التآلف والتراحم وإصلاح ذات البين

التآلف والتراحم وإصلاح ذات البين

التآلف والتراحم وإصلاح ذات البين


إن الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله: عرفته القلوب بفطرتها فنالت سعادتها بتوحيد ربها. سُئل أعرابي ذات يوم وقيل له، ما الدليل على وجود الله؟! فقال الأعرابي بلسان الفطرة: سبحان الله! البعرة تدل على البعير، وأثر القدم يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، أفلا تدلان على اللطيف الخبير؟! الله الله، أعرابي بسيط لم يلتحق بجامعة من الجامعات، ولا بكلية من الكليات، ولكنه تخرج في جامعة الفطرة، وتربى في أحضان الطبيعة: بين سمائها وجبالها وإبلها... ابنَ آدم:

تأمَّل في الوجود بعين فِكرٍ
ترىٰ الدنيا الدَّنية كالخيالِ
فكل الكائنات غداً ستفنى
ويبقى وجهُ ربِّك ذو الجلالِ

وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً رسول الله: أقام دعائم المجتمع على الخلق الكريم والمثل العليا. قال سيدنا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه -: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فقيل له: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فقَالَ: (إِدْخَالُكَ السُّرُورَ عَلَى مُؤْمِنٍ أَشْبَعْتَ جَوْعَتَهُ، أَوْ سَتَرْتَ عَوْرَتَهُ، أَوْ قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً)

من سار في هدي الحبيبِ محمدٍ
             سعدَت به الدنيا ومات سعيدا

أما بعد إخوة الإيمان:

أسمعتم عن طاعة تبلغ بصاحبها أعلى الدرجات، وترفعه عند ربِّ البريات، وتجعلُه محبوباً في السماوات..؟! طاعةٌ ليست بصلاة ولا صيام ولا حج ولا عمرة.. ولكنها لها أجر كبير وفضل مثل هذه العبادات...! أعرفتم ما هذه العبادة؟! إنها عبادة "الإصلاح بين المتخاصمين" إصلاح ذات البين.. وما أحوج الأمة اليوم إلى هذه الخصلة الحميدة، وإلى هذا الخلق العظيم، في زمن كثرت فيه الصراعات والنزاعات، والهجر والقطيعة، فلم يسلم منها الأقارب ولا الجيران، ولا الأصدقاء، ولا الأزواج، ولا الشركاء. قَالَ صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ..». والله يقول: ﴿ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ، فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾ [النساء: 114] لا يعرف مقداره إلا الله تبارك وتعالى، والإصلاح بين الناس فريضة اجتماعية يقوم بها من صفت نفوسهم، وقويت عزائمهم، ورسخ إيمانهم. وقد حض القرآن على الإصلاح بين الناس سواء أكانوا جماعات أم أفراداً لأن التخاصم والتنازع يؤدي إلى انتشار العداوات والمفاسد بين الناس. قال- تعالى -: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 10] ولما قصَّر المسلمون وأهل العلم والوجاهة بهذه العبادة ظهر الشرخ في الأمة، وامتلأت المحاكم بالقضايا، وكثر الطلاق والفراق والنزاع.

فيا هناء وسعادة مـن وفقـه الله للإصلاح بين متخاصمين.. بين زوجين أو جارين أو صديقين أو شريكين أو أخوين، هنيئاً له، ثم هنيئاً له.. قال الإمام الأوزاعي الفقيه المحدث رحمه الله: "مَا خُطْوَةٌ أَحَبّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خُطْوَةٍ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ ". وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم لِأَبِي أَيُّوبَ: «يَا أَبَا أَيُّوبَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى صَدَقَةٍ يَرْضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ مَوْضِعَهَا؟» وفي رواية: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى صَدَقَةٍ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: «تُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا تَفَاسَدُوا، وَتُقَرِّبُ بَيْنَهُمْ إِذَا تَبَاعَدُوا».

أيها الأحبة:

كم من بيت كاد أن يتهدّم، بسبب خلاف بين الزوج وزوجه، فإذا بهذا المصلح يدخل بينهم فيقول كلمة وموعظة تسري إلى قلوبهم ونفوسهم، فينصرف الشيطان بينهم، وتعود النفوس إلى رشدها. قال لي أحد الإخوة.. وقعت في نزاع وخلاف مع زوجتي وأهلها.. حتى وصلنا إلى حد الطلاق بل الصدام.. فألهمني الله سؤال رجل من أهل العلم والحكمة وأدخلته حكماً بيننا.. وإذا بالنفوس تسكن، وإذا بالقلوب تلين... وإذا بالأمور إلى مجاريها بفضل الله وبفضل هذا الرجل المصلح.

فهنيئاً لمن أجرى الله الخير على يديه، فجعله سبباً للمِّ شملٍ قد تفرق، وإنهاء فُرْقة دامت لسنوات.. ألم يقل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيِهِ».

ولا شك أيها الأحبة:

أن الاشتغال بالصلح بين المتخاصمين قد يكون أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات.. وقال أحد الصَّحَابَةِ الكرام: "مَنْ أَرَادَ فَضْلَ الْعَابِدِينَ فَلْيُصْلِحْ بَيْنَ النَّاسِ" فها هو حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما؛ كان ذات يوم معتكفاً في مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فسلَّم عليه ثم جلس، فقال له ابن عباس: يا فلان أراك مكتئباً حزيناً، قال: نعم يا ابن عم رسول الله لفلان عليَّ حق وَلاءٍ؛ وحُرْمةِ صاحبِ هذا القبرِ ما أقدِرُ عليه. قال ابن عباس: أفلا أكلمه فيك؟ فقال: إن أحببت. قال: فانتعل ابن عباس ثم خرج من المسجد، فقال له الرجل: أنسيتَ ما كنت فيه؟ قال: لا، ولكني سمعت صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم والعهد به قريب - فدمعَتْ عيناه - وهو يقول: «من مشى في حاجة أخيه، وبَلَغ فيها؛ كان خيراً له من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف يوماً ابتغاء وجه الله تعالى؛ جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق أبعدَ مما بين الخافقين».

يا عبد الله يا مؤمن!

إذا رزقك الله الحكمة، إذا أكرمك بالجاه والوجاه بين الناس وسَخَّرت ذلك للإصلاح بينهم؛ فاعلم أن الله قد أعطاك سلماً ترتقي به إلى أعلى الدرجات في الجنة. لذا قال التابعي الجليل محمد بن كعب القرظي: "من أصلح بين قوم فهو كالمجاهد في سبيل الله". وقد خرج -عليه الصلاة والسلام- للإصلاح بين أناس حتى تأخر عن صلاة الجماعة..- ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾ [الانفال 1].

وَقد كَتَبَ سيدنا عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى الأشعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُما -: أن "رُدَّ الْخُصُومَ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، فَإِنَّ القَضَاءِ يُورِثُ بَينَهُمُ الضَّغَائِن"،وليكن شعارك أيها المصلح قول الله تعالى على لسان نبيه شعيب عليه السلام: - ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنيب﴾ [هود: 88].

أيها الأحبة:

كم من مشكلة أسرية زوجية لا تحتاج إلا لنصيحة أخ مخلص صادق غيور، رُزق الحكمة وحسن الخطاب. جَاءَ رَجلٌ ذات يوم إلَى أمير المؤمنين عُمَرَ بن الخطاب-رضي الله عنه- يَشْكُو إلَيْهِ خُلُقَ زَوْجَتِهِ فَوَقَفَ بِبَابِهِ يَنْتَظِرُهُ.. فَسَمِعَ امْرَأَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ ترفعُ صوتها عَلَيْهِ وهُوَ سَاكِتٌ لَا يَرُدُّ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ قَائِلًا: إذَا كَانَ هَذَا حَالَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ فَكَيْفَ حَالِي؟ فَخَرَجَ عُمَرُ فَرَآهُ مُوَلِّيًا فَنَادَاهُ: مَا حَاجَتُك يَا أَخِي؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ جِئتُ أَشْكُو إلَيْك خُلُقَ زَوْجَتِي وَاسْتِطَالَتَهَا عَلَيَّ فوجدتُكَ تشكو مَّما مِنُه أشكو. فقُلْت -في نفسي-: إذَا كَانَ هَذَا حَالَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ زَوْجَتِهِ فَكَيْفَ حَالِي؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يا هذا إنَّمَا تَحَمَّلْتُهَا لِحُقُوقٍ لَهَا عَلَيَّ: أَليست هي سِتْرٌ بَيْنِي وَبَيْنَ النَّارِ، فَبها يَسْكُنُ قَلْبِي عَن الْحَرَامِ. أَليست هيَ مرضعةُ لِوَلَدِي..؟! أَلَيستْ هيَ غاسلةُ ثيابي.؟! أَليستْ هيَ مُهيأةُ طعامي..؟! فَقَالَ الرَّجُلُ: والله إِنَّ لِي مِثْلَ مَا لَكَ.. فلأتجاوز عَنْهَا كما تَجَاوَزتَ عَنْهَا". كم نحن بحاجة من يذكرنا بنصيحة وإصلاح عمر-رضي الله عنه-: تَحَمَّلْتُهَا لِحُقُوقٍ لَهَا عَلَيَّ.. أَليست هي سِتْرٌ بَيْنِي وَبَيْنَ النَّارِ، فَبها يَسْكُنُ قَلْبِي عَن الْحَرَامِ. أَليست هيَ مرضعةُ لِوَلَدِي..؟! أَلَيستْ هيَ غاسلةُ ثيابي.؟! أَليستْ هيَ مُهيأةُ طعامي..؟!

أيها السادة:

كم عصم الله بالمصلحين من دماء وأموال، وفتن كادت أن تحرق الأخضر واليابس لولا فضل الله ثم جهد المصلحين المخلصين..

أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنة، اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ.. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فيا فوز المستغفرين..

لا تنس ذكر الله
الحمدلله
0 / 100

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية