تعظيم نعم الله والرضا بعطائه

تعظيم نعم الله والرضا بعطائه

تعظيم نعم الله والرضا بعطائه


الخطبة الأولى


عباد الله، إنَّ كلَّ النعم التي يستمتع بها العباد هي من الله ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53]، وإن نعم الله على عباده لا تعد ولا تحصى ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ [إبراهيم: 34]، وإن اعتراف العبد بنعم الله عليه، والرضا بما قسمه الله له هو الغنى الحقيقي، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة رضي الله عنه فقال: «ارْضَ بما قسَم اللهُ لك؛ تكنْ أغنَى النَّاسِ»، [صحيح سنن الترمذي].

ومع هذه النعم العظيمة الكثيرة قد يبتلي الله العباد بشيءٍ من النقص في بعض النعم، وإنّه تتبدى للعبد قيمةُ ما أنعم الله به عليه وقيمةُ عافية الله له حين ينظر إلى من هو أدنى منه ممن يعاني أشدَّ مما يعانيه، ويكابدُ أعظمَ مما يكابده؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «انظرُوا إلى من أسفلَ منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدرُ ألَّا تزدروا نعمة الله» رواه مسلم.

ذلك لأن المرء إذا نظر إلى من فُضِّلَ عليه في الدنيا استصغر ما عنده من نعم الله، فكان سببًا لكفره بنعم الله، وإذا نظر لمن هو دونه شكر النعمة؛ وارتاحت نفسُه وسعدت بما آتاها الله.

أيها الإخوة المؤمنون، إنَّه ما منا أحد إلا وهو يعاني في هذه الدنيا مما ينغص - وهذه طبيعة الحياة الدنيا -، فقد يُبتلَى أحدُنا بمرض له أو لأحدٍ حوله، أو فقر، أو دَينٍ، أو جوع، أو خوف، أو مشاكل أسرية أو اجتماعية، وغيرِها من مشاكل الدنيا ومصائبها، ولكن ذلك كله يهون عند المسلم إذا تذكّر ما رزقه الله من نعم كثيرة أخرى، وكذلك يُهَوِّن هذه الابتلاءات الصبر والرضا بما قدّره الله. قال أحد السلف: «الرضا بابُ الله الأعظم، وجنَّة الدنيا، وسراجُ العابدين» عبد الواحد بن زيد.

إخوة الإسلام، إنَّ أحبابنا الصحابة الكرام الذين بلغت شهرتهم الآفاق؛ وخلَّدوا أسماءَهم على صفحات التاريخ؛ عزةً وكرامة؛ وبلَّغونا هذا الدين العظيم؛ عاش كثير منهم حالات الحاجةِ والعَوز ما لا يكاد يقدر عليه كثير منا اليوم.

فيا من له قوتُ يومه، ويشكو أن لم يكن من أصحاب الأموال، استمع إلى ما حكاه جابر بن عبدالله رضي الله عنه عن بعض أحوالٍ مرّت بهم؛ بل وبرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان بصحبتهم، لتَرَ أنَّك -والله- بألف خير. قال جابر رضي الله عنه: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قوتُ كلِّ رجلٍ منا في كل يوم تمرة، فكان يمصها، ثم يصرها في ثوبه، وكنا نختبط بقِسينا ونأكل -نضرب الشجر بالقوس-، حتى قرحت أشداقنا. فَأُقسِمَ فأخطأها رجل منا يومًا – أي: لم يعطِه المكلَّف بقَسم التمر تمرته-، فانطلقنا به نَنْعَشُهُ -نرفعه ونقيمه من شدة الضعف والجهد-، فشهدنا أنه لم يعطَها، فأعطيها، فقام فأخذها. رواه مسلم.

ويا من له لباس يستره، وله آخرُ يستبدل به الأول، ويأسى أن لم يكن مثل من يملك كذا وكذا، انظر إلى حال بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم في بداية الإسلام، وهم قادة هذه الأمة. عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: «لَقَدْ رَأيْتُ سَبعِينَ مِنْ أهْلِ الصُّفَّةِ، مَا منهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ: إمَّا إزارٌ، وَإمَّا كِسَاءٌ، قَدْ رَبَطُوها في أعنَاقِهِمْ، فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْن، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الكَعْبَيْنِ، فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ كَراهِيَةَ أنْ تُرَى عَوْرَتُهُ» رواه البخاري.

وهم -مع ذلك- لم يكونوا يهتمون بمثل هذه المظاهر التي أخذت بألبابنا، ولا ببريق الدنيا الذي من أجله تنافسنا، مع أن العبد لا يدري: ألفقر خير له أم الغنى؟! (فمن عباد الله من لا يُصلحُه إلا الفقر، ولو أغناه الله لفسد عليه دينُه. ومنهم من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقره الله لفسد عليه دينُه، فمهما قَسَمَه الله لك من ذلك فكن به راضيًا مطمئنًا، لا ساخطًا ولا متلونًا) السفاريني.

قصة لعروة بن الزبير بن العوام التابعي الجليل رحمه الله فيها عظة وعبرة: طلب الخليفةُ الأموي الوليدُ بن عبدالملك من عروةَ بن الزبير أن يسافر إليه، حتى إذا كان بوادي القرى وجد في رجله شيئًا فظهرت به قرحة، فجيء بالطبيب، فأمر بقطع رجله من نصف ساقه، فرضي بذلك، وقالوا له يشرب الخمر لقوة الألم فأبى، وقالوا يأخذ المخدر فأبى، وبعد أن قطعت قلّب رجله المقطوعة بين يديه وقال: (أما والذي حملني عليك، إنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى حرام)، وبينما هو كذلك، إذ مات له ابن في ذلك السفر، وكان من أحب أبنائه، فرضي بذلك وقال: (اللهم كان لي بنونَ سبعة، فأخذتَ منهم واحدًا وأبقيتَ منهم ستة، وكانت لي أطرافٌ أربعة، فأخذتَ مني طرفًا وأبقيت لي ثلاثة، ولئن ابتليتَ فلقد عافيتَ، ولئن أخذتَ فلقد أبقيتَ). وورد أن الوليدَ بنَ عبدِ الملك كان يبحث عن وسيله يخفف بها مصيبةَ ضيفه عُروة، فإذ بجماعة من قبيلة بني عبس فيهم رجل ضرير جاؤوا يزورون الخليفة، فسأله الوليد عن سبب كَفِّ بصره، فقال: إنه لم يكن في بني عبس رجلٌ أوفر مني مالاً، ولا أكثر أهلاً وولداً، فسرتُ يوماً بمالي وعيالي في بطن وادٍ، فَطَرَقَنَا سيل لم نر مثله قط، فذهب السيل بمالي، وأهلي، وولدي، ولم يترك لي غير بعير واحد وطفل صغير، فهرب البعير، وتركت الصغير على الأرض، - ليدرك البعير-فما جاوزت مسافة إلا وأنا أسمع صيحة الطفل، فإذا برأسه في فم الذئب وهو يأكله، ثم رجعت للبعير لكي أنجو بنفسي، فرمحني على وجهي رمحةً حطمت جبيني، وذهبَتْ ببصري، فصرت في ليلة واحدة من غير أهل، ولا ولد، ولا مال، ولا بصر). قال الوليد لحاجبه: (خذ هذا الرجل، واذهب إلى ضيفنا عروة بن الزبير ليقص عليه قصته، وليعلم كل صاحب مصيبة أن في الناس من هو أعظم منه بلاءً) وأنشأ عروة يقول:

لعمرك ما أهويت كفي لريبة
ولا حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها
ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبةٌ
من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي

رزقنا الله تعظيم نعمه والقناعة والرضا والصبر.

أقول ما سمعتم وأستغفر الله....

الخطبة الثانية

بعض الناس يبتلى بقلة المال فيتضجر، يقال له: هل علمت أن فقراء المسلمين الصابرين أكثر من يدخل الجنة؟!. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء) متفق عليه. وهل علم هذا المتضجر أن الفقراءَ الراضين أسبقُ إلى الجنة من الأغنياء الشاكرين؟!. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: « يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام.... » صحيح سنن الترمذي.

وبعض الناس يشتكي المرض، وهو كفارة ورفعة للدرجات عند الله، وله فوائد كثيرة منها: أن ما يعقبه من اللذة والمسرة في الآخرة أضعاف ما يحصل له من المرض، فإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة والعكس بالعكس، ولهذا قال: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر»، وإذا نزل بالعبد مرض أو مصيبة فحمد الله بني له بيت الحمد في جنة الخلد، فوق ما ينتظره من الثواب.

أخرج مسلم من حديث صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابه سراء فشكر الله فله أجر، وإن أصابته ضراء فصبر فله أجر، فكل قضاء الله للمسلم خير، وفي رواية لأحمد (فالمؤمن يؤجر في كل أمره».

اللهم اجعلنا ممن إذا أعطي شكر، وإذا أذنب استغفر، وإذا ابتلي صبر.

اللهم اعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

اللهم ارزقنا القناعة واستشعار عظيم نعمك.

اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك.

اللهم بارك لنا فيما رزقتنا.

اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة.

لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية