الإيمان بالله واليوم الآخر وأثره في السلوك (خطبة)

الإيمان بالله واليوم الآخر وأثره في السلوك (خطبة)

الإيمان بالله واليوم الآخر وأثره في السلوك (خطبة)


الحمد الله رب العالمين، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله ربه بين يدى الساعة هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بعد:

فإنَّ الإيمان بالله واليوم الآخر ركنان من أركان الإيمان، لا يصح إيمان المؤمن إلا بهما، ففي حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثوب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السَّفر، ولا يَعرفه منا أحدٌ، فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى رُكبتيه، ووضع كفَّيه على فخِذيه، وقال: يا محمد، أخبرني ما الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويُصدِّقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)؛ رواه مسلم.

هذه هي أركان الإيمان التي يُمثل الإيمان بالله واليوم الآخر جزءًا أساسيًّا منها.

والإيمان بالله واليوم الآخر له أثره العظيم في سلوك المسلم؛ إذ إنَّه هو الموجه الحقيقي لسلوك المسلم، وليس هناك أي قوى تستطيع أن تجعل سلوك المسلم مستقيمًا كما يجعله الإيمان بالله واليوم الآخر.

إن المسلم يعلم أن هذه الحياة ليست هي النهاية، وليست هي الخاتمة، وإنما بعد هذه الحياة حياة أخرى أطول من هذه الحياة، وربما تكون أجمل، ونعوذ بالله من أن تكون غير ذلك، ولهذا فهو يسعى في هذه الدنيا، ويعلم أن كل ما يعمله سيُجزى به، ولهذا فهو يتخلى عن كثير من أخلاقه السيئة خشية أن يؤاخذ بذلك في الآخرة، فإذا أُسيءَ إليه، أو انتُهكت بعضُ حقوقه، نجد أن الإيمان بالله واليوم الآخر يغل يده عن أن ينتقم لنفسه، وإن كان الانتقام سهلًا ميسورًا، وإن كان من أساء إليه أضعف منه، لكن المسلم لا ينظر إلى ضَعف غيره وقوته، إنما يتطلَّع إلى ضَعفه هو في يوم القيامة، انظر إلى عمر رضي الله عنه وقد كلَّمه رجل فأغضبه، فهمَّ عمر أن يوقِع به، لكنه تمالك نفسه، ثم قال للرجل: أردت أن يستفزني الشيطان بعزة السلطان، فأنال منك اليوم ما تناله مني غدًا - (يعني يوم القيامة) - قُم عافاك الله، لا حاجة لنا في مقاولتك.

أرأيت مثل هذا؟

إن عمر هو الخليفة، ولو شاء أن يأمر بقتل الرجل لفعل، ولما استطاع أحدٌ أن يردَّ له أمرًا، لكنه لما تذكَّر الآخرة، منعه ذلك من أن ينتقم لنفسه، فالإيمان باليوم الآخر يغل اليد عن الانتقام، وكما قال عمر رضى الله عنه: لولا القيامة لكان غير ما ترون.

والإيمان بالله واليوم الآخر يعصِم المسلم من الوقوع في الجرائم الكبرى، وإن تيسَّرت الأسباب ونام الرُّقباء، وأَمِن المتلصصون، فحين تغلق الأبواب، وتُسدل الستور، ويظن العصاة أنهم في غيبة عن أعين الناس، يوقن المسلم باطلاع الله عليه، ويخشى سؤاله في الآخرة، فيمتنع عن المعصية خوف سؤال الله له في الآخرة.

فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد، وكان رجلًا يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، وكانت امرأة (يعني بمكة) يقال لها: عناق، وكانت صديقة له، وأنَّه كان وعد رجلًا من أسارى مكة يحمِله، قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة، فجاءت عناق، فأبصرت سواد ظلي بجنب الحائط، فلما انتهت إليَّ عرفتني، فقالت: مرثد؟ قلت: مرثد، فقالت: مرحبًا وأهلًا، هَلُمَّ فبِتْ عندنا الليلة، قلت: يا عناق، حرَّم الله الزنا، قالت: يا أهل الخيام، هذا الرجل يحمل أسراكم، قال: فتبعني ثمانية، وسلكت الخندقة، فانتهيت إلى غار أو كهف فدخلت، فجاؤوا حتى قاموا على رأسي فبالوا، فظل بولهم على رأسي، وأعماهم الله عنى، ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي، فحملته وكان رجلًا ثقيلًا، حتى انتهيت إلى الإذخر، ففككت عنه أكبُله، فجعلت أحمله ويعينني، حتى قدمت المدينة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أنكح عناقًا؟ فأمسك حتى نزلت: ﴿ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: 3]، فقرأها علي، وقال: لا تنكحها؛ (أخرجه أصحاب السنن).

فهذا رجل كان يأتي هذه المرأة بالأمس القريب، وقد دعته اليوم إلى نفسها ليَبيت عندها، وقد أمِن الرُّقباءَ، لكن خوف الآخرة منعه من أن يأتيها مع أنه يُحبها، والدليل على حبه لها استئذانه رسول الله في الزواج منها، لكنه مع حبه لها لا يستطيع أن يأتي ما حرَّم الله عليه، فالإيمان بالله واليوم الآخر يعصم المسلم من الوقوع في الخطأ، لأنه إذا دعته نفسه للمعصية تذكَّر وقوفه بين يدي الله يوم القيامة، فحجَبه ذلك عن المعصية.

ولا تظنن أن المسلم لا يخطئ أبدًا، لا بل هو بشر قد تضعُف نفسه، ويغلبه هواه، وتُصيبه غفلة، فتقع منه المعصية، لكنه حتى إن وقع في المعصية، فليس وقوعه كوقوع غيره، إن غيره قد يستمرى المستنقع القذر الذي وقع فيه، فلا تفكِّر نفسه في الخروج منه، وقد لا يعترف بجريمة لم يطَّلع عليه فيها أحد، لكن المسلم الحق إذا ذلت نفسه سارع بالتوبة، وإذا غلبه هواه، وواقَع ذنبًا لم يطلع عليه أحدٌ، سارع بالاعتراف بالذنب ليقام عليه حدًّا يَجبر الذَّلة التي وقعت منه.

جَاءَ مَاعِزُ بنُ مَالِكٍ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، طَهِّرْنِي، فَقالَ: وَيْحَكَ، ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إلَيْهِ، قالَ: فَرَجَعَ غيرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، طَهِّرْنِي، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: وَيْحَكَ، ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إلَيْهِ، قالَ: فَرَجَعَ غيرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، طَهِّرْنِي، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: مِثْلَ ذلكَ حتَّى إذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ، قالَ له رَسولُ اللهِ: فِيمَ أُطَهِّرُكَ؟ فَقالَ: مِنَ الزِّنَا، فَسَأَلَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أَبِهِ جُنُونٌ؟ فَأُخْبِرَ أنَّهُ ليسَ بمَجْنُونٍ، فَقالَ: أَشَرِبَ خَمْرًا؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ، فَلَمْ يَجِدْ منه رِيحَ خَمْرٍ، قالَ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أَزَنَيْتَ؟ فَقالَ: نَعَمْ، فأمَرَ به فَرُجِمَ، فَكانَ النَّاسُ فيه فِرْقَتَيْنِ، قَائِلٌ يقولُ: لقَدْ هَلَكَ، لقَدْ أَحَاطَتْ به خَطِيئَتُهُ، وَقَائِلٌ يقولُ: ما تَوْبَةٌ أَفْضَلَ مِن تَوْبَةِ مَاعِزٍ، أنَّهُ جَاءَ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَوَضَعَ يَدَهُ في يَدِهِ، ثُمَّ قالَ: اقْتُلْنِي بالحِجَارَةِ، قالَ: فَلَبِثُوا بذلكَ يَومَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةً، ثُمَّ جَاءَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وَهُمْ جُلُوسٌ، فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، فَقالَ: اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بنِ مَالِكٍ، قالَ: فَقالوا: غَفَرَ اللَّهُ لِمَاعِزِ بنِ مَالِكٍ، قالَ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: لقَدْ تَابَ تَوْبَةً لو قُسِمَتْ بيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ، قالَ: ثُمَّ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِن غَامِدٍ مِنَ الأزْدِ، فَقالَتْ: يا رَسولَ اللهِ، طَهِّرْنِي، فَقالَ: وَيْحَكِ ارْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إلَيْهِ، فَقالَتْ: أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تُرَدِّدَنِي كما رَدَّدْتَ مَاعِزَ بنَ مَالِكٍ، قالَ: وَما ذَاكِ؟ قالَتْ: إنَّهَا حُبْلَى مِنَ الزِّنَا، فَقالَ: آنْتِ؟ قالَتْ: نَعَمْ، فَقالَ لَهَا: حتَّى تَضَعِي ما في بَطْنِكِ، قالَ: فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ حتَّى وَضَعَتْ، قالَ: فأتَى النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: قدْ وَضَعَتِ الغَامِدِيَّةُ، فَقالَ: إذًا لا نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا ليسَ له مَن يُرْضِعُهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَقالَ: إلَيَّ رَضَاعُهُ يا نَبِيَّ اللهِ، قالَ: فَرَجَمَهَا)؛ رواه مسلم.

فهذا رجل قد أتى ذنبًا في مكان لم يره فيه أحد، ولم يعلم به أحد، إنها الجريمة الكاملة كما يقولون في عصرنا، ولو سكت فلن يتَّهمه أحدٌ، ولن يشار إليه بإصبع اتهام، لكن لو كان الأمر موكولًا إلى الناس لسكت، لكنه يعلم أن الذي اطلع عليه هو الذي سيحاسبه في الآخرة، ولهذا تراه يتلدَّد يعترف ويؤكد مرارًا وتكرارًا حتى يقام عليه الحد، ربما لا أكون مبالغًا إذا قلت لك إنه لم يجد الراحة إلا في الوقت الذي أحس فيه بوقع الحجارة على جسده، وأنه كان قبل ذلك تلسعه عقارب النَّدم، فتطير النوم من عينه، وانظر إلى الغامدية وشأنها العجيب، إنها تأتي وتعترف وتكرر، وتضع الدليل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم على صدق كلامها، إنها حبلى من الزنا، فيمهلها النبي صلى الله عليه وسلم حتى تضع، ونحن لا ندري على سبيل اليقين كم كانت المدة الباقية من حملها حتى تضع، لكنها على أقل تقدير بضعة أشهر أقل من تسعة، فتخيَّل هذه المرأة ترجع إلى بيتها تنتظر موعد الوضع، وتمضي هذه المدة الطويلة، وكان بإمكانها ألا ترجع إلى رسول الله، وأن تطوي الأمر، لكنه الخوف من الله.

تضع المرأة فتأتي رسول الله بعد وضعها لمولودها، فيُرجعها رسول الله حتى تتم رضاعته، ويصل إلى فطامه، وهذا أمر يستغرق مدة قد تصل إلى سنتين، فتتم المرأة المهمة، وترجع لتلقَى رسول الله للمرة الثالثة، لماذا؟ ليقتُلها، أيُصدَّق هذا؟ ترجع ثلاث مرات دون استدعاء من رسول الله، ودون خروج قوة من أصحاب رسول الله للإتيان بها، وهي تعلم ما ينتظرها، ألم تفكر في مولودها؟ ستتركه وحيدًا، ألم تفكر في قومها الذين ستجر لهم الفضيحة؟ لا بد أنها فكرت في كل ذلك، وفكرت أيضًا في لقاء الله، وهذا أنساها كل ما فكرت فيه قبل ذلك، إنها تذكرت فقط وقوفها بين يدي الله في الموقف الرهيب يوم القيامة، فهان عليها كلُّ شيء، إنه الإيمان بالله واليوم الآخر إذا خالط القلب رأيت الأعاجيب.

إن المسلم الحق إن ذلت نفسه سارع بالاعتراف بذنبه، خوفًا من ربه، إن الإيمان بالله واليوم الآخر يجعل صاحبه مستحضرًا رقابةَ الله عليه، وعالِمًا باطلاع الله عليه، فإذا عرض له طمعٌ، أو أُغري بشيء، تذكَّر فعاد مسرعًا.

يمر ابن عمر رضي الله عنه في سفره براعٍ في غنمه، فيقول له: هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك؟ فقال الراعي: إنها ليست لي، وسيدي لم يأذن لي، فقال ابن عمر: إن سألك سيدك، فقل: أكلها الذئبُ، فقال الراعي: فأين الله، يا ألله، ما أعجب هذا؟ هذا راع في الصحراء لم يتعلم في جامعات، ولم يجلس في حلقات العلم، ولكنه يُلقن كلَّ المتعلمين درسًا في يقظة الضمير، إن سيده لن يراه، ولو سأله فمعه عذر مقبول (أكلها الذئب)، لكن هل الأمر الذي يعني العبد هو أمر إقناع سيده، لو كان هذا لهان الخطب، إنما الأمر (أين الله؟)، يا ألله جملة من كلمتين، لو قالها كل سارق وكل مختلس، وكل منتهب، لاستراح الناس، ولأمِن الناس على دمائهم وأموالهم، إن الإيمان بالله فقط هو الذي يربِّي الضمير، فليكتُب الكتاب والمفكرون ما شاؤوا فلن يتغير شيء مالم يحيا الإيمان بالله واليوم الآخر في القلوب، إذا لم يدخل الإيمان القلب، فلن يكون ثمة ضمير، ولن يكون هناك أخلاق، هذا ليس كلامي بل ليس كلام مسلم حتى، إنه كلام القاضي (ديننج) في تقريره الذي كتبه عن فضائح الوزير البريطاني جون بريفيمو وعشيقته كريستين كيلر، قال القاضي ديننج: بدون الدين لا يمكن أن تكون هناك أخلاق، وبدون أخلاق لا يمكن أن يكون هناك قانون.

إن الإيمان بالله يعصم المسلم من رذائل الأخلاق، فيمنعه من الأنانية التي لا يكاد يخلو منها أحد، إنك ترى الناس تدفعهم الأنانية إلى التنافس على الدنيا ومتاعها، ويدفعهم ذلك إلى التنازع والاختصام، حتى يدعوا ما ليس لهم، ويجحدوا ما عليهم من حق، لكن الإيمان بالله إذا خالطت بشاشته القلوب، أطفأ لهبَ الخصومة، وقتل شيطان الطمع.

تروي أم سلمة رضي الله عنها أنها كانت جالسة عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءَ رجُلانِ منَ الأنصارِ يختَصمانِ إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في مواريثَ بينَهُما قد درست، ليسَ عندَهُما بيِّنةٌ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: إنَّكم تختصمونَ إليَّ وإنَّما أَنا بشرٌ، ولعلَّ بعضَكُم أن يَكونَ ألحنَ بحجَّتِهِ مِن بعضٍ، وإنَّما أقضي بينَكُم على نحوٍ مِمَّا أسمعُ، فمَن قضيتُ لَهُ من حقِّ أخيهِ شيئًا فلا يأخذْهُ، فإنَّما أقطعُ لَهُ قطعةً منَ النَّارِ يأتي بِها إسطامًا في عنقِهِ يومَ القيامة، فبَكَى الرَّجلانِ، وقالَ كلٌّ منهما: حقِّي لأخي، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: أمَّا إذْ قُلتُما فاذهَبا فاقتَسِما، ثم توخَّيا الحقَّ بينكُما ثم استَهِما، ثم ليُحلِلْ كلُّ واحدٍ منكُما صاحبَهُ.

فانظر إلى حال الرجلين في أول أمرهما قبل أن يذكِّرهما النبي بالآخرة، ثم قارِن حالهما بعد أن ذُكِّروا بها، بعد أن لامس ذكر الآخرة أوتارَ قلبهما، تغيَّر كلَّ شيء، هان ما جاءَا ليختصما فيه، وأراد كل واحد منهما أن يتنازل عن حقه لأخيه، هكذا تفعل كلمة الإيمان في القلوب، إنها تميت الأنانية من القلب، وتوقظ الضمير، وتجعل الدنيا هيِّنة على أهلها.

روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اشْتَرَى رَجُلٌ مِن رَجُلٍ عَقارًا له، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الذي اشْتَرَى العَقارَ في عَقارِهِ جَرَّةً فيها ذَهَبٌ، فقالَ له الذي اشْتَرَى العَقارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إنَّما اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأرْضَ، ولَمْ أبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، فقالَ الذي شَرَى الأرْضَ: إنَّما بعْتُكَ الأرْضَ، وما فيها، قالَ: فَتَحاكما إلى رَجُلٍ، فقالَ الذي تَحاكما إلَيْهِ: ألَكُما ولَدٌ؟ فقالَ أحَدُهُما: لي غُلامٌ، وقالَ الآخَرُ لي جارِيَةٌ، قالَ: أنْكِحُوا الغُلامَ الجارِيَةَ، وأَنْفِقُوا علَى أنْفُسِكُما منه وتَصَدَّقا.

إن التاريخ ليقف منكَّس الرأس متعجبًا أمام هذا الموقف النبيل، ولا يستطيع المرء أن يحكم أيهما أفضل من أخيه، لقد أصابانا بالحيرة في كل شيء في موقفهما من المال، إنهما يتدافعانه وكأنه سُبَّةٌ أو تُهمة يريد كل واحد منهما أن يَنفيها عن نفسه، وأن يُثبتها لغيره، ثم يتحاكمان إلى رجل يفصل بينهما وكأن الأمر أمرٌ يحاول كل منهما نفيَه عن نفسه، ما أعظم الرجلين، بل ما أعظم الإيمان الذي وقر في قلبيهما.

إن الإنسان قد يعرض له الطمع والجشعُ، خاصة إن كان يعمل بالتجارة، فهو يريد أن يشتري برخص ويبيع بثمن غال، ولو لم يستحضر المسلم الإيمان، لأعماه جشعُه وللبَّس على الناس، لكن المؤمن الحق يأبى أن يكسب ما ليس من حقه.

روى الإمام الغزالي في الإحياء عن محمد بن المنكدر أنه كان له شقق يبيعها، بعضها بخمسة دراهم، وبعضها بعشرة، فباع غلامه في غيبته لأعرابي شُقة من الخمسيات بعشرة، فلما عاد ابن المنكدر وعرف، لم يزل يطلب ذلك الأعرابي المشتري عامة يومه حتى وجده، فقال له إن الغلام قد باعك شقة من ذوات الخمس بعشرة، فقال الأعرابي: يا هذا قد رضيت، فقال ابن المنكدر: وإن رضيت فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، فاختر إحدى ثلاث خصال؛ إما أن تأخذ شقة من العشريات بدراهمك، وإما أن نرد عليك خمسة، وإما أن ترد شقتنا وتأخذ دراهمك، فرد عليه خمسة وانصرف الأعرابي.

فهذا بيع قد تَمَّ، وليس فيه غرر ولا مكر ولا خديعة، وقد رضي المشتري حتى بعد علمه باللبس الذي وقع، لكن ابن المنكدر لم يرضَ؛ لأن الإيمان الذي يمتلئ به قلبه يحثه على ألا يرضى لغيره إلا ما يرضاه لنفسه.

إن الإيمان بالله واليوم الآخر كما أنه يعصِم المسلم من الدنايا، هو أيضًا يجعل غرضه في الدنيا رضا الله وحده، وحسب، فهو لا يحب أن يُذكَرَ، ولا أن يُثنى عليه، إنما يحب أن يَخمُلَ ذكرُه في الدنيا ليُرفَع في الآخرة، فهو ليس من أصحاب الأوسمة والنياشين الذين تُسَوَّد بأسمائهم صفحات الجرائد، وتتصدر أسماؤهم أخبار المشاهير، إنه لا يبغي ثناءً إلا من الله، ولا يرجو ثوابًا لعمله من غير الله، حاله كحال صاحب النقب، فمن هو صاحب النقب؟ كان مسلمة بن عبدالملك أميرًا على جيش من جيوش الدولة الأموية، وكان يحاصر بجيشه حصنًا من حصون الأعداء، واستعصى هذا الحصن على الجيش، فلم يستطع له فتحًا ولا اقتحامًا، فندب الناس إلى نقب منه، فتقدم جندي ملثم غير معروف ودخل النقب غير مبال بسهام الأعداء ولا خائف من الموت، حتى كان سببًا في فتح الحصن.

وفرح مسلمة بذلك كثيرًا، ونادى في الجيش: أين صاحب النقب؟ فلم يُجبه أحد، فقال مسلمة: إني أمرت حاجبي بإدخاله عليَّ حين يأتي، فعزمت عليه (أي حلفت) إلا جاء، وكان يريد أن يخصه بجزء من الغنائم ويمجِّده.

وبعد فترة جاء الرجل إلى حاجب مسلمة، وقال له: استأذن لي على الأمير، فقال له الحاجب: أأنت صاحب النقب؟ فأجاب أنا أخبركم عنه.

واستأذن له الحاجب على الأمير، فلما صار بين يديه قال له: إن صاحب النقب يشترط عليكم ثلاثة شروط هي: ألا تبعثوا باسمه في صحيفة إلى الخليفة، وألا تسألوه مَنْ هو، وألا تأمروا له بشيء، قال مسلمة: فذلك له، فقال الرجل في استحياء: أنا صاحب النقب، ثم ولَّى مسرعًا، فكان مسلمة لا يصلي بعدها صلاة إلا دعا فيها قائلًا: اللهم اجعلني مع صاحب النقب يوم القيامة!

أرأيتم ما فعل هذا الجندي، لقد خاطر بنفسه، وفتح الحصن وحده، وماذا كان شرطه ليفصح عن شخصه، إن شرطه هو ألا يعرفه أحدٌ، لماذا؟ لأنه يريد الله، والله وحده فقط.

هكذا الإيمان بالله واليوم الآخر يربط المؤمن بالله وحده، فهو لا يحب أن يُثني عليه أحد، ولا أن يمدحه أحد.

إن الإيمان بالله هو الذي جعل ذا البجادين يترك ثيابه لعمِّه، ويأخذ بجادًا يلبسه ليلحق برسول الله، وهو الذي جعل جليبيبًا يترك جهاز العرس؛ ليجهز جهاز الجهاد حتى يلقى الله شهيدًا تتسابق إليه الحور العين، وهو الذي جعل رِبعيًّا يَتيه بدينه على رستم، ويخاطبه في ترفُّع وكبرياء.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما علَّمنا، وأن يعلِّمنا ما ينفعنا.

لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية