بين حياة القلب وقسوته

بين حياة القلب وقسوته

بين حياة القلب وقسوته


مكانة القلب


القلْبُ مَوطِنُ كُلِّ خيرٍ، وقدْ رَبَطَ اللهُ الخيرَ بِالقَلْبِ في مَواطِنَ عِدَّةٍ مِنْ كِتابِهِ فَقالَ عزَّ شَأْنُهُ: ﴿إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ﴾[الأنفال: 70]؛ فَالْقَلْبُ الذي فيهِ خَيرٌ مَهْمَا قَلَّ فَلابُدَّ أَنْ يَنْفَتِحَ للإيمانِ، تَأَمَّلُوا قَولَ الله سُبْحَانَهُ: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾[المجادلة: 22]، وَقولَهُ سُبْحَانَهُ: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾[الحجرات:7].

فالإيمانُ هُوَ حيَاةُ القُلُوبِ وَنَعِيمُهَا؛ لذا كَانَ الْقَلْبُ هُوَ الْمُعوَّلُ عَلَيهِ كَمَا بِقَولِهِ تَعَالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾[الحج:32]؛ لأنَّ الْقَلْبَ أَعْظَمُ الأَعْضَاءِ خَطَرًا، وَأَبْلَغُها أثرًا، وأدَقُّها أَمرًا، وَأَشقُّها إصلاحًا، يقولُ الحسَنُ البَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "دَاوِ قَلبَكَ؛ فَإنَّ حَاجَةَ اللهِ إلى عِبَادِهِ بِصَلاحِ قُلُوبِهِمْ، فَإنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إلى أَجْسَامِكِمْ ولا إلى صُوَرِكُمْ، وَلَكنْ يَنظُرُ إلى قُلُوبِكِمْ وَأَعمَالِكُم".

لَقدْ سُمي القلبُ قَلْبًا؛ لأَنَّهُ أَخْلَصُ شَيء في الإنْسَانِ وَأَرْفَعُهُ، وَمِنْ جِهَةٍ لأنَّهُ سَريعُ التَّقَلُّبِ وَالتَّغَيُّرِ! وفي حَديثِ النُّعمَانِ بنِ بَشيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ رَسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَال: "ألَا وإنَّ في الجسدِ مُضْغَةً، إذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الجسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وَهِيَ القَلْبُ"

بم يكون صلاح القلب وفساده؟


صَلاحُ القَلْبِ يَكُونُ بِالإيمانِ باللهِ والعَمَلِ الصَّالِحِ وَالإذْعَانِ للهِ تَعَالى. وَإذَا فَسَد القَلْبُ بِالشِّرْكِ بِاللهِ وَالفِسْقِ وَالعِصْيَانِ، وَظُلْمِ الخَلْقِ والإفْسَادِ في الأَرْضِ صَارَ قَلْبًا فَاسِدًا "أَسْوَدَ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا" كَالكَأْسِ الْمَقْلُوبِ لا يُنتَفَعَ مِنْهُ بِشَيءٍ فَهُوَ "لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ" والعياذُ باللهِ تَعَالى.

لَقَد كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يُكْثِرُ فِي سُجُودِهِ مِنْ قَولِهِ: "يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلى دِينِكَ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَخَافُ عَلَينَا وَقَدْ آمَنَّا بِكَ، وَبِمَا جِئْتَ بِهِ؟ قَالَ: "إنَّ القُلُوبَ بَينَ إِصْبِعَينِ مِن أَصَابِعِ اللهِ يُقَلِّبُها". وَكَانَ مِن قَسَمِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "لا وَمُقَلِّبِ القُلُوبِ"؛ لأنَّ القَلْبَ هُوَ الرَّابِطُ بَينَ بَاطِنِ الإنْسَانِ وَظَاهِرِهْ مِنْ أَعْمَالٍ وَسُلُوكٍ.

وَلِلقُلُوبِ أَعْمَالٌ خَاصَّةٌ، تَظْهَرُ علَى تَصَرُّفَاتِ العَبْدِ وَمَشَاعِرِهِ وَأَحْوَالِهِ؛ مِن حُبٍّ وَفَرَحٍ، وَهمٍّ وَحَزَنٍ، وَحِقْدٍ وَحَسَدٍ، وَكَيدٍ، وَغَضَبٍ وَفَهْمٍ وَإدْرَاكٍ. ألا وَإنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَعْمَالِ القُلُوبِ وَأَهَمِّهَا: القَصْدُ وَالنِّيَّةُ، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إنَّما الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى"؛ فالنِّيَةُ رُكْنٌ رَكِينٌ في كُلِّ العِبَادَاتِ، بَلْ بِالنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ تَقْلِبُ العَادَةَ عِبَادَةً، وَفَسَادُ النِّيَّةِ يُفْسِدُ العِبَادَةَ وَيَجْعَلُهَا هَبَاءً مَنْثُورًا.

بعض صفات القلوب السليمة


إليكُمْ بَعْضًا مِنْ صِفَاتِ القُلُوبِ العَظِيمَةِ السَّلِيمَةِ، تُبْرُزُ في القَلْبِ السَّلِيمِ؛ الذي وَصَفَهُ اللهُ بِقَولِه: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾[الشعراء:88-89] وَقَدْ كَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "الَّلهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ قَلبًا سَلِيمًا".

فَالْقَلْبُ السَّلِيمُ مَا سَلِمَ صَاحِبُهُ مِن الْحِقْدِ وَالدَّغَلِ، وَالشَّرِّ والْحَسَدِ، ظَاهِرُهُ كَبَاطِنِهِ، وَسِرُّهُ تَنْطِقُ بِهِ جَوارِحُهُ، يُحِبُّ الْخَيرَ، وَأَهْلَهُ، والعَمَلَ الصَّالِحَ، والْمُصْلِحِينَ. ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[البقرة: 112]؛ فاللهُمَّ ارْزُقْنَا قُلُوبًا سَلِيمَةً آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً تُحِبُّ الْخَيرَ لِلغَيرِ وَتَفْعَلُهُ وَتَكْرَهُ الْكُفْرَ والفُسُوقَ والْعِصْيَانِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. وَأسْتَغْفِرُ اللهَ فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إليهِ ولا تَعْصُوهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

المعاصي طريق لقسوة القلوب


إنَّ من أَخْطَرِ أَمْرَاضِ القُلُوبِ وَأَعْتَاهَا مَرَضُ القَسْوَةِ فَاللهُ تَعَالى يَقولُ: ﴿فَوَيلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾[الزمر:22] وسُنَّةُ اللهِ في قُلُوبِ العِبَادِ جاريةٌ؛ بأَنَّ مَنِ اسْتَغْرَقَ في الْمَعَاصِي وَالآثَامِ ونَقَضَ مَوَاثِيقَهُ مَعَ اللهِ طَرَدَهُ اللهُ مِنْ صُفُوفِ أَهْلِ التَّقْوَى وَأَبْعَدَهُ، حَتَّى يَقْسُوَ قَلْبُهُ ويَعْلُوهُ الرَّانُ والظُّلْمَةُ كَمَا قَال: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[المطففين:١٤].

أَهْلُ القُلُوبِ القَاسِيَةِ قَدْ تَجِدُهُمْ يُصلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَلَكِنَّهمْ إذا خَلَوا بِمَحَارِم اللهِ انْتَهَكُوهَا؛ فَيَا عِبَادَ اللهِ: آمِنُوا بِأَنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾[غافر:19].

دعوة لإصلاح القلوب


هِيَ دَعْوةٌ لإصلاحِ قُلُوبِنَا وَحَياتِها فَنحنُ في زَمَنٍ مُخيفٍ تَلُفُّنَا الفِتَنُ وَالشُّبُهَاتُ والشَّهَواتُ من كُلِّ سَبِيلٍ! فَتِلْكَ شُبَهٌ عَقَدِيَّةٌ وَأُخْرَى أَخْلاقِيَّةٌ وَمُعَامَلاتٌ مَاليَّةٌ قَامَتْ عَلى الْحِيلَةِ وَالرِّبَا! نَاهِيكَ عَن أَضَرِّ الفِتَنِ وَأَرْدَاهَا، وَأَوسَعِهَا وَأَعْتَاهَا، مَا حَذَّر مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِه وَسَلَّمَ بِقَولِهِ: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً هِيَ أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ"! وقَدْ وَصَفَ لَنَا رَسُولُنَا -صلى الله عليه وسلم- تِلْكَ الفتنَ بِأَبْلَغِ وَصْفٍ فقالَ: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا، عُودًا"؛ فالأَعْوَادُ عِبَارَةٌ عَن ذُنُوبٍ وَمَعَاصٍ فَهذِهِ نَظْرَةٌ مُحَرَّمَةٌ وَأُخْرَى كَلِمَةٌ مُحَرَّمَةٌ وَثَالِثَةٌ وَرابِعَةٌ وكلُّ ذَنْبٍّ تَعْمَلُهُ يُنْقَطُ فِي قَلْبِكَ نُقْطَةٌ سَودَاءُ حتى يَكُونَ القَلْبُ "أَسْوَدَ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا" كَالْكَأْسِ الْمَقْلُوبِ "لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ".

فَيَا مُؤمِنُونَ أَقْبِلُوا عَلى رَبِّكُم، وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ قَولا وَعَمَلاً، وَاسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ شَرِّ الشَّيطَانِ وشَرَكِهِ فلَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ، ومن اقتربَ من الفتنِ والشُّبهاتِ سيقعُ في الحرامِ ولا شكَّ: "أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ".

لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية