النهي عن الإسراف

النهي عن الإسراف

النهي عن الإسراف


الخطبة الأولى


إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأَشهد أن لا إِله إلا الله وحده لا شريك له، وأَشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأُمَّة، وكشف الله به الغُمَّة، وجاهد في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين من ربِّه، فصلواتُ الله وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار إلى يوم الدين، أما بعد:

أيها المسلمون، إن من الأمور التي حثَّ عليها الإسلام نظافة المسلم في بدنه، ومسكنه، ومسجده، وسوقه، وسائر شؤونه ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [المدثر: 4]، ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222].


روى مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

((الطُّهُوْرُ شَطْرُ الإِيْمَانِ))،وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يومًا يغسل فيه رأسه وجسده))، وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بنظافة البيوت؛ فروى الترمذي في سننه من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نظِّفُوا أفنيتكم، ولا تشبَّهوا باليهود))، كما أمر عليه الصلاة والسلام بنظافة المساجد، وأن تُطيَّبَ وتُجنَّب الأقذار والروائح الكريهة؛ روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلـم بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ»، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أَنَّ امرَأَةً سَودَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ المَسجِدَ، فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلـم،فَسَأَلَ عَنهَا، فَقَالُوا: مَاتَتْ، فَقَالَ: ((أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي؟))، قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا، فَقَالَ: ((دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا))، فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: ((إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ عز وجل يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلاتِي عَلَيْهِمْ))، وفي رواية: «كَانَتْ تَلْتَقِطُ الْخِرَقَ وَالْعِيدَانَ مِنَ الْمَسْجِدِ».

ولكن هذه النظافة العامة في كل شيء لا تعني بأي حال الإسرافَ؛ فإنه من الصفات المذمومة التي نهى الشارع عنها، وسيكون حديثُنا عنه في هذه الخطبة.

قال الراغب: الإسرافُ هو تجاوُزُ الحدِّ في كل فعل يفعله الإِنسان، وإِن كان ذلك في الإِنفاق أشهر، وقال سفيان بن عيينة: ما أنفقت في غير طاعة الله سرف، وإِن كان ذلك قليلًا.

قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].

والإِسراف يتناول المال وغيره؛ قال تعالى محذِّرًا عباده من الإِسراف: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31].

قال بعض السلف: جمع الله الطب في نصف آية: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ﴾.

وقال تعالى: ﴿ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأنعام: 141].

قال عطاء بن أبي رباح: نهوا عن الإِسراف في كل شيء، وقال ابن كثير: «أي: لا تسرفوا في الأكل؛ لما فيه من مضرَّة العقل والبدن».

روى النسائي في سُنَنِه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جدِّه رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كُلُوا وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلا مَخِيلَةٍ)).

وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: «كُلْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ».

وروى الترمذي في سُنَنِه من حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لا مَحَالَةَ، فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ)).

أيها المسلمون، لقد فرَّقَ بعض العلماء بين التبذير والإِسراف الذي جاء النهي عنه في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 27]، فقالوا: «إن التبذير هو صرف الأموال في غير حقِّها؛ إما في المعاصي، وإما في غير فائدة لعبًا وتساهُلًا بالأموال، أما الإِسراف فهو الزيادة في الطعام والشراب واللباس في غير حاجة».

قال تعالى مادحًا عباده المقتصدين: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67].

قال ابن كثير رحمه الله: ﴿ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ﴾؛ أي: ليسوا بمبذِّرين في إنفاقهم؛ فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم؛ فيُقصِّرون في حقِّهم، فلا يكفونهم؛ بل عدلًا خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا؛ ا هـ.

وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: 29]، وهذا هو التوسُّط المأمور به، لا بخل، ولا إمساك ولا إِسراف، ولا تبذير؛ لكن بين ذلك، قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى آمرًا بالاقتصاد في العيش، ذامًّا للبخل، ناهيًا عن الإِسراف: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ﴾؛ أي: لا تكن بخيلًا منوعًا، لا تعطي أحدًا شيئًا، ﴿ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ﴾؛ أي: ولا تسرف في الإِنفاق، فتعطي فوق طاقتك؛ وتخرج أكثر من دخلك، ﴿ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾؛ أَي: فتقعد إن بخلت ملومًا يلومك الناس، ويذمُّونك، ويستغنون عنك، كما قال زهير بن أبي سُلمى في المعلَّقة:

وَمَنْ كَانَ ذَا مَالٍ فَيَبْخَلُ بِمَالهِ
            عَلى قَوْمِهِ يُسْتَغْنَ عَنْهُ وَيُذْمَمِ

ومتى بسطت يدك فوق طاقتك، قعدت بلا شيء تنفقه، فتكون كالحسير، وهي الدَّابة التي عجزت عن السير؛ ا هـ.

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير، وما تصدَّقْتَ به، فهو لك، وما أنفقتَ رياءً وسُمْعةً، فذلك حظُّ الشيطان.

وقال ابن الجوزي: «العاقل يُدبِّر بعقله معيشته في الدنيا، فإِن كان فقيرًا اجتهد في كسب وصناعة تكُفُّه عن الذُّلِّ للخَلْق، وقلِّل العلائق، واستعمل القناعة، فعاش سليمًا من منن الناس، عزيزًا بينهم، وإِن كان غنيًّا، فينبغي له أن يُدبِّر في نفقته، خوفَ أن يفتقر فيحتاج إلى الذُّلِّ للخلق...» إلى آخر ما قال.

أيها المسلمون، ينبغي أن يُنْتَبه لأمرٍ، وهو أن الإِنفاق في الحق لا يُعَدُّ تبذيرًا، قال مجاهد: لو أنفق إنسانٌ مالَه كلَّه في الحق لم يكن مُبذِّرًا، ولو أنفق مدًّا في غير حقٍّ كان مُبذِّرًا.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذَنْبٍ، فتوبوا إليه واستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:

فإن نِعَمَ الله علينا كثيرة؛ قال تعالى: ﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34]، ومن هذه النعم نعمة الماء وهو قوام الحياة لكل الكائنات، فلا حياة للعالم على وجه الأرض إلا بالماء؛ قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنبياء: 30]، وقال تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ﴾ [ق: 9].

ومن شُكْر هذه النعمة استخدامها في طاعة الله والحذر من استخدامها في معصيته؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]، ولأهمية هذا الماء على حياة الناس، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسراف في استعماله، ولو كان للعبادة؛ كالوضوء أو الغسل.

أيها المسلمون، ومن الإسراف الذي يقع فيه بعض الناس الإسراف في الماء، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يزيد المؤمن في وضوئه على ثلاث مرات؛ روى النسائي في سُنَنه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء؟ فأراه الوضوء ثلاثًا، ثلاثًا، ثم قال: ((هَكَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ)).

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقتصد في استخدام الماء للوضوء، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْـمُدِّ، وَيَغتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ»؛ قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ولنعلم أن الإكثار من استخدام الماء في الوضوء أو الغسل داخل في قول الله تعالى: ﴿ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأنعام: 141]؛ ولهذا قال الفقهاء رحمهم الله: يكره الإسراف ولو كان على نهر جارٍ، فكيف إذا كان على مكائن تستخرج الماء.

ومنها الإسراف في استخدام الكهرباء، والدولة وفَّقَها الله لكل خير، تبذل جهودًا كبيرة في تحلية المياه، واستخراجها من الآبار، وكذلك الحال بالنسبة للكهرباء، والاقتصاد فيهما من المحافظة على المال العام.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحْمِ حوزةَ الدين، وألَّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، واجمَع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.

اللهم أمِّنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتَّقاكَ، واتَّبَع رضاك يا أرحم الراحمين.

وصلُّوا وسلِّموا على أكرم خلق الله الرسول الأمين محمد بن عبدالله، وعلى آله وصَحْبه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الآل والصَّحْب الكِرام، وعن التابعين لهم بإحسانٍ، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا ذا الجلال والإكرام.

عباد الله ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِه، يزدكم، ولذِكْرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية