معركة اليرموك

معركة اليرموك

معركة اليرموك أعظم معارك الإسلام


مقدمة


إنها معركة من أعظم المعارك التى خاضها المسلمون بعد الغزوات النبوية, إنها معركة المصير التي خاضها المسلمون فى حلبة الصراع الأبدي بين الحق والباطل, والتي تجلت فيها كل معاني البطولة والفداء والقيم الإسلامية, والتي أعطتنا رغم بعد عهدنا بها الكثير من الدروس والعبر والعظات التي لو تدبرها المسلمون وعقلوها لما تخبطوا أمام الكثير من التحديات التي تواجههم, والتي لا يجدون لها حلا ً ولا تفسيراً، ولا حتى سلاحا ً يواجهون به هذه الأزمات.

الجبهة الشامية


تبدأ أحداث هذه المعركة الهائلة عندما قرر الخليفة الراشد أبو بكر الصديق توجيه الجيوش المسلمة الى الجبهة الشامية, التي كانت أحب للمسلمين من الجبهة العراقية, وذلك لفتحها ونشر الإسلام فيها, وكانت بلاد الشام وقتها واقعة تحت الإحتلال الروماني البيزنطي منذ أمد بعيد, واتبع أبوبكر سياسة حربية حكيمة تعتمد على توجيه عدة جيوش إسلامية دفعة واحدة الى عدة جبهات على أرض الشام, ليشتت التركيز الروماني, ويفرق قوتهم, وقد أرسل أبوبكر أربعة جيوش إسلامية الى أربعة جهات كالآتي:

  1. جيش يقوده أبوعبيده بن الجراح إلى مدينة حمص.
  2. جيش يقوده يزيد بن أبي سفيان إلى مدينة دمشق.
  3. جيش يقوده عمرو بن العاص إلى مدينة فلسطين.
  4. جيش يقوده شرحبيل بن حسنة إلى مدينة الأردن.

وكان عمرو بن العاص وقتها عاملا ً على ( قضاعة ) على جمع الزكاة, وكان عمرو من الأبطال الكبار والقادة الأذكياء, فأرسل إليه الخليفة أبو بكر الصديق يدعوه للقدوم, حتى يستعمله على أحد الجيوش الإسلامية المتجهة الى الشام, ولكنه لم يعزم عليه المسألة, حتى لا يخرج للقتال وهو مكره، فرد عليه عمرو بن العاص قائلا: " أما بعد فأنا سهم من سهام الله - عزوجل-, وأنت عبد الله - عز وجل - الرامي بها؛ فانظر الى أشد ما تريد أن ترمي إليه فارمني إليه ".

وهكذا تكون الجندية والشعور بالمسئولية, واختيار الأعمال العظيمة الكبرى, والامتثال التام لأوامر أولي الأمر؛ طالمت كانت في غير معصية الله, وفى صالح دين الإسلام.

وصلت الأخبار الى الروم بالشام, ودخلهم خوف شديد, لسابق علمهم بصمود المسلمين وشدة بأسهم, والتي ذاقوها فى معركة ( مؤتة ) من قبل؛ لذلك دعا هرقل كبير الروم مجلس مستشاريه لاجتماع طارئ, وكان هرقل رجلا ً حكيما ً عاقلاً، عنده من علم أهل الكتاب, بل هو أعلمهم؛ لأنهم لا يولون عليهم إلا أعلمهم بالكتاب, بل إن هرقل كاد أن يسلم عندما وصلته رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -, ولكنه حرص على ملكه ورياسته ودنياه ولم يسلم, ولما بدأ الاجتماع قال لهم: " إن هؤلاء أهل دبن جديد, وإنهم لا قبل لأحد بهم؛ فأطيعوني وصالحوهم على نصف خراج الشام, ويبقى لكم جبال الروم, وإن إنتم أبيتم أخذوا منكم الشام, وضيقوا عليكم جبال الروم؛ فلم يسمعوا له ولم يطيعوه, وأصروا على مواجهة المسلمين فى ميادين القتال.

إذا غلبت القوة والعنجهية العقل والحكمة فإن المصير حتما ً الى الهزيمة والانحدار, وهي رسالة لا يعقلها أعداء الإسلام على مر العصور, وتبرر لنا تصرفات دول الكفر والطغيان التي تخطو خطوات واسعة وحقيقية نحو هلاكها !

الموقف العصيب


أعد هرقل فكرة ذكية لمواجهة الجيوش الإسلامية؛ حيث جهز عدة جيوش ضخمة حشدها من مختلف الأقاليم التابعة للدولة البيزنطية، مثل الروس والبلغار والأرمن وغيرهم إضافة للبيزنطيين، بحيث يكون كل جيش منهم منفردا ً أضعاف الجيش المسلم الذي سيقابله, فأرسل هرقل أخاه تذارق ( واسمه في المراجع الأجنبية تيوردروس) في تسعين ألفا ً الى عمرو بن العاص, وأرسل القيقار وهو زعيم القبائل السلافية وهو روسي الأصل في ستين ألفا ً الى أبي عبيدة بن الجراح. .. وهكذا, وقالت الروم: " والله لنشغلن أبا بكر أن يورد الخيول الى أرضنا " وعظم الخطب على المسلمين؛ لأن إحمالي جيوشهم سبعة وعشرين ألفا ً فى حين أن جيوش الرومان بلغت أربعين ومائتي ألف.

أشار عمرو بن العاص على الجيوش الإسلامية بالإتحاد تحت راية واحدة, وأرسلوا الى الخليفة أبي بكر بصورة الأمر, فجاء جوابه مطابقا ً لرأي عمرو بن العاص؛ فاتحدت الجيوش الإسلامية فى وادي نهر اليرموك.

أرض المعركــة والخطأ العسكري الفادح


اليرموك نهر ينبع من جبال حوران، ويجري قرب الحدود بين سوريا وفلسطين، وينحدر جنوبا ليصب في نهر الأردن ثم في البحر الميت، وينتهي مصبه في جنوب الحولة، وقبل أن يلتقي بنهر الأردن بثلاثين كيلومتر يوجد واد فسيح تحيط به الجبال الشاهقة من ثلاث جهات، ويقع شمال نهر اليرموك، وهذا الوادي قد اختاره الروم لينزلوا فيه بجيوشهم الضخمة، في حين احتل المسلمون الوادي المقابل لهم يمين نهر اليرموك، وبالتالي أصبح جيش الروم محصورا من ثلاث جهات بجبال شاهقة وعرة، والمنفذ الوحيد نزل به المسلمون بجيوشهم.
لذلك قال عمرو بن العاص كلمته المشهورة لما رأي موقع معسكر الروم: " أبشروا معشر المسلمين حصرت الروم, وقلما جاء محصور بخير ".

وحقيقة المرء يعجب من ذلك الخطأ العسكري التكتيكي الفادح الذي وقع فيه قادة الروم، فبنظرة سريعة علي أرض المعركة ومعسكر الجيش الرومي أيقن القائد عمرو بن العاص أنه مكان خاطئ لا يصلح لإدارة الحرب، وغلطة عسكرية لا يقع فيها مثل قادة الروم المتمرسين في القتال منذ أمد بعيد، وأغلب الظن أن الغرور والتكبر والشعور بالتفوق العددي والمادي الكبير بينهم وبين المسلمين هو الذي أفقدهم أبسط قواعد القتال وأساليبه الدفاعية والهجومية، والتي من أبسطها تأمين مخرج آمن ينسحب منه الجيش في حالة وقوع الهزيمة عليه، ولكنه الغرور والتعالي والثقة العمياء في حتمية النصر.

سيف الله من العراق إلي الشام


كتب قادة الجيوش المسلمة للخليفة يطلبون منه إمدادات لمواجهة ضخامة الجيش الرومي, ووفرة مؤنه, خاصة وأن الروم تباطئوا في القتال عدة شهور اعتمادا علي ضخامة المؤن المتوفرة عندهم، وذلك علي أمل أن يمل المسلمون ويعودوا إلي الجزيرة العربية، أو تنفذ مؤنهم أو يستعجلوا في الصدام دون استعداد كافي وكلها أمور تساعد الروم علي تحقيق النصر، فقال الخليفة أبو بكر: " والله لأشغلن النصارى عن وساوس الشيطان بخالد بن الوليد ", وكان خالد وقتها على الجبهة العراقية يسل عرش كسرى, فأرسل إليه أبو بكر أن ينتقل بنصف جيشه من العراق الى الشام, على أن يترك قيادة الجيوش العراقية للقائد المثنى بن حارثة, وأراد خالد أن يصحب معه فى نصف الجيش كل صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -الموجودين بالعراق؛ فأبى المثنى وقال: " وهل نرجو النصر من عند الله - عزوجل - إلا بوجودهم ", فأخذ نصفهم وترك النصف بالعراق, وكان تعداد هذا النصف المتوجه للشام تسعة آلاف مقاتل.

كان الوقت ضيقاً، ووضع المسلمين بالشام يزداد حرجا ً كل يوم, فأراد خالد بن الوليد أن يختصر المسافة الطويلة, ولا يكون ذلك إلا بخوض صحراء قاحلة قاتلة مهلكة, وحذره الناس من خوض تلك الصحراء التي لم يتجرأ عليها أحد من قبل, فقال خالد بن الوليد: " لابد من ذلك؛ لابد أن أخرج من وراء جموع الروم؛ فلا تحبسوني عن نصرة وغياث المسلمين ".

ياله من شعور طيب من مسلم نقي طاهر, ركب المخاطر على استعداد تام لخوض الصعاب, واجتياز المفاوز لا لشيء إلا لنصرة إخوانه المسلمين, فأين نحن من ذلك كله, وأين الألف مليون مسلم وزيادة مما يجري لإخوانهم فى فلسطين وفى العراق وفى الشيشان وفى كشمير وفى.

خالد يقرر أخيرا ً عبور تلك المفازة المهلكة – وكان العرب لم تسم الصحراء ( مفازة ) رجاء فوز من يقطعها إلا لمثل هذا الموقف العسير، واختار لها دليلا ً خبيرا ً اسمه رافع بن عميرة, واقتحمها المسلمون ببسالة وشجاعة نادرة, وتحت الشمس الحارقة, وفوق الرمال المشتعلة, خاض المسلمون تلك المسافة فى خمسة أيام فقط, وقد شارفوا على الهلاك بعد نفاذ مائهم, لولا أن أغاثهم الله - عز وجل - بعين ماء قال عنها الدليل: " والله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة واحدة مع أبي وأنا غلام منذ خمسين سنة ".

هو تأييد الله ونصره وحفظه عز وجل لعباده المجاهدين, فالتضحيات لا تذهب سدى, بل كلها عند الرحمن الذي هو خير حافظا ً وهو أرحم الراحمين.

وفى الطريق استطاع المسلمون فتح عدة مدن وقرى كانت خاضعة للنفوذ الروماني مثل تدمر, وبهراء, وقراقر, وبصرى, وكانت مقدمة للنصر وبشرى للمسلمين.

تكامل جمع المسلمون بوادي اليرموك وصار عدده ستة وثلاثين ألفاً، وقيل أربعين ألفاً، أما جيش الرومان فكان أربعين ومائتي ألف, منهم ثمانون ألفا ً مقيدين بالسلاسل والحبال للقتال حتى الموت, ويتقدمهم جمع كبير من الرهبان والقساوسة يرفعون الصليب, ويتلون الترانيم لحث الجند على القتال, عندما وصل خالد واجتمع مع باقي القادة لاحظ أمرا ً فى غاية الخطورة يؤدي حتما ً للهزيمة, وهو أن الجيوش المسلمة منقسمة على نفسها, وسوف يقاتلون الروم متساندين, ومعنى كلمة متساندين: أن كل جيش من الجيوش المسلمة – وقد كانوا أربعة كما علمنا, وصاروا خمسة بقدوم خالد – سوف يقاتل الروم تحت طاعة طاعة وإمرة قائده فقط, والجند لا يأتمرون إلا بأمر قائدهم فقط, لا غير؛ فقال لهم خالد: " إن هذا يوم من أيام الله والإسلام, لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي؛ أخلصوا جهادكم لله, وأرضوا الله بعملكم؛ فإن هذا يوم له ما بعده, ولا تقاتلوا قوما ً على نظام وتبعية, وأنتم متساندون؛ فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي, وإن من ورائكم – يعني الخليفة – لو يعلم عملكم هذا حال بينكم وبينه, والرأي أن تأمير بعضكم بعضا ًلا ينتقصكم عند الله ولا عند الخليفة؛ فهلموا فلنتعاور الإمارة, وليكن بعضنا اليوم, والآخر غداً، والآخر بعد غد؛ حتى تتأمروا كلكم, ودعوني أتأمر اليوم ".

وكأن بخالد بن الوليد طبيبا ً يصف حقيقة بلاء الأمة وأصل دائها؛ فحال أمتنا الآن تماما ً كما قال خالد متساندة؛ كل فى واد, وكل مشغول بنفسه, مهتم بدنياه عما يجري لإخوانه؛ مما سهل على أعدائنا افتراسنا الواحد تلو الأخر, والعلاج والدواء فى الإتحاد تحت راية واحدة: لا إله إلا الله, لذلك فإن أهم الأولويات عند أعداء الإسلام فى حربهم ضد هذه الأمة تفتيت وحدتها بهدم الخلافة الإسلامية التي كاننت السياج والدرع الواقي لبيضة هذه الأمة .

اندلاع الحرب الهائلة


أصبح خالد بن الوليد القائد العم للجيوش الإسلامية؛ فعمل على تنظيمها على شكل الكراديس, والكردوس مثل الكتيبة, ويضم ألف مقاتل, وجعل على رأس كل كردوس قائدا ً أو بطلا ً من شجعان المسلمين, وقسم الجيش بعدها الى ميمنة وميسرة وقلب, وجعل أبا عبيدة فى القلب, ليستحي منه المنهزم من القتال, وجعل يزيد على الميمنة, وعمرو بن العاص على الميسرة, وجعل النساء فى مؤخرة الجيش, وأعطاهن سيوفا ً يضربن بها الفارين من أرض القتال, وجعل أبا سفيان واعظ الناس, والمقداد بن الأسود يقرأ من القرآن سور وآيات الجهاد لتحميس المسلمين, وأصبح كل شيء على أفضل وجه استعدادا ً للقاء الفاصل.

قبل أن يبدأ القتال طلب القائد الروماني ماهان الحديث مع خالد بن الوليد؛ فاجتمع معه, وقال ماهان مستهزئا ً وخائفا ً فى نفس الوقت: " إنا قد علمنا أن ما قد أخرجكم من بلادكم هو الجهد والجوع؛ فهلموا الى أن أعطي كل رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعاما ً وترجعون الى بلادكم على أن نرسل لكم مثلها فى العام المقبل ", فقال له خالد بن الوليد: " إنه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت غير أننا قوم نشرب الدماء, وأنه بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم فجئنا لذلك" ففزع الروم من ذلك الكلام فزعا ً شديداً، وقالوا: هذا ما كنا نتحدث به عن العرب, وهكذا استطاع خالد بحسن فطنته أن يرد كيد ماهان فى نحره.

تصاف الفريقان, وتهيأ الجميع للقتال, وحميت النفوس وتنسمت عبير الجنة, وفجأة يسمع القائد خالد بن الوليد جنديا ً من الصف يقول: " ما أكثر الروم وأقل المسلمين !! " فيرد عليه بسرعة فيقول: " بل قل ما أكثر المسلمين وٌأقل الروم, إنما تكثر الجنود بالنصر, وتقل بالخذلان ".

وهنا نقول: ما أكثر الدروس التي أعطانا اياها سيف الله خالد بن الوليد فى هذه المعركة, فهو يعلمنا أن الهزيمة الحقيقة هي هزيمة القلوب والنفوس, والخوف من الناس, ويوم أن رأى المسلمون عدوهم فى غير صورته الحقيقية تضخم الباطل فى عيونهم, وقلت وضعفت الهمم, وماتت العزائم, ودخل المسلمون سجن خوفهم, وظل عدوهم جائما ً على هذه الأمة حتى يقبض الله عز وجل من هذه الأمة من يحطم أغلال الوهم, وأسوار الخوف, وعندها تنتصر الأمة من جديد, وهو آت لا محالة ".

بعدها أمر خالد أبطال المسلمين مثل عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو بإنشاب القتال, وبالفعل بدأت رحى أعظم معركة فى تاريخ المسلمين بالشام فى الدوران.

بطولات الأيام الست


الذي لا يعرفه كثير من الناس أن معركة اليرموك كانت ستة أيام وليست يوماً واحداً، وأن اليوم الأول كان للمبارزات الفردية كما هي عادة الوقت، وفيها حقق المسلمون تفوقا لافتا حتى أن عبد الرحمن بن أبي بكر قد قتل وحده خمسة من قادة الروم مبارزة، وعندها أعطي القائد الرومي ماهان إشارة بدء القتال العام حتى لا تنهار معنويات الروم أكثر من ذلك، ليبدأ بعدها قتال أسطوري طيلة خمسة أيام برزت فيه عدة مشاهد رائعة من أرض المعركة تستحق أن نشير إليها بكل إجلال وإعظام منها:

  • أول من قتل من المسلمين يومئذ شهيدا ً جندي عادي من جنود الإسلام لا يعرف اسمه, ولكن اسمه – إن شاء الله – فى عليين, جاء الى أبي عبيدة بن الجراح فقال له: " إني تهيأت لأمري فهل من حاجة الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, فقال له أبو عبيدة: نعم تقرؤه عني السلام, وتقول له يا رسول الله إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ً ". فتقدم هذا الرجل, وكسر جفن سيفه, وقاتل حتى رحمه الله.
    هذا هو الإيمان الصادق, واليقين الراسخ الذي يتأكد معه المسلم أنه على الحق مهما كانت الظروف, حتى كأنه يرى الجنة رأي العين, ويتأكد من لقاء رسول الله -صلى اللله عليه وسلم -, وهو يقين وإيمان تخف معه الجبال العظام.

  • حملت الروم بكل قوة على ميمنة المسلمين, فقاد خالد مجموعة من الفرسان, ورد هذه الحملة وأزالها عن ميمنة المسلمين, وذلك بمائة فارس فقط, بمائة فارس رد خالد أكثر من خمسين ألفا ً من الروم.
    سبحان الله مائة يردون خمسين ألفا ً !! أية قوة وشجاعة تلك, بل أي إيمان ويقين هذا ؟ !.

  • التحم المسلمون مع الروم فى معركة هائلة, اندفع فيها الروم بكل قوتهم, وفى منتهى الشراسة, حتى أزالوا المسلمين عن مواقعهم, وكادوا أن يصلوا الى خيمة قائد المسلمين خالد بن الوليد, فوقف عكرمة بن أبي جهل فيقول: فنادى فى المسلمين: " قاتلت النبي - صلى الله عليه وسلم - فى كل موطن – يعني أيام الجاهلية - ثم أفر اليوم ! ", ثم قال: " من يبايع على الموت ؟ " فبايعه عمه الحارث بن هشام وولده عمرو بن عكرمة وضرار بن الأزور فى أربعمائة من أبطال المسلمين وفرسانهم, فقاتلوا قتال من لا يرى الحياة أمام خيمة خالد بن الوليد, حتى أثبتوا جميعا ً جراحاً، وحمل عكرمة وولده عمرو الى القائد خالد وهما فى الرمق الأخير؛ فوسدهما خالد فخذيه, وقطر فى حلقيهما الماء, فقال عكرمة وهو يعالج الموت فى النزع الأخير: " زعم عمر بن الخطاب أنا لا نستشهد ! يا خالد هل هذه ميتة يرضى عنها الله ورسوله " ثم مات هو وولده - رحمهما الله -.
    سبحان الله ما أعظم هذا الدين: عكرمة الذي خدم الكفر والشيطان معظم سنين حياته, وحارب من أجلها خاتم المرسلين, ها هو اليوم بطل الإسلام الشهيد الذي يبحث منذ أسلم عن خاتمة يرضى عنها الله ورسوله, وفى ذلك عظة وعبرة لمعشر الدعاة الذين ييأسون سريعا ً من دعوة الناس إذا رأوا منهم إعراضا ًً أو صدوداً، أو حتى محاربة لهذا الدين, لا تملوا أبدا ً من الدعوة, فإنكم لا تدرون كيف تكون خاتمة هؤلاء المعرضين, أو حتى المحاربين .

  • قاتلت نساء المسلمين يوم اليرموك قتالا ً رهيباً، وكن يستقبلن الفارين بالعصي والحجارة والسيوف, وجعلت خولة بنت ثعلبة تقول:

    يا هاربا ً عــن نســـوة تقيـــــات

    فعــن قليـل مــا تـــرى سبيـــات

    ولا حصينـــــات ولا رضيـــــات

    فحمي الفارون عندها, وعادوا للقتال على أشد ما يكون, وكانت بطلة الإسلام يومها الصحابية الجليلة, وافدة النساء أسماء بنت يزيد الأنصارية, حيث قتلت يومها تسعة من الروم بعمود خيمتها.

    فطنة خالد بن الوليد


    وبينما القتال يدور على أشده جاء البريد من المدينة مع رجل فطن ذكي هم: محمية بن زنيم, فسأله الناس عن الأخبار فقال لهم كل خير, وبشرهم بالسلامة والمدد, والحقيقة أنه قد جاء بخبر وفاة الخليفة أبو بكر, وتولية عمر بن الخطاب مكانه, وعزل خالد بن الوليد عن قيادة الجيوش, وتعيين أبي عبيدة بن الجراح مكانه, فلما علم خالد الخبر سأل محمية: " هل أخبرت أحدا ً ؟ " فقال له: ( لا ), فقال له: ط أحسنت, ولا تخبر أحدا ً حتى لا تفت فى عضد المسلمين ", وأخذ خالد الرسالة ووضعها فى كنانته حتى انتهت المعركة.

    والمرء لا يدري من أيهما يعجب: من السفير الذكي الفطن, الذي لم يخبرهم بحقيقة الأخبار, فيصاب المسلمون بالوهن والحزن وهم قبالة عدوهم, أم من القائد خالد الذي يعلم دخائل الجنود ونفسيتهم أثناء القتال, فلم يخبرهم بعزله, فينفرط عقد الجيش, ويختلفون من جديد حول اختيار قائد ميداني جديد !! ولكن لا عجب, فالجميع خريجو مدرسة النبوة, وتلاميذ عند المربي الأعظم صلى اللله عليه وسلم ".

الحوار العجيب


والقتال دائر على أشده يحدث موقف فى غاية العجب, حيث يخرج أحد القادة الرومان واسمه جورج بن تيودور, وسمته المراجع العربية جرجة, وكان يعرف اللغة العربية, وقد اشترك من قبل في معركة مؤتة, وأعجبه صمود المسلمين, وكان أيضا ً من علماء أهل الكتاب, خرج جرجة من بين الصفوف وطلب الحوار مع خالد بن الوليد, واقترب القائدان حتى أصبحت أعناق فرسيهما مختلفة, ثم دار هذا الحوار العجيب:

جرجة: يا خالد اصدقنى القول ولا تكذبني القول, فإن الحر لا يكذب, ولا تخادعني, فإن الكريم لا يخادع المسترسل, هل أنزل الله على نبيكم سيفا ً من السماء فأعطاكه, فلا تسله على قوم إلا هزمتهم ؟ !
قال خالد: لا
قال جرجة: ففيم سميت سيف الله المسلول ؟ !
قال خالد: إن الله بعث فينا نبياً، فكنت ممن كذبه وقاتله, ثم إن الله هداني فتابعته, فقال لي: أنت سيف الله سله الله على المشركين ), ودعا لي بالنصر.
فقال جرجه: فأخبرني إلام تدعون ؟
قال خالد: الى الإسلام, أو الجزية, أو الحرب.
قال جرجة: فما منزلة الذي يجيبكم ويدخل فيكم ؟
قال خالد: منزلتنا واحدة.
قال جرجة: فهل له مثلكم فى الأجر والذخر ؟
قال خالد: نعم وأفضل, لأننا اتبعنا الرسول وهو حي يخبرنا بالغيب, ونرى منه العجائب والآيات, وحق لمن رآى ما رأينا, وسمع ما سمعنا أن سيلم, وأنتم لم تروا مثلنا, ولم تسمعوا مثلنا, فمن دخل بنية وصدق كان أفضل منا.

وعندها قلب جرجة فرسه, ومال مع خالد, وأعلن إسلامه, واغتسل وصلى ركعتين مع خالد فى خيمته, ثم خرج مع خالد وقاتل الروم حتى قتل رحمه الله.

إن القلوب التي مازال بها ومضة من فطرة سليمة, وبصيص من نور إذا سمعت دعوة الحق ممن يحسن عرض هذه الدعوة فإنها بإذن الله سوف تهتدي, فانظر كيف عرض خالد بن الوليد الإسلام بصورة مبسطة سلسلة حببت جرجة فى الدين حتى تحول من كافر محارب لله ورسوله الى جندي مسلم مؤمن يقاتل فى سبيل الله إخوانه وبني جلدته والذين كانفى صفهم منذ قليل, وهكذا الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.

ختام المعركة ( يا نصر الله اقترب )


كان القتال في معركة اليرموك على أشده, وثبت كل من المسلمون والروم يومها ثباتا ً عظيماً، حتى صار القتال مثل الرحا, فلم ير يومها إلا مخا ً ساقطاً، وكفا ً نادراً، ورأسا ً طائراً، وتصافح المسلمون والروم بسيوفهم, وضرب خالد بسيفه من طلوع الشمس لغروبها, وصلى الناس إيماء ً, وهدأت الأصوات يوم اليرموك, حتى ارتفع صوت فغطى المعسكر كله يقول: "يا نصر الله اقترب, الثبات الثبات يا معشر المسلمين ". فإذا هو أبو سفيان بن حرب, فأصابه سهم فى عينه ففقأها, وانكشفت صفوف الروم, ورأى بعض أشراف الروم ما جرى لهم فقالوا: " لا نحب أن نرى يوم سوء, إذ لم نستطع أن نرى يوم سرور, إذ لم نستطع أن نمنع النصرانية ), فالتفوا فى ثيابهم حتى قتلهم المسلمون وهم ملتفون, ولم تكد شمس اليوم السادس تغرب حتى كان المسلمون قد هزموا الروم الذين فروا من أرض المعركة, وخلفوا وراءهم عشرات الآلاف من القتلى والجرحى, وأكمل خالد القائد العام للمسلمين ليلته فى خيمة تذارق القائد العام للروم, وأرسل خالد وراء فلول الروم من يتتبعها حتى لا تعيد تنظيم نفسها مرة أخرى.

شهادة الأعداء


وصلت فلول الروم المنهزمة الى مدينة أنطاكية – حيث كان بها هرقل ينتظر نتيجة اللقاء الدامي – فلما رأى جنوده منهزمين قال لهم: ( ويلكم ! أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم, أليسوا بشرا ً مثلكم ؟ ! ) قالوا: ( بلى ), قال: ( فأنتم أكثر أم هم ؟ ! ) قالوا: ( بل نحن أكثر منهم أضعافا ً فى كل موطن ), قال: ( فما بالكم تنهزمون ؟ ! ) فقال أحد كبار قادة الروم: ( من أجل انهم يقومون الليل, ويصومون النهار, ويوفون بالعهد, ويأمرون بالمعروف, وينهون عن المنكر, ويتناصحون بينهم, ومن أجل آنا نشرب الخمر, ونزني, ونرتكب الحرام, وننقض العهود, ونغضب ونظلم, ونأمر بالسخط, وننهى عما يرضي الله, ونفسد فى الأرض ), فقال له هرقل: ( أنت صدقتني ).

إن أعداء الإسلام قد أدركوا سبب انتصارنا, ومصدر قوتنا, عرفوا كيف يستطيع المسلم أن يصمد أمام أعظم قوة على وجه الأرض مهما كانت وكيف كانت, فهل عرفت أمة الإسلام ذلك ؟! هل عرفت مصدر قوتها وأصل عزتها ؟ أعداؤنا عرفوا ونحن لم نعرف, فقال قائلهم: ( كأس وغانية تعمل فى أمة محمد أشد من الف مدفع ), أعداؤنا عرفوا الحقيقة, فاجتهدوا فى صرف المسلمين عنها, والتفنن فى تزيين الشهوات, وابتداع الرذائل ليقع المسلمون صرعى غرائزهم, فيسهل بعد ذلك سياستهم وقيادتهم .

المراجع:

لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100

إقرأ المزيد :



عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية