عبرة السامريّ

عبرة السامريّ

عبرة السامريّ


إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أيها المؤمنون!

رُزء بنو إسرائيل باستضعاف العدو حين تملّك أمرهم، فسامهم سوء العذاب: يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم، في صورة مهانة من ذل الاستعباد ومرارة الاستبداد، حتى آذن الله لصبح العز بالانبلاج، ولليل الظلم بالأفول؛ فأنقذهم بنبيه موسى - عليه الصلاة والسلام -، ومكّن لهم في الأرض، وأورثهم ملك فرعون بعد أن أبصروا هلاكه، وأتمّ الله كلمته الحسنى عليهم، ودمّر ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون. وما زالت نعم الرب تترى عليهم إذ واعد كليمه أربعين ليلة؛ ليوتيَه التوراة منهجًا لبني إسرائيل وهداية ونورًا، فعجل موسى للقاء ربه؛ طلبًا لمرضاته، وخلّف أخاه هارون - عليه السلام - راعيًا لقومه وأوصاه بالإصلاح والتجافي عن سبل المفسدين. وحينما حضر موسى الوعد، وكلّمه ربه، وآتاه التوراة مكتوبةً في ألواح متضمنةً موعظةَ كلِّ شيء وتفصيلَه - أخبره بما حلّ بقومه بني إسرائيل بعده من فتنة عبادة العجل بإضلال رجل منهم اسمه السامري.

عباد الله!

عاد موسى - عليه السلام - من موعد ربه والغضب يملأ جوفه؛ فلما أبصر حال قومه هاله منظر الشرك الفظيع إذ رآهم عاكفين على عبادة جسدِ عجلٍ لا روح فيه ولا حياة، كافرين بنعمة مولاهم واصطفائه لهم. وليس الخبر كالمعاينة؛ فألقى الألواح من يده. وانطلق في معالجة هذا الداء الخطير واقتلاع جذوره من قلوب قومه التي أشربت حبَّ هذا الصنم؛ فبدأ بقومه الذين وقع منهم الفعل، ثم ثنّى بأخيه هارون القائم على شأنهم، ثم ثلّث بسبب الفتنة ومصدرها السامري. فشرع موبخًا قومه ومذكرًا لهم بعظيم منّة الله عليهم بتساؤل عن سبب هذه الخيبة: أهو طول فترة غيابه عنهم؟ أم هو بعدهم عن زمن النبوة؟ وكلا هذين الوقتين قصير الأمد؛ لا يسوغ به هذا الفعل القبيح. فليس ثمّ سبب إلا إرادةُ المخالفة التي تُنزِل غضب الله؛ فأخلفوا وعد الاستقامة، ووصية هارون؛ فلم يرقبوا غائبًا، ولم يحترموا حاضرًا.

واعتذروا بعذر باردٍ من جنس قبح فعلهم: أنهم قد عبدوا العجل رغمًا عنهم حين تأثّموا من بقاء حليّ الأقباط لديهم فألقوها، فصنع منها السامري عجلًا له خوار (صوت)، فلما رأوا هذا الغريب الذي صار له خوار- بعد أن كان جمادًا- ظنوه إله الأرض والسماوات، بل تمادى بهم الغي فخطّؤا موسى في الذهاب لملاقاة ربه وربهم حاضر بينهم - تعالى الله عن ظلمهم علوًا كبيرًا -. وهذا من بلادتهم، وسخافة عقولهم؛ أَفَلا يَرَوْنه لا يراجعهم ولو بكلمة واحدة، ولا يملك لهم ضرًا ولا نفعًا، فالعادم للكمال والكلام والفعال لا يستحق أن يعبد، بل هو أنقص من عابديه ذوي التكلم والمقدرة. وهكذا يردي الجهل صاحبه في مهامه الحمق السحيقة؛ تأثّموا بحمل الحليّ؛ فاستعاضوا عنها بعبادة تمثال العجل!!

معشر المؤمنين!

وما زال غضب انتهاك حدود الله يسيطر على موسى - عليه السلام - شفقةً على قومه وتمامًا في النصح حتى أقبل على أخيه هارون ممسكًا لحيتَه ورأسُه يجره إليه معاتبًا إياه بترك اللحاق به لإخباره بفتنة قومه، فخاطبه هارون -عليه السلام- بوشيجة بنوة الأم (يا بن أم)؛ ترقيقًا لقلبه، وإلا فهو شقيقه، طالبًا منه الكفَّ عن زجره؛ لئلا يشمت به أعداؤه، و لبراءته من معرّة التقصير، فقد وعظهم حين رأى شركهم، فقال: ﴿ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ﴾، ولكنهم استضعفوه وكادوا يقتلونه، وخشي بفراقه إياهم تفرقَهم وتشتتَ أمرهم؛ فيبوأ بإثم مخالفة أمر أخيه موسى؛ فقدّم المفسدة الدنيا على العليا. عندها أدرك موسى - عليه السلام - نصح أخيه وقيامه بالأمر؛ فسأل الله أن يغفر له ولأخيه وأن يدخلهم في رحمته. وهكذا، ما فتئ نبي الله موسى - عليه السلام -في علاج فتنة قومه حتى صمد للسامري سبب الفتنة وشرارتها سائلًا إياه عن مصابه الذي فتن به بني إسرائيل، فأجابه أنه رأى ما لم يرَ غيره حين أرسل الله رسوله جبريل - عليه السلام - لإغراق فرعون، فأخذ من أثره قدر قبضة اليد، وحينما أتمّ صوغَ الحليّ على هيئة العجل رمى بتلك القبضة عليه فصاح العجل بخواره؛ فتنةً من الله واختبارًا، أو كان ذلك الخوار صوتَ الهواء الخارجَ من في العجل بعد دخوله من دبره. وقد حصلت الفتنة به.

أيها الإخوة!

وبعد هذا التحقيق الذي أجراه نبي الله موسى - عليه السلام -في جريمة عبادة العجل - تركزت الإدانة على طرفين: هم عبدة العجل من بني إسرائيل وصانعه السامري، وحان وقت جزاء الافتراء على الله الذي يحوي غضب الله على المفتري وضربه بالذلة في الدنيا. ومع فداحة الجريمة لم يقنطهم الله من رحمته، بل فتح لهم باب التوبة، فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ * وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾. عندها أيقن عبَّاد العجل بعظم الجريرة وبُعْدِ الضلال، وأسقط في أيديهم، وطفقوا يلهجون باستغفار الأنبياء: ﴿ لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين ﴾. فأمرهم نبيهم موسى - عليه السلام - بالتوبة التي من لوازمها قتل النفس بأن يقتل بعضهم بعضًا كما قال الله - تعالى -: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم ﴾. قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمَّا أُمِرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِقَتْلِ أَنْفُسِهَا، بَرَزُوا وَمَعَهُمْ مُوسَى، فَاضْطَرَبُوا بِالسُّيُوفِ، وَتَطَاعَنُوا بِالْخَنَاجِرِ، وَمُوسَى رَافِعٌ يَدَيْهِ، حَتَّى إِذَا أَفْنَوْا بَعْضَهُمْ، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ لَنَا. وَأَخَذُوا بعضُديه يَسْنُدُونَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ قَبَضَ أَيْدِيَهُمْ، بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ، فَأَلْقَوُا السِّلَاحَ، وَحَزِنَ مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيلَ لِلَّذِي كَانَ مِنَ الْقَتْلِ فِيهِمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ، جَلَّ ثَنَاؤُهُ، إِلَى مُوسَى: مَا يُحْزِنُكَ؟! أَمَّا مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ فَحَيٌّ عِنْدِي يُرْزَقُ، وَأَمَّا مَنْ بَقِيَ فَقَدْ قَبِلْتُ تَوْبَتَهُ. فسُرّ بِذَلِكَ مُوسَى، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ كما قال ابن كثير.

الخطبة الثانية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:

أيها المؤمنون!

وعقاب السامري الذي تسبب في هذه الفتنة من جنس جنايته: ﴿ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ ﴾؛ فكَمَا أَخَذْتَ ومَسَسْتَ مَا لَمْ يَكُنْ أَخْذُهُ وَمَسُّهُ مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ، فَعُقُوبَتُكَ فِي الدُّنْيَا الطرد والإبعاد وأَنْ تَقُولَ: ﴿ لَا مِسَاسَ ﴾؛ أَيْ: لَا تَمَسَّ النَّاسَ وَلَا يَمَسُّونَكَ، عقوبةَ عزلٍ وإعلانِ دنس المدنس؛ فلا يقربه أحد ولا يقرب أحدًا. أما الموعد الآخر فهو موعد العقوبة والجزاء عند الله - سبحانه -.

ولم يبق من مشهد الجريمة إلا ذلك الصنم المعبود، الذي حرّقه موسى أمام نظر عبّاده المفتونين وذرّاه رمادًا في اليمّ؛ حسمًا لمادة الفتنة، وقطعًا لعلائقها في القلوب. وبذلك تنتهي تلك الفتنة العمياء على يد نبي الله وكليمه موسى - عليه السلام -في علاج ناجع يحمل في ثناياه الصبر على المدعوين، والقرب منهم، ومتابعة أحوالهم، واحتمال نكستهم، والحرص على دينهم، وحسم مواد الشرك دونهم، وحسن تنقيح مناط الخلل، ومعرفة أسبابه، ومناقشة أطرافه، وتنقية المجتمع من رموز الفساد، وفتح باب التوبة لكل مذنب، وعدم تقنيطه من رحمة الله.

وجلّت تلك القصة خطر تشرّب المعاصي وأن صاحبها قلّ أن يرعوي. وبان بها عظم سماحة شريعة الإسلام التي من عظيم صورها يسر التوبة وحصولها بالندم خلافًا لما عليه شريعة بني إسرائيل.

لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية