسْأَلُ رَجُلٌ مَوْلَاهُ مِنْ فَضْلٍ هُوَ عِنْدَهُ, فَيَمْنَعُهُ إِيَّاهُ؛ إِلَّا دُعِيَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَضْلُهُ الَّذِي مَنَعَهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ -الأَقْرَعُ: الَّذِي ذَهَبَ شَعْرُ رَأْسِهِ مِنَ السُّمِّ-". قال في عَونِ المَعْبُود: "مَوْلَاهُ: أَيْ مُعْتِقَهُ, أَوِ المُرَادُ بِالمَوْلَى: القَرِيبُ, أَي: ذُو الْقُرْبَى, وَذُو الْأَرْحَامِ".

    ويَشْهَدُ له: قولُه -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي رَحِمَهُ، فَيَسْأَلُهُ فَضْلاً أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ فَيَبْخَلُ عَلَيْهِ إِلَّا أُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ جَهَنَّمَ حَيَّةٌ, يُقَالُ لَهَا: شُجَاعٌ, يَتَلَمَّظُ -أي: يَتَطَعَّمُ ما يَبْقَى فِي الفَمِ مِنْ آثارِ الطَّعام-, فَيُطَوَّقُ بِهِ". وقال -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ لَبَنٍ -هِيَ العَطِيَّة-, أَوْ وَرِقٍ -فِضَّة-, أَوْ هَدَى زُقَاقًا -أي: دَلَّ الضَّالَّ أو الأعْمَى على طَرِيقِه-, أو تَصدَّقَ بِسِكَّةٍ, وَصَفٍّ مِنْ نَخْلٍ؛ كَانَ لَهُ مِثْلُ عِتْقِ رَقَبَةٍ"

  2. تَرْكُ النَّفَقَةِ الوَاجِبَة: سواءٌ على الزَّوجَةِ, أو الولَدِ, أو الوالِدَين؛ ولمَّا قَالَتْ هِنْدٌ أُمُّ مُعَاوِيَةَ -رضي الله عنها- لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ, فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ سِرًّا؟ قَالَ: "خُذِي أَنْتِ, وَبَنُوكِ, مَا يَكْفِيكِ بِالمَعْرُوفِ"

  3. البُخْلُ بِأَداءِ الحَقِّ الوَاجِبِ فِي المَال: فيَمْنَعُ زَكاةَ مَالِه؛ شُحًّا وخَوفًا على مَالِه من الانْقِرَاض, والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ؛ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ, لَهُ زَبِيبَتَانِ, يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ, ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ -يَعْنِي: شِدْقَيْهِ- ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ, أَنَا كَنْزُكَ, ثُمَّ تَلاَ: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾[آل عمران: 180]". وفي حَدِيثٍ آخَرَ: "لَوْ كَانَ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى ثَالِثًا, وَلاَ يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ, وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ".

  4. تَرْكُ الإنفاقِ في سَبِيلِ الله: قال -سبحانه-: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ﴾[محمد: 38]. قال القاسِمِيُّ -رحمه الله-: "سَبِيلُ اللهِ: يَشْمَلُ كُلَّ ما فيه نَفْعٌ وخَيرٌ، وفائِدَةٌ وقُرْبَةٌ ومَثُوبَةٌ. وإنَّما اقْتَصَرَ المُفسِّرون على الجِهاد؛ لأنه فَرْدُه الأشْهَر، وجُزْئِيُّه الأهَم، وقْتَ نُزولِ الآيات، وإلاَّ فلا يَنْحَصِرُ فيه".


أسباب الشح والبخل


الشُّحُّ والبُخْلُ لهما أسبابٌ وبواعِثُ تَدْعُو إليهما, وتُوقِعُ فيهما, ومن أهمِّ أسباب الشُّحِّ والبُخْل:

  1. حُبُّ الدُّنيا مع تَوَهُّمِ الفَقْر: فمَن ابْتُلِيَ بِحُبِّ الدُّنيا تَوَهَّمَ أنه إنْ أَعْطَى فسَيَخْلو جَيبُه, وتذهَبُ مَكانتُه بين الناس, فيرى أنْ يُمْسِكَ بِرَّه ومَعروفَه عن الناس كي تَدُومَ له دُنياه, وما دَرَى أنه يَتَشَبَّه بمَنْ ذَمَّهم اللهُ -تعالى- في قوله: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ﴾[القيامة: 20, 21]. قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَزَالُ قَلْبُ الكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ: فِي حُبِّ الدُّنْيَا, وَطُولِ الأَمَلِ".

  2. عَدَمُ اليقينِ بِمَا عِندَ اللهِ -عز وجل-: وأنَّ الله -تعالى- يُخْلِفُ على العَبْدِ أكْثَرَ مِمَّا يُعْطِي؛ قال -سبحانه-: ﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾[الليل: 8-10]. فمَنْ لا يَقِينَ عِندَه بِمَوعودِ اللهِ, تراه يَبْخَلُ في كلِّ شيءٍ؛ يَخشى عدمَ ثوابِ الدُّنيا والآخِرة.

  3. حُبُّ المَال: فمَن اسْتَولَى حُبُّ المَال على قلبِه, نَسِيَ كلَّ شيء, وشَحَّ به حتى على نفسِه؛ فلا تَسْمَحْ نفسُه بإخراجِ الزَّكاة, ولا بِمُداواة نفسِه عِندَ المَرَض, بل ولا يَأكُل ولا يَشْرب ولا يَلْبس ما تشتيه نفسُه؛ إذِ المالُ صار محبوبًا أكثرَ من نفسِه, يَجِدُ لذَّةً بتخزين المالِ في أرْصِدَتِه, وهو يعلم عِلْمَ اليقين أنه سيموتُ ويترُكُه لِغَيرِه. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يَكْبَرُ ابْنُ آدَمَ, وَيَكْبَرُ مَعَهُ اثْنَانِ: حُبُّ المَالِ, وَطُولُ العُمُر". قال النوويُّ -رحمه الله-: "وَمَعْنَاهُ: أَنَّ قَلْبَ الشَّيْخِ كَامِلُ الحُبِّ لِلْمَالِ, مُتَحَكِّمٌ فِي ذَلِكَ؛ كَاحْتِكَامِ قُوَّةِ الشَّابِّ فِي شَبَابِهِ".

  4. الإِعْجَابُ بالنَّفْس: فبعضُ الناسِ مِمَّنْ أغناهم اللهُ -تعالى-, يَرْسُمُونَ لأنفُسِهم صورةً خياليَّة, أمْلاها عليهم الهوى, وزيَّنَها لهم الشيطانُ؛ قال -تعالى-: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾[الحديد: 23, 24]. وهذا هو الشُّحُّ؛ الشُّحُّ بالمالِ, والجَاهِ, والنَّفْسِ, والكَلِمَة.

  5. الغَفْلَةُ عَنْ عَواقِبِ الوقوع في الشُّح: فإنَّ مَنْ يَجْهَلُ عاقِبَةَ الشَّيءِ وأثَرَه المُهْلِكَ, فهو يَقَعُ فيه مِنْ حيثَ لا يَشْعُر.

  6. الوَسَطُ الذي يَعِيشُ فيه المُسْلِم: سواءٌ كان بيتِه, أو مُجْتَمَعِه, فقد يكون ذلك الوسَطُ معروفًا بالشُّح, فيتأثَّرُ به, وتَنْتَقِلُ عَدْوَاه إليه, فيَبْخَلُ بكلِّ بِرٍّ أو معروفٍ.

  7. إِهْمالُ مُحاسَبَةِ النَّفْس: المرءُ مجبولٌ بفطرتِه على الشُّح, ومُطالَبٌ هو بالبُعْدِ عنه, وفِعْلِ الأسبابِ المُخَلِّصَةِ منه, وكثيرٌ من الناس يَسْتَسْلِم لهذا الدَّاء, ولا يَهْتَمُّ بمجاهَدَةِ نفسِه, وتَصْفِيَتِها من أدرانِها.

  8. الحِقْدُ: فإذا كان المرءُ حاقِدًا على غيرِه, فإنه سيَسْعَى جاهِدًا ألاَّ يَنْفَعَه بشيءٍ؛ من مالٍ, أو نَفْسٍ, أو جَاهٍ, أو بها كُلِّها, وهذا أقَلُّ ما يفعَلُه الحِقْدُ لهؤلاء.

المرجع :
عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية