بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدِ رحمه الله

بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدِ رحمه الله

بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدِ رحمه الله


الخطبة الأولى

الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولَهُ؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 102.] ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾[النِّسَاء: 1.]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الْأَحْزَاب: 70، 71].

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَشَّرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أيها الأخوة: سِيَرُ العلماءِ والصالحينَ مدارسُ نَنْهَلُ من مَعِينَهَا الصَّافي العَذْبِ الزُلالِ طريقَ الحياة، وكيفيةَ عُمْرانِها بالصلاحِ والتقوى، وهي الدروبُ التي تدُّل على النجاحِ الدنيوي والأخروي، وما أجملَ طالبَ العلم حين يقرأُ ويحتذي حذوهم بالجدِ والتحصيلِ، وما أروعَ العابدَ حين يسمعُ ثمّ يُطَبِّقُ أفعالهَم، وقد قال الإمامُ أبو حنيفةَ رحمه الله: (الحكاياتُ عن العلماءِ ومحاسنِهم أحبُّ إليَّ من كثيرٍ من الفقه، لأنها آدابُ القوم) وشاهدُه من كتاب الله تعالى قوله سبحانه: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾.

ومن السيرِ المؤثرةِ والحوادثِ التاريخية الشخصيّة التي لاتُنسى، والتي لا بُدَّ وأن تترك أثراً عظيماً في نفس متأملها سيرةُ الْإِمَامِ، الْقُدْوَةِ، شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَقِيِّ بْنُ مَخْلَدِ الْأَنْدَلُسِيّ الْقُرْطُبِيّ، الْحَافِظِ، صَاحِبِ " التَّفْسِيرِ " و" الْمُسْنَدِ " اللَّذَيْنِ لَا نَظِيرَ لَهُمَا.[سير أعلام النبلاء ج13 ص ص: 286] كما يقولُ الذهبي رحمه الله تعالى.

وُلِدَ فِي حُدُودِ سَنَةِ مِائَتَيْنِ أَوْ قَبْلَهَا بِقَلِيلٍ. درَس وتفّقه وأخذ الحديثَ عن كبارِ علماءِ عصره، ومن شيوخه إمامُ أهل السنّة أحمدُ بنُ حنبل رحمه الله، وكان بَقِيُّ إِمَامًا مُجْتَهِدًا صَالِحًا، رَبَّانِيًّا صَادِقًا مُخْلِصًا، رَأْسًا فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، عَدِيمَ الْمِثْلِ، مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ، يُفْتِي بِالْأَثَرِ، وَلَا يُقَلِّدُ أَحَدًا.

وكان العلماءُ يَعْجَبون من كثرةِ حديثِه وعلمِه حتى قَالَ طَاهِرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأَنْدَلُسِيُّ: حَمَلْتُ مَعِي جُزْءً مِنْ " مُسْنَدِ " بَقِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ إِلَى الْمَشْرِقِ، فَأَرَيْتُهُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغَ، فَقَالَ: مَا اغْتَرَفَ هَذَا إِلَّا مِنْ بَحْرٍ. وَعَجِبَ مِنْ كَثْرَةِ عِلْمِهِ. وقَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ: أَقْطَعُ أَنَّهُ لَمْ يُؤَلَّفْ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُ " تَفْسِيرِ " بَقِيٍّ، لَا " تَفْسِيرُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ، وَلَا غَيْرُهُ.[ سير أعلام النبلاء ج13 ص288]

وَكَانَ وَرِعًا فَاضِلًا زَاهِدًا...

ومن روائعِ قصةِ لقْيَاهُ بالإمامِ أحمدَ رحمه الله حينما كان شاباً وسارَ من الأندلسِ إلى العراقِ على قدميه مانقلَه بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عن حفيدِ بَقِيٍّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: رَحَلَ أَبِي -يعني بقيّ- مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَغْدَادَ، وَكَانَ رَجُلًا بُغْيَتُهُ مُلَاقَاةُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. قَالَ: فَلَمَّا قَرُبْتُ بَلَغَتْنِي الْمِحْنَةُ، وَأَنَّهُ مَمْنُوعٌ، فَاغْتَمَمْتُ غَمًّا شَدِيدًا، فَاحْتَلَلْتُ بَغْدَادَ، وَاكْتَرَيْتُ بَيْتًا فِي فُنْدُقٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ الْجَامِعَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَجْلِسَ إِلَى النَّاسِ، فَدُفِعْتُ إِلَى حَلْقَةٍ نَبِيلَةٍ، فَإِذَا بِرَجُلٍ يَتَكَلَّمُ فِي الرِّجَالِ، فَقِيلَ لِي: هَذَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ. فَفُرِجَتْ لي فُرْجَةٌ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا زَكَرِيَّا: -رَحِمَكَ اللَّهُ- رَجُلٌ غَرِيبٌ نَاءٍ عَنْ وَطَنِهِ، يُحِبُّ السُّؤَالَ، فَلَا تَسْتَجْفِنِي، فَقَالَ: قُلْ. فَسَأَلْتُ عَنْ بَعْضِ مَنْ لَقِيتُهُ، فَبَعْضًا زَكَّى، وَبَعْضًا جَرَحَ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، فَقَالَ لِي: أَبُو الْوَلِيدِ، صَاحِبُ صَلَاةِ دِمَشْقَ، ثِقَةٌ، وَفَوْقَ الثِّقَةِ، لَوْ كَانَ تَحْتَ رِدَائِهِ كِبْرٌ، أَوْ مُتَقَلِّدًا كِبْرًا، مَا ضَرَّهُ شَيْئًا لِخَيْرِهِ وَفَضْلِهِ، فَصَاحَ أَصْحَابُ الْحَلْقَةِ: يَكْفِيكَ -رَحِمَكَ اللَّهُ- غَيْرُكَ لَهُ سُؤَالٌ.

فَقُلْتُ -وَأَنَا وَاقِفٌ عَلَى قَدَمٍ: اكْشِفْ عَنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ: أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَنَظَرَ إِلَيَّ كَالْمُتَعَجِّبِ، فَقَالَ لِي: وَمِثْلُنَا، نَحْنُ نَكْشِفُ عَنْ أَحْمَدَ؟! ذَاكَ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَخَيْرُهُمْ وَفَاضِلُهُمْ. فَخَرَجْتُ أَسْتَدِلُّ عَلَى مَنْزِلِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَدُلِلْتُ عَلَيْهِ، فَقَرَعْتُ بَابَهُ، فَخَرَجَ إِلَيَّ.

فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ: رَجُلٌ غَرِيبٌ، نَائِي الدَّارِ، هَذَا أَوَّلُ دُخُولِي هَذَا الْبَلَدَ، وَأَنَا طَالِبُ حَدِيثٍ وَمُقَيَّدُ سُنَّةٍ، وَلَمْ تَكُنْ رِحْلَتِي إِلَّا إِلَيْكَ، فَقَالَ: ادْخُلِ الْأُصْطُوَانَ وَلَا يَقَعْ عَلَيْكَ عَيْنٌ. فَدَخَلْتُ، فَقَالَ لِي: وَأَيْنَ مَوْضِعُكَ؟ قُلْتُ: الْمَغْرِبُ الْأَقْصَى. فَقَالَ: إِفْرِيقِيَّةُ؟ قُلْتُ: أَبْعَدُ مِنْ إِفْرِيقِيَّةَ، أَجُوزُ مِنْ بَلَدِي الْبَحْرَ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، بَلَدِي الْأَنْدَلُسُ، قَالَ: إِنَّ مَوْضِعَكَ لَبَعِيدٌ، وَمَا كَانَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُحْسِنَ عَوْنَ مَثْلِكَ، غَيْرَ أَنِّي مُمْتَحَنٌ بِمَا لَعَلَّهُ قَدْ بَلَغَكَ.

فَقُلْتُ: بَلَى، قَدْ بَلَغَنِي، وَهَذَا أَوَّلُ دُخُولِي، وَأَنَا مَجْهُولُ الْعَيْنِ عِنْدَكُمْ، فَإِنْ أَذِنْتَ لِي أَنْ آتِيَ كُلَّ يَوْمٍ فِي زِيِّ السُّؤَّالِ، فَأَقُولُ عِنْدَ الْبَابِ مَا يَقُولُهُ السُّؤَّالُ، فَتَخْرُجُ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، فَلَوْ لَمْ تُحَدِّثْنِي كُلَّ يَوْمٍ إِلَّا بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ، لَكَانَ لِي فِيهِ كِفَايَةٌ. فَقَالَ لِي: نَعَمْ، عَلَى شَرْطِ أَنْ لَا تَظْهَرَ فِي الْخَلْقِ، وَلَا عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ.

فَقُلْتُ: لَكَ شَرْطُكَ، فَكُنْتُ آخُذُ عَصًا بِيَدِي، وَأَلُفُّ رَأْسِي بِخِرْقَةٍ مُدَنَّسَةٍ، وَآتِي بَابَهُ فَأَصِيحُ: الْأَجْرَ -رَحِمَكَ اللَّهُ- وَالسُّؤَّالُ هُنَاكَ كَذَلِكَ، فَيَخْرُجُ إِلَيَّ، وَيُغْلِقُ، وَيُحَدِّثُنِي بِالْحَدِيثِينَ وَالثَّلَاثَةِ وَالْأَكْثَرِ، فَالْتَزَمْتُ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ الْمُمْتَحِنُ لَهُ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ مَنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ السُّنَّةِ، فَظَهَرَ أَحْمَدُ، وَعَلَتْ إِمَامَتُهُ، وَكَانَتْ تُضْرَبُ إِلَيْهِ آبَاطُ الْإِبِلِ، فَكَانَ يَعْرِفُ لِي حَقَّ صَبْرِي، فَكُنْتُ إِذَا أَتَيْتُ حَلْقَتَهُ فَسَحَ لِي، وَيَقُصُّ عَلَى أَصْحَابِ الْحَدِيثِ قِصَّتِي مَعَهُ، فَكَانَ يُنَاوِلُنِي الْحَدِيثَ مُنَاوَلَةً وَيَقْرَؤُهُ عَلَيَّ وَأَقْرَؤُهُ عَلَيْهِ.[هذه القصة أنكرها الإمام الذهبي رحمه الله تعالى، وقد بحث الدكتور أحمد ضياء العمري صحتها في كتابه بقي بن مخلد ص39 وص40 وانتهى إلى صحة وقوعها]اهـ.

ومن عجيبِ تَقواه ماقَالَه عنه الإمامُ الذهبيُّ رحمه الله: قَدْ ظَهَرَتْ لَهُ إِجَابَاتُ الدَّعْوَةِ فِي غَيْرِ مَا شَيْءٍ. قال: وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى بَقِيٍّ، فَقَالَتْ: إِنَّ ابْنِي فِي الْأَسْرِ، وَلَا حِيلَةَ لِي، فَلَوْ أَشَرْتَ إِلَى مَنْ يَفْدِيهِ، فَإِنَّنِي وَالِهَةٌ. قَالَ: نَعَمْ، انْصَرِفِي حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ. ثُمَّ أَطْرَقَ، وَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ جَاءَتِ الْمَرْأَةُ بِابْنِهَا، فَقَالَ: كُنْتُ فِي يَدِ مَلِكٍ، فَبَيْنًا أَنَا فِي الْعَمَلِ، سَقَطَ قَيْدِي. قَالَ: فَذَكَرَ الْيَوْمَ وَالسَّاعَةَ، فَوَافَقَ وَقْتَ دُعَاءِ الشَّيْخِ. قَالَ: فَصَاحَ عَلَى الْمَرْسَمِ بِنَا، ثُمَّ نَظَرَ وَتَحَيَّرَ، ثُمَّ أَحْضَرَ الْحَدَّادَ وَقَيَّدَنِي، فَلَمَّا فَرَّغَهُ وَمَشَيْتُ سَقَطَ الْقَيْدُ، فَبُهِتُوا، وَدَعَوْا رُهْبَانَهُمْ، فَقَالُوا: أَلَكَ وَالِدَةٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالُوا: وَافَقَ دُعَاءَهَا الْإِجَابَةُ إلى أن قال: ثُمَّ قَالُوا: قَدْ أَطْلَقَكَ اللَّهُ، فَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُقَيِّدَكَ. فَزَوَّدُونِي، وَبَعَثُوا بِي..

وقد ابتلي رحمه الله عندَ السلطانِ في وقتِه، قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ الْفَرَضِيِّ فِي " تَارِيخِهِ ": مَلَأَ بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ الْأَنْدَلُسَ حَدِيثًا، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ الْأَنْدَلُسِيُّونَ: أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأَبُو زَيْدٍ، مَا أَدْخَلَهُ مِنْ كُتُبِ الِاخْتِلَافِ، وَغَرَائِبِ الْحَدِيثِ، فَأَغْرَوْا بِهِ السُّلْطَانَ وَأَخَافُوهُ بِهِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَظْهَرَهُ عَلَيْهِمْ، وَعَصَمَهُ مِنْهُمْ، فَنَشَرَ حَدِيثَهُ وَقَرَأَ لِلنَّاسِ رِوَايَتَهُ. ثُمَّ تَلَاهُ ابْنُ وَضَّاحٍ، فَصَارَتِ، الْأَنْدَلُسُ دَارَ حَدِيثٍ وَإِسْنَادٍ [سير أعلام النبلاء ج13 ص289]...

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَذْكُورُ فِي " تَارِيخِهِ ": كَانَ بَقِيٌّ طُوَالًا أَقْنَى ذَا لِحْيَةٍ مُضَبَّرًا[المُضَّبّر: مكتنز اللحم] قَوِيًّا جَلْدًا عَلَى الْمَشْيِ، لَمْ يُرِ رَاكِبًا دَابَّةً قَطُّ، وَكَانَ مُلَازِمًا لِحُضُورِ الْجَنَائِزِ، مُتَوَاضِعًا، وَكَانَ يَقُولُ إِنِّي لَأَعْرِفُ رَجُلًا، كَانَ تَمْضِي عَلَيْهِ الْأَيَّامُ فِي وَقْتِ طَلَبِهِ الْعِلْمَ، لَيْسَ لَهُ عَيْشٌ إِلَّا وَرَقُ الْكُرُنْبِ الَّذِي يُرْمَى، وَسَمِعْتُ مِنْ كُلِّ مَنْ سَمِعْتُ مِنْهُ فِي الْبُلْدَانِ مَاشِيًا إِلَيْهِمْ عَلَى قَدَمِي.[سير أعلام النبلاء ج13 ص292]

قَالَ ابْنُ لُبَابَةَ الْحَافِظُ: كَانَ بَقِيٌّ مِنْ عُقَلَاءِ النَّاسِ وَأَفَاضِلِهِمْ، وَكَانَ أَسْلَمُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يُقَدِّمُهُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ لَقِيَهُ بِالْمَشْرِقِ، وَيَصِفُ زُهْدَهُ، وَيَقُولُ: رُبَّمَا كُنْتُ أَمْشِي مَعَهُ فِي أَزِقَّةِ قُرْطُبَةَ، فَإِذَا نَظَرَ فِي مَوْضِعٍ خَالٍ إِلَى ضَعِيفٍ مُحْتَاجٍ أَعْطَاهُ أَحَدَ ثَوْبَيْهِ.

وكان برنامجه اليومي حَسْبَ روايةِ حفيدِه عبدَالرحمن رحمهم الله يُقسِّم أَيَّامَهُ عَلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ: فَكَانَ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ قَرَأَ حِزْبَهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ، سُدُسَ الْقُرْآنِ، وَكَانَ أَيْضًا يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي الصَّلَاةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَيَخْرُجُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ إِلَى مَسْجِدِهِ، فَيَخْتِمُ قُرْبَ انْصِدَاعِ الْفَجْرِ.

وَكَانَ يُصَلِّي بَعْدَ حِزْبِهِ مِنَ الْمُصْحَفِ صَلَاةً طَوِيلَةً جِدًّا، ثُمَّ يَنْقَلِبُ إِلَى دَارِهِ -وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي مَسْجِدِهِ الطَّلَبَةُ- فَيُجَدِّدُ الْوُضُوءَ، وَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا انْقَضَتِ الدُّوَلُ، صَارَ إِلَى صَوْمَعَةِ الْمَسْجِدِ، فَيُصَلِّي إِلَى الظُّهْرِ، ثُمَّ يَكُونُ هُوَ الْمُبْتَدِئَ بِالْأَذَانِ، ثُمَّ يَهْبِطُ ثُمَّ يَسْمَعُ إِلَى الْعَصْرِ، وَيُصَلِّي وَيَسْمَعُ، وَرُبَّمَا خَرَجَ فِي بَقِيَّةِ النَّهَارِ، فَيَقْعُدُ بَيْنَ الْقُبُورِ يَبْكِي وَيَعْتَبِرُ.

فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ أَتَى مَسْجِدَهُ، ثُمَّ يُصَلِّي، وَيَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهِ فَيُفْطِرُ، وَكَانَ يَسْرُدُ الصَّوْمَ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَخْرُجُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ جِيرَانُهُ، فَيَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، ثُمَّ يُصَلِّي الْعِشَاءَ، وَيَدْخُلُ بَيْتَهُ، فَيُحَدِّثُ أَهْلَهُ، ثُمَّ يَنَامُ نَوْمَةً قَدْ أَخَذَتْهَا نَفْسُهُ، ثُمَّ يَقُومُ. هَذَا دَأْبُهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ.

وَكَانَ جَلْدًا، قَوِيًّا عَلَى الْمَشْيِ، قَدْ مَشَى مَعَ ضَعِيفٍ فِي مَظْلَمَةٍ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ، وَمَشَى مَعَ آخَرَ إِلَى إِلْبِيرَةَ، وَمَعَ امْرَأَةٍ ضَعِيفَةٍ إِلَى جَيَّانَ.[سير أعلام النبلاء ج13 ص296]

تُوُفِّيَ رحمه الله لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ. رحمه الله رحمةً واسعة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله.

الخطبة الثانية:

الحمد لله..
أيها الأخوة: تلك هي قُطُوفٌ وشذرات من سيرةِ هذا العالمِ العابدِ الجليلِ رحمه الله، والتي تجعلُ المرءُ يَخْجلُ من نفسهِ حينَ يُقارِنُ سيرتَه بتقصيرِه، ويَعْجَبُ من تخليدِ الله تعالى لها فها نحن نتذاكرُها بعد ألفٍ ومائتي عامٍ تقريباً، ومِنْ ألْمَعِ العِبَرِ فيها: تلك السنّةُ الكونيةُ والحكمةُ الربانيّة في تقلب أحوال الناس ِ والزمانِ مِنْ رفْعٍ وخَفْضٍ وعزٍ وذلْ ﴿ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾[ال عمران آية 140]، لكن العاقبةَ في النهاية للمتقين.

وكذلكَ من المواعظِ الناطقةِ من سيرته رحمه الله الصبرُ على الطلب، ومع أنهم رحمهم الله يقطعون الفيافيَ والمسافاتِ الطويلةَ مشياً على الأقدامِ مع قلةِ المؤونةِ وشظف العيشِ إلاّ أنهم يتلذذونَ في التحصيلِ والتحلّقِ على العلماء والمزاحمةِ بالرُّكَبِ، وهنا درسٌ عظيمٌ جداً أنّ العبادةَ والانقطاعَ لله تعالى سبيلٌ من سبلِ النجاة وقتَ الفتن، قال صلى الله عليه وسلم:« العبادةُ في الهرْجِ كهجرة إليّ» رواه مسلم [ رواه مسلم ج4 ص2268 برقم 2948].

وكذلكَ من العبرِ والفوائدِ أنّ علمَهم وتعلمَهم لم يُنْسهم قضاءَ حوائجِ الناسِ بل والسفرِ معهم على الأقدامِ لقضائها، وكذلك من الدروس صفاءُ قلوبِهم ونقاءُ نفوسهم والطاعة بالمعروف لولاة المسلمين.. وغيرُ ذلك كثير.

فاللهم اغفر لهم وارحمهم واجمعنا بهم في جناتك، واجعلنا ممن سار على نهجهم مقتفينَ سيرةَ أفضل الخلق ِ صلى الله عليه وسلم.

لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية