الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


الحمد لله خالق الخلق من العدم، وبارئ الأممِ من أَنْسَالٍ ونَسَم، وأنزل الدين حَكَماً وقِسْطاساً من الأهواء والزيغ ومضرة الضيم، هو العالم بمدارات النفوس وعللها ودوائها وعوامل تقواها وبواعث سيرها في الهداية على صراطٍ مستقيمٍ.

يا أخا الإسلام:

إنْ كُنْتَ تَغْدُو في الذنوبِ جَلِيداً
            وتَخَافُ في يوم المَعَادِ وَعِيدا
فلقدْ أتاكَ من المهيمِنِ عَفْوُهُ
              وأفاضَ من نعمٍ عليكَ مَزيدا
لا تيأسن من لُطْفِ ربِّكَ في الحَشَا
             في بطْنِ أُمِّكَ مُضْغَةً ووليدا
لو شاءَ أنْ تَصْلَى جهنَّمَ خَالِداً
             ما كَانَ أَلْهمَ قَلبَكَ التَّوْحيدَا

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، صاحب الأمر الحكيم ومنزل القرآن العظيم ليكون حجة الله على العالمين.

وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، خير من بلغ رسالة ربه وقام للحق والخير بأقصى جهده، وترك الأمة على المحجة البيضاء وسبيل المهتدين.

اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد ميَّزَ الله تعالى أمة الإسلام بمميزات الخيرية المنشودة التي توجبها محكمات الدين القويم، ومن هذه الميزات الكريمات أنها أمةٌ داعيةٌ إلى الله تعالى، وذلك من أهم مسئولياتها على العموم، قال الله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } (آل عمران: من الآية 110)، فالدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة هذه الأمة ولا تسقط عن الأمة كمجموعٍ، وهي كذلك وظيفة الأفراد في جانب المسئولية.

وماذا عساه أن يفعل العاقل إزاء تلاطم أمواج الباطل وتشعبه وعلوِّ صوته وقوة تأثيره في واقع الحياة ؟! أو في نشوزِ الناس على منازع الفضل والخير وبعدهم عن البر والتقوى ؟! فليس أمامه على الدوام إلا تذكير العاقل وتنبيه الغافل ليزيد البعيد تآلفاً والقريب تلطفاً ويئوب الفئام من الناس إلى صراط الله العزيز الحميد، ومن هنا تزداد أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

منزلةُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وعندما تتجلى المواقفُ ويتطاولُ المنكر على المعروف بين الناس فيجب البلاغ بكلمة حقٍ وإجارة ظالمٍ لنفسه من نفسه، أو معتدٍ قد خرق أسوار المعروف إلى ما لا تحمد عقباه، عندئذٍ ؛ لا يحسن السكوت ولا بد من الكلام وإلا فقد حقر المؤمن نفسه، قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: « لا يحقرن أحدكم نفسه قالوا: وكيف يحقر نفسه ؟ قال: أن يرى أمرا لله فيه مقال فلا يقول به فيلقى الله تبارك وتعالى وقد أضاع ذلك فيقول: ما منعك ؟ فيقول: خشية الناس فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى » (البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة 8/26بسندٍ صحيحٍ والشوكاني في الفتح الرباني 11/5448 وقال: رجال إسناده ثقات عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه).

وما أحوجنا في هذه المرحلة المفصلية من حياتنا إلى التمسك بهذه الخصيصة التي ميزنا الله تعالى بها، بعدما زاغت الأبصار في ميدان الخُلُقِ وزادت الفتن بشكلٍ غير مسبوقٍ، وزلَّتْ كثيرٌ من الأقدام في براثن الخطأ وفاخرت الأرضُ السماءَ سفاهةً وتمنطق بالوفا كلُّ خوَّان.

ما أحوج المؤمن إلى كلمة نصحٍ من لسانٍ عاقلٍ وقلبٍ محبٍ، وما أحوج المجتمع إلى من يحنو عليه ويرحمه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

لقد بين القرآن الكريم أن الإنسان يقع في الخسران إلا من تواصي بالحق وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، قال الله تعالى: { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ }(العصر 1: 3)، [ فأقسم الله تعالى أن كل إنسانٍ خاسرٌ إلا من اتصف بهذه الأوصاف الأربعة الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر على الحق، فهذه السورة ميزان الأعمال يزن بها المؤمن نفسه فيبين له بها ربحه من خسرانه، ولهذا قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: لو فكر الناس كلهم فيها لكفتهم ] (الإمام ابن رجب الحنبلي / لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ص 400 ط1 2002م بتحقيق عبد الله عامر/ دار الحديث – القاهرة).

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم صور الولاية للمؤمنين فيما بينهم وهو تعبيرٌ عن شدة الحب ورعاية المصالح العاجلة والآجلة، قال الله تعالى: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (التوبة:71)، وهو شأن الصالحين من أهلِ الكتاب قبلنا، قال الله تعالى: { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ } (آل عمران 113:114)، وقد وعظ الحكيم لقمان ولده بالأمر والنهي فقال: { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } (لقمان:17).

وكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أشهر مناقب نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم وقد قال عنه ربه سبحانه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ }(لأعراف:157).

ولهذا فمن حسن إتباعنا لنبينا صلى الله عليه وسلم أن نأمر وننهى، قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:104)، وقد ألهم الله تعالى المؤمنين أن يعززوا ملكهم بعد التمكين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال تعالى: { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ) (الحج:41).

وقد جعل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مكفراً للذنوب، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (... فِتنةُ الرَّجلِ في أهلِهِ ومالِهِ ونفسِهِ وولدِهِ وجارِهِ يُكفِّرُها الصِّيامُ والصَّلاةُ والصَّدقةُ والأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المنكرِ) (صحيح مسلم 144).

وقد يُطِلُّ العرْفُ السيئ من حال الناس الذين يتأففون من النصح أو التحذير ظناً من البعض أنه على قافية السلامة منذ أزمان، أو لا يَأْبَهُ لحال بقية الخلق متى ما ابتعد هو عن الذنب أو العيب أو الخطأ بينما يرى غيره ولا يتألم قلبه ولا ينفعل كيانه مع كثرة وقوع الخطأ من الناس في سلبيةٍ وعدم اكتراث تورث الفتن وأقلها عدم إجابة دعاء الأخيار عند شدة فسوق الفجار أو تنزل البلاء من القهار، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لتأمرن بالمعروف، و لتنهون عن المنكر، أو ليسلطنَّ الله عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم » (السيوطي في الجامع الصغير 7223 بسندٍ حسنٍ)، وعن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم » صححه أحمد شاكر في عمدة التفسير 1/715).

والمجتمع كله دوماً في احتياجٍ دائمٍ إلى من يحدو له قوافي السلامة لأنه كالسفينة التي تمخر عباب الماء، فلو تُرِكَتْ لمن يخربها أو يكسر شراعها غرق المجتمع كله في براثن الخطأ أو التَّفَلتِ في الأخلاق أو اعوجاج السلوك والتعامل، وقد شبه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الآمرين والقائمين بأمانة الأمر والنهي والواقعين في بلاء المخالفات الشرعية والأخلاقية والسلوكية بأنهما فريقان يركب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فقال صلى الله عليه وسلم: « مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لوأناخرقنافينصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا » (صحيح البخاري 2493 عن النعمان بن بشيرٍ رضي الله تعالى عنهما).

ومن الخطأِ والحيْفِ في ميزان المجتمع للأشخاص أن نتواضع على توصيف الخامل اجتماعياً بنعوت التقدير له مع أنه لا يحتك مع أحد ولا يهتم بأمر أحد، من عمله إلى بيته إلى مسجده، هذه نشاطاته التي يؤديها فقط !، لا يشعر به أحد ولا يؤثر في أحد ولا يتأثر بأحد، وهذا وصفٌ لا يرفع الهام ولا يزكي النفس ولا المجتمع، ومن ثم يهتز ميزان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا شك أن الميزان كله في سنة نبينا الهادي صلى الله عليه وسلم، فعن أبي أمية الشعباني قال:سألتأباثعلبةالخشنيقلت كيف تصنع في هذه الآية قال أي آية قلت { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ }(المائدة: من الآية105) } فقال لي أما والله لقد سألت عنهاخبيراً سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروفوتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجابكل ذي رأي برأيه ورأيت أمراً لا بد لك منه فعليك بنفسك وإياك وأمر العوامفإن من ورائكم أيام الصبر صبر فيهن على مثل قبض على الجمر للعامل منكميومئذ كأجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله } (الطحاوي في شرح مشكل الآثار 3/212بسندٍ صحيحٍ).

وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤذن بالزوال والهلاك، فعن أم المؤمنين زينب بنت جحشٍ رضي الله تعالى عنها: { أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ دخل عليها فَزِعًا يقولُ: لا إلهَ إلا اللهُ، ويلٌ للعربِ من شرٍّ اقترَبَ، فُتِحَ اليومَ من ردمِ يأجوجَ ومأجوجَ مثلُ هذهِ، وحلَّقَ بإصبعِهِ الإبهامَ والتي تليها، قالت زينبُ بنتُ جحشٍ: فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أنهلِكُ وفينا الصالحونَ ؟ قال: نعم، إذا كَثُرَ الخَبَثُ }(صحيح البخاري 3346)، قال الله تعالى: { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }(الأنفال: 25).

صفاتٌ وآدابٌ هامةٌ

يجب على من نصًّبَ نفسهُ آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر أن يتعلمَ قبل أن يتكلمَ، وأن يضع الكلمة في موضعها، وأن لا يُهْدِرَ قدر الناس ولا احترامهم حال دعوته وأمره ونهيه، فإن هذه الجلافة والخشونة والعشوائية في الدعوة والبلاغ صدَّتْ كثيراً من الناس وخصوصاً الشبابَ عن صحيح الدين وبينات الهدى لافتقاد الوسيلة والأسلوب المنْشُودَيْنِ في التأثير، وأن لا يكون كلامه كالحِرَاب في وجوه الخَلْقِ بحجة البلاغ، فإن الله تعالى قال لسيدنا موسى عليه السلام وأخيه هارون حال مخاطبة الفرعون: { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى }(طه 43: 44).

وعلى الآمر الناهي أن لا ييأسَ من إصلاح الناس، وعلى العموم فإن هداية الناس ليست مسؤليته مع حرصه عليها وإنما هي من فضل الله تعالى على عباده، وما عليه إلا أن يبلغ، قال الله تعالى: { إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ } (الشورى من الآية 48)، ويبقى البلاغ حتى النهاية إعذاراً لله تعالى القائل: { وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }(الأعراف: 164).

وعلى الآمر أو الناهي أن يبذل جهدَهُ ويجند طاقات الإقناع والتأثير للمؤمنين طالباً الهداية لهم من مظانها، وأن يكون أمره ونهيه في قالبٍ يجذب الأسماع ويؤثر في العقول، وقد ابتليت الأمة في زماننا بمن يروم القول ولا يحسنه ويحب أن يُشار إليه بالبنان ويشتهر على أنه من الدعاة أو المتصدرين للمجالس وهو الذي يحتاج في الأمر والنهي إلى إغاثةٍ عاجلةٍ شاملةٍ !!، وفي كثيرٍ من الأحيان تأتي الكلمة المُذَكِّرَةُ أو الواعظةُ من قلبٍ ميتٍ ولسانٍ معوجٍ مهزومٍ بالمنفعة أو الصداقة الكذوبة كأن يقول لأخيه: اتق الله بلسانٍ باردٍ وقلبٍ غير منفعلٍ بقوله، وهذا أول نقصٍ دخل على بني إسرائيل، يقول عبد الله بن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قرأ: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (المائدة 78: 81)، ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو لتقسرنه على الحق قسراً » (أشار الشيخ أحمد شاكر إلى صحته في مقدمة عمدة التفسير1/715 وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة 1105).

كما أنه من أهم الواجبات على من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يأمر نفسه وينهاها قبل أن يهتم بغيره في الوعظ أو الانتقاد أو التقويم، فإن الله تعالى قد عاب على بني إسرائيل أنهم كانوا يتطوعون لغيرهم بالوعظ وينسون أنفسهم وهم أحوج شئٍ إليه، قال الله تعالى: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ }(البقرة: 44).

أيها الإخوة المؤمنون:

نحن الآن في معترك انتشار المزيد من العادات الدخيلة وتلبيس الخطأ وتوليد أوضاعٍ جديدةٍ على المجتمع ما ألفناها ولا عرفناها وقد بدا طلعها كرؤوس الشياطين ومذاقها في مرارة الصبر.

ماذا لو ترك الصالحون العاقلون كلمة الحق ؟

ماذا لو اعتقلها الخائفون من الناس ؟

ماذا لو ألقم النجباء والعقلاء أفواههم الأحجار ولم يقولوها؟

ستنزل النقم، وتدبر النعم.. وتكون الأمة في ذيل الأمم.

سيأتينا عذابٌ من الله لا طاقة لنا به.

تأمل حال قوم لوط عليه السلام وما كانوا عليه من موبقات تذيب الجبال ؛ فمع التفاحش بين الرجال كانوا يقطعون السبيل ويأتون في ناديهم المنكر وكانت لديهم خصال سوء كالصفير باليد وفرقعة الأكعب وغيرها، وقد شاعت هذه البلايا لما غاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعاث قوم لوطٍ بآيات العصيان والمخازي الاجتماعية وانتقلوا بين الموبقات ولم يجدوا من ينكر عليهم من مجتمعهم، وكانت النتيجة غايةً في السوء إذ صدر القرار عليهم بالإبادة بطريقةٍ غير مسبوقةٍ، ونزل الملائكة لتنفيذ الأمر دارَ نبي الله لوطٍ عليه السلام، [ قال ابن عباس وأهل التفسير: أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار، وهو يناظر قومه ويناشدهم من وراء الباب، وهم يعالجون تسور الجدار ؛ فلما رأت الملائكة ما لقي من الجهد والكرب والنصب بسببهم، قالوا: يا لوط إن ركنك لشديد، وأنهم آتيهم عذاب غير مردود، وإنا رسل ربك فافتح الباب ودعنا وإياهم ؛ ففتح الباب فضربهم جبريل بجناحه، وقيل: أخذ جبريل قبضة من تراب فأذراها في وجوههم، فأوصل الله إلى عين من بعد ومن قرب من ذلك التراب فطمس أعينهم فلم يعرفوا طريقا ولا اهتدوا إلى بيوتهم، وجعلوا يقولون: النجاء النجاء ! فإن في بيت لوط قوما هم أسحر من على وجه الأرض، وقد سحرونا فأعموا أبصارنا. وجعلوا يقولون: يا لوط كما أنت حتى نصبح فسترى؛ يتوعدونه.

ولما رأت الملائكة حزنه واضطرابه ومدافعته عرفوه بأنفسهم، فلما علم أنهم رسل مكن قومه من الدخول، فأمر جبريل عليه السلام يده على أعينهم فعموا، وعلى أيديهم فجفت. {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} أي بمكروهٍ فاخرج في جنح الليل، قال ابن عباس: لا يتخلف منكم أحدٌ ولا يشتغل منكم أحد بما يخلفه من مالٍ أو متاعٍ {إِلاَّ امْرَأَتَكَ} فإنها تلتفت وتهلك، فلم يلتفت منهم أحدٌ سوى زوجته ؛ فإنها لما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت: واقوماه ! فأدركها حجر فقتلها. {إِنَّهُ مُصِيبُهَا} أي من العذاب، ولما قالت الملائكة: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت: 31] قال لوط: الآن الآن. استعجلهم بالعذاب لغيظه على قومه؛ فقالوا: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}، وقال بعض أهل التفسير: إن لوطاً خرج بابنتيه ليس معه غيرهما عند طلوع الفجر ؛ وأن الملائكة قالت له: إن الله قد وكل بهذه القرية ملائكة معهم صوت رعد وخطف وبرق وصواعق عظيمة، وقد ذكرنا لهم أن لوطا سيخرج فلا تؤذوه ؛ وأمارته أنه لا يلتفت، ولا تلتفت ابنتاه فلا يهولنك ما ترى. فخرج لوط وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا ووصل إلى إبراهيم.

قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} أي عذابنا. {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} وذلك أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط، وهي خمس: سدوم - وهي القرية العظمى، - وعامورا، ودادوما، وضعوه، وقتم، فرفعها من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء بما في فيها؛ حتى سمع أهل السماء نهيق حمرهم وصياح ديكتهم، لم تنكفئ لهم جرة، ولم ينكسر لهم إناء، ثم نكسوا على رؤوسهم، وأتبعهم الله بالحجارة.

وقال الحسن: كان أصل الحجارة طينا فشددت. والسجيل عند العرب كل شديد صلب. وقال الضحاك: يعني الآجر. وقال ابن زيد: طين طبخ حتى كان كالآجر؛ وعنه أن سجيلا اسم السماء الدنيا ؛ وعن عكرمة: أنه بحر معلق في الهواء بين السماء والأرض منه نزلت الحجارة. وقيل: هي جبال في السماء، وهي التي أشار الله تعالى إليها بقوله: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور: 43]. وقيل: هو مما سجل لهم أي كتب لهم أن يصيبهم، {مُسَوَّمَةً} أي معلمة، من السيما وهي العلامة ؛ أي كان عليها أمثال الخواتيم. وقيل: مكتوب على كل حجر اسم من رمي به، وكانت لا تشاكل حجارة الأرض. وقال الفراء: زعموا أنها كانت بحمرة وسواد في بياض، فذلك تسويمها. وقال كعب: كانت معلمة ببياض وحمرة، وقال الحسن. {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} يعني قوم لوط ؛ أي لم تكن تخطئهم. وقال مجاهد: يرهب قريشا؛ المعنى: ما الحجارة من ظالمي قومك يا محمد ببعيد ](شمس الدين القرطبي / الجامع لأحكام القرآن ص 78: 82 ج4 ط1 2003م بتحقيق هشام سمير البخاري / دار عالم الكتب – الرياض "بانتقاءٍ وتصرفٍ يسيرٍ").

فلا تكن – أخا الإسلام - في الأمر والنهي مثل من يعيش على هامش الحياة، لا يأبه للخير إن عرض ولا للسوء إن اعترض، همه مصلحته ومأربه هو المحرك لجهوده، يعيش لنفسه ولا يستشعر الحرج إن أساء كلُّ الناس أو ظلموا أو فسقوا أو سرقوا أو انحرفوا، قد مثَّلَهُ بعض الناظمين في الأدب الرمزي كشجرةٍ حمقاء أنانيةٍ نظرتْ إلى حالها فوجدت أنها تُهدي الخلق فيئاً وثمراً وحسنَ منظر، بينما هي لا ترى لنفسها في ذات الأمر وطراً، فعقدت النية على أن يكون ظلها الممدود منها على قدر جسدها وأن تمتنع عن الإثمار، وقد فعلتْ.. فتغير شكلها بعدما وافتها بهجة الربيع بينما ظلت كالوتد فاجتثها صاحبها، يقول:

و تينةٍ غضةِ الأفنان باسقةٍ
             قالت لأترابها و الصيف يحتضرُ
بئس القضاء الذي في الأرض أوْجدني
             عندي الجمالُ وغيري عنده النظرُ
لأحبسنّ على نفسي عوارفها
             فلا يبين لها في غيرها أثرُ
كم ذا أكلّفُ نفسي فوق طاقتها
            وليس لي بل لغيري الفيءُ و الثمرُ
لذي الجناح و ذي الأظفار بي وطرٌ
             وليس في العيش لي فيما أرى وطرُ
إنّي مفصلةٌ ظِلّي على جسدي
            فلا يكون به طولٌ و لا قِصَرُ
ولست مثمرةً إلا على ثقةٍ
            أن ليس يطرقني طيرٌ و لا بشرُ
عاد الربيعُ إلى الدنيا بموكبه
             فازَّينتْ واكتستْ بالسندس الشجرُ
وظلّتْ التينةُ الحمقاءُ عاريةً
            فكأنّها وتدٌ في الأرضِ أوْ حجَرُ
و لم يطقْ صاحبُ البُسْتانِ رؤيتها
             فاجتثَّها، فهوتْ في النار تستعرُ
من ليس يسخو بما تسخو الحياة به
             فإنّه أحمقٌ بالحرص ينتحرُ

وفي الختام:

إن أبناء هذا الزمان جِدُّ محتاجين على الدوام إلى تفعيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكثرة الفتن وتنوع أشكالها وتغير أساليبها وسهولة وسائلها ووصولها إلى أفهام الناس مع وسائل الاتصال العالمية التي تنقل الحدث في دقائق معدودةٍ، إضافةً إلى المئات من القنوات العاملة على مدار اليوم والليلة تفت في أعضاد القيم والأخلاق وتدمر البنيان الاجتماعي وتطمس الهوية العربية المسلمة بكل ما أوتيت من طاقة، ولهذا فنحن في معركة الوجود الفعلي بآثارنا الطيبة على هذا الكوكب الأرضي الشاسع، ومن الخيرية لنا كأمة أن نتعاون فيما بيننا ببذل المعروف أو النهي عن المنكر لمن يفهم ويعلم ويعقل، ويبقى بعد ذلك على العوام والبسطاء في ثقافتهم وخبرتهم أن يذعنوا ويقبلوا ويتصرفوا بناءً على ما أُهْدِيَ إليهم من أهل الحجا والمحابر.

إن الذي لا يقبل الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر إنما يؤذي نفسه ويسخر من حاله ويطيع شيطانه ويعصي ربه ويكون عائقاً وسداً منيعاً في تقدم أمته ووطنه.

نريد أن نعود إلى السمة الغالبة والميزة القرآنية الفريدة التي جعلها الله تعالى كالبصمة الطيبة المباركة لهذه الأمة، وأن يتعقل الفرد ويصلح بذلك حاله وأن تسمو الأمة لتدرك طرفاً من مجدنا التائه في غصون أشواك الحياة التي ابتعدت كثيراً عن نهج وأساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ونسأل الله تعالى أن يهبنا الرشاد ويهيئ الخير والبركة للبلاد والعباد. والحمد لله في المبدأ والمنتهى.

لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية