الإمام النووي رحمه الله تعالى

الإمام النووي رحمه الله تعالى

الإمام النووي رحمه الله تعالى


الخطبة الأولى :

أيها الأخ المبارك: كلما ضعفت الهمّة، وتواردت أفكار الإحباط، وتصادمت الأوقات بين الفراغ والأولويات، ويئست القلوب، فتش في كتب تراجم أعلام الإسلام، فإن سِيَرهم والله رفعة وأي رفعة؟!، إنها مدارس وأي مدارس؟!.. يكفيك والله فخراً أنّك تنتمي لأمةٍ عجز كُتَّاب التاريخ عن إعطاء أعلامها أصدق أوصافهم من كثرتهم وبهائهم وسمّوهم، فلا أمة غيرَ أمةِ الإسلام تمتلك أمثال أولئك الرجال، بل إنّ التاريخ يتحدى أن يشُّك الإنسان في ذلك، ومعنا اليوم علمٌ من أولئك الأعلام النبلاء الذين سطّر التاريخ شيئاً من حياتهم بمداد من ذهب قبل حوالي ثمانية قرون، علمٌ عالمٌ بالحديثِ والفقه والتفسير، والعِبادة والزهد والوَرَع، والرِّجال واللغة، وهو صاحِب الكلمات النُّورانيَّة الأخَّاذة والقلم السيَّال ؛ فهو إمامُ سنَّة، وقامِعُ بدعة، فكم من أُلُوفِ الآلاف من المسلمين تعلَّموا السُّنَّة منه عبْر العصور، وهو رأسٌ في التعبُّد، والأدب الجم مع العُلَماء والمخالِفين، إنّه شيخُ الإسلام الإمامُ أبو زكريا يحيى بن شرف النَّوَوِيُّ، زاهِدُ العُلَماء وعالِم الزُّهَّاد، حتى إنَّ صدْق نيَّة هذا الإمام وإخلاصَه قد ظهر من خِلال سِيرته العَطِرة، ومن استِفادة كافَّة العُلَماء - فضلاً عن طلبة العلم - على تعدُّد مشاربهم من مؤلَّفات هذا الإمام العِملاق؛ فكتبه: كـ"رياض الصالحين"، و"التبيان"، و"المجموع"، وغيرها تُقرَأ في الدروس العلميَّة وتُنثَر دُرَرُها بين العُلَماء وطلَبَة العلم والعامَّة في كلِّ حين، وإنه لَيَجْدُرُ بنا أن نقول في حقِّه: إنَّه ما جاء بعدَه من عالمٍ ولا متعلِّم إلا وللإمام النَّوَوِيِّ - رحمه الله تعالى - في عنقه منَّة - نحسبه كذلك، ولا نزكِّي على الله أحدًا.

هذا، وقد بارَك الله - سبحانه وتعالى - له في عمره ؛ لأنَّ هذه الخيرات التي ترَكَها الواحِد مِنَّا يَعجِز - إلا من رحم الله تعالى - عن قراءَتها فكيف بتأليفها؟! وقد وفَّقه الله - تعالى - في تأليفها وعمره لم يَتجاوَز الخامسة والأربعين سنة؛ إذ إنَّ ميلاده كان عام ستمائة وإحدى وثلاثين للهجرة، ووفاته كانت عام ستمائة وست وسبعين للهجرة، ولكن فضل الله - تعالى - يُؤتِيه من يشاء. . لقُّب بـ: محيي الدين وكان يكره أنْ يُلَقَّب به. وكنيته: أبو زكريا.. ولم يتزوج لانشغاله بالعلم رحمه الله.

عاش الإمام النووي في كنف أبيه ورعايته، وكان أبوه في دنياه مستور الحال مبارَكاً له في رزقه، فنشأ الإمام النووي في ستر وخير ، قال الشيخ ياسين الدمشقي رحمه الله: رأيتُ الشيخ محي الدين النووي، وهو ابن عشر سنين، بنوى، والصبيان يُكرِهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم ويبكي لإكراههم، ويقرأ القرآن في تلك الحال، فوقع في قلبي محبته. وجعله أبوه في دكان، فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن.

ولما بلغ العاشرة من عمره حفظ القران وبدأ بالتفقه على بعض أهل العلم. وفي سنة ستمائة وتسع وأربعين للهجرة قَدِمَ مع أبيه إلى دمشق لطلب العلم في مدرسة دار الحديث، وسكنَ المدرسة الرواحية، وهي ملاصقة للمسجد الأموي. ثم حج بعد سنتين مع أبيه ثم رجع إلى دمشق، وهناك أكب على علمائها ينهل منهم.

كان الإمام النووي مهيبًا، قليل الضحك، عديم اللعب، يقول الحق وإن كان مرًّا، لا يخاف في الله لومة لائم، وكان الزهد والورع أهم ملامح شخصيته؛ حيث أجمعَ أصحابُ كتب التراجم أنه كان رأسًا في الزهد، قدوة في الورع، عديم النظير في مناصحة الحكام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وكان رحمه الله لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة واحدة بعد العشاء الآخرة، وكان لا يأخذ من أحد شيئا، وكان كثيرًا ما يكاتب الأمراء والوزراء، وينصحهم لما فيه خير البلاد والعباد. وقال الشيخ شمس الدين بن الفخر الحنبلي: كان إمامًا بارعًا حافظًا متقنًا علومًا جمة، وصنف التصانيف الجمة وكان شديد الورع والزهد تاركًا لجميع الرغائب من المأكول إلا ما يأتيه به أبوه من كعك وتين، وكان يلبس الثياب الرثة المرقعة ولا يدخل الحمام، وترك الفواكه جميعها ولم يتناول من الجهات درهمًا، رحمه الله تعالى.

كان النووي لا يضيع وقتًا في ليل أو نهار إلا في الاشتغال بالعلم، حتى في ذهابه في الطريق ومجيئه كان يشتغل في تكرار أو مطالعة، وبقي على التحصيل على هذا الوجه نحو ست سنين، ثم اشتغل بالتصنيف والمناصحة للمسلمين وولاتهم كما هي رسائله إلى الملك الظاهر ، مع ما هو عليه من المجاهدة لنفسه، والعمل بدقائق الفقه والاجتهاد على الخروج من خلاف العلماء، وكان سريع الحفظ؛ حفظ عدة كتب في مُدَدٍ وجيزة، فنال إعجاب وحبَّ أستاذه أبي إبراهيم إسحاق بن أحمد المغربي، فجعلَه مُعيد الدرس في حلقته. ثم درَّسَ بدار الحديث الأشرفية، وغيرها.

وقد حدَّثَ تلميذُه علاء الدين بن العطار - على لسان النووي - عن فترة التحصيل والطلب، أنه كان يقرأ كلَّ يوم اثني عشر درسًا على المشايخ شرحًا وتصحيحًا، درسين في الوسيط، وثالثًا في المهذب، ودرسًا في الجمع بين الصحيحين، وخامسًا في صحيح مسلم، ودرسًا في اللمع لابن جنّي في النحو، ودرسًا في إصلاح المنطق في اللغة، ودرسًا في الصرف، ودرسًا في أصول الفقه، ودرسًا في أسماء الرجال، ودرسًا في أصول الدين، وكان يكتبُ جميعَ ما يتعلق بهذه الدروس من شرح مشكل وإيضاح عبارة وضبط لغة.

وسمع منه خلق كثير من الفقهاء، وسار علمه في الآفاق، وانتفع الناس في سائر البلاد الإسلامية بتصانيفه، وأكبوا على تحصيل مؤلفاته.

تولى النووي دار الحديث الأشرفية على صغر سنّه حوالي عشر سنين، وهي أشهر دار في بلاد الشام لعلم الحديث، والمتعارف عليه ألا يلي مشيختها إلا عظيم وقته في العلم، وخصوصًا علم الحديث، ومن لقب بشيخ دار الحديث، نال في العلم أجل الألقاب، وقد وليها قبل النووي: تقي الدين بن الصلاح، وشهاب الدين أبو شامة المقدسي.

وقال التاج السبكي: "قال والدي: إنه ما دخلها - أي دار الحديث الأشرفية - أعلم ولا أحفظ من المزي، ولا أورع من النووي وابن الصلاح".

ومن عجيب سيرته أنه قال مرة "وخطر لي الاشتغال بعلم الطب، فاشتريت القانون (لابن سينا) وعزمت على الاشتغال فيه، فأظلم عليَّ قلبي، وبقيت أيَّامًا لا أقدر على الاشتغال بشيء، ففكرت في أمري: من أين دخل عليَّ الداخل، فألهمني الله أن اشتغالي بالطب سببه، فبعت في الحال الكتاب المذكور، وأخرجت من بيتي كل ما يتعلق بعلم الطب فاستنار قلبي ورجع إلى حالي، وعدت لما كنت عليه أولاً"؛ ولعلَّ الظلمة التي أصابت قلبه مرجعها إلى أنه لم يألف الطب، أو لعلَّه استغلقت عليه مسائله. ويجوز أن يكون النووي قد تأثر - في رغبته دراسة الطب - بمقولة إمامه الشافعي: "لا أعلم علمًا - بعد الحلال والحرام - أنبلَ من الطب".

ومن أعاجيبه أنّه قال مرة وهو يحكي عن أوائل طلبه للعلم: وبقيت سنتين لم أضع جنبي على الأرض. يعني: كان ينام وهو جالس، ثم لا يلبث أن يستيقظ للاستمرار في طلب العلم.

وحكى البدر بن جماعة أنه سأله رحمه الله تعالى عن نومه فقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة وأنتبه".

وقال البدر: وكنت إذا أتيته أزوره يضع بعض الكتب على بعض ليوسع لي مكاناً أجلس فيه.

فما كان الزائر يجد مكاناً يجلس فيه من كثرة الكتب التي يطالعها.

بعد هذه المسيرة الحافلة يترجل الفارس، ففي سنة ستمائة وست وسبعين للهجرة رجع الإمام النووي إلى نَوى وردَّ الكتب المستعارة من الأوقاف، وزار مقبرة شيوخه، فدعا لهم وبكى، وزار أصحابه الأحياء وودّعهم، وزار والدَه وزار بيت المقدس والخليل، ثم عاد إلى نوى؛ فمرض بها، ومات في الرابع والعشرين من رجب؛ فرحمه الله رحمةً واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾.

أقول قولي هذا وأستغفر الله.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:
أيها الأخ المبارك: لتعرف قدر هؤلاء الأفذاذ وسيرهم العطرة وقدر نفسك يكفيك أن تتأمل قولَه تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.

هذه مقابلة بين العامل بطاعة اللّه وغيره، وبين العالم والجاهل، وأن هذا من الأمور التي تقرر في العقول تباينُها، وعُلِمَ علماً يقينا تفاوتها، فليس المعرض عن طاعة ربه، المتبع لهواه، كمن هو قانت أي: مطيع للّه بأفضل العبادات وهي الصلاة، وأفضل الأوقات وهو أوقات الليل، فوصفه بكثرة العمل وأفضله، ثم وصفه بالخوف والرجاء، وذكر أن متعلق الخوف عذاب الآخرة، على ما سلف من الذنوب، وأن متعلق الرجاء، رحمة اللّه، فوصفه بالعمل الظاهر والباطن.

﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ﴾ ربهم ويعلمون دينه الشرعي ودينه الجزائي، وما له في ذلك من الأسرار والحكم ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ شيئا من ذلك؟ لا يستوي هؤلاء ولا هؤلاء، كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلام، والماء والنار.



﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ﴾ إذا ذكروا ﴿أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ أي: أهل العقول الزكية الذكية، فهم الذين يؤثرون الأعلى على الأدنى، فيؤثرون العلم على الجهل، وطاعة اللّه على مخالفته، لأن لهم عقولا ترشدهم للنظر في العواقب، بخلاف من لا لب له ولا عقل، فإنه يتخذ إلهه هواه.

اللهم اعترفنا بذنوبنا وتقصيرنا وأنت أهل العفو والمغفرة فاعف عنا واغفر لنا.

مختصر من مقال: كتبه محمود داود دسوقي خطابي، لعالم الزهاد وزاهد العلماء شيخ الإسلام النووي (631- 676هـ)

لا تنس ذكر الله
أستغفر الله
0 / 100

إقرأ المزيد :




.
عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية