قصة أسماء بنت أبي بكر

قصة أسماء بنت أبي بكر

قصة أسماء بنت أبي بكر


ميلاد أسماء

كان ذلك الميلاد في العام الرابع عشر قبل بعثة النبي ﷺ في بيت من بيوت سادة قريش هو بيت «عبد الله بن أبي قحافة الملقب بأبي بكر، وهو بيت عز ومجد وغنى، فقد انشغل أهل هذا البيت العظيم بحدث طارئ. كانت قتيلة بنت عبد العُزَّى» زوجة أبى بكر ، على وشك وضع مولودها الثاني.

فُتحت أبواب البيت الكبير للنساء القريبات والمقربات يدخلن ويخرجن سعياً في قضاء ما تحتاج إليه الولادة.

جاءت قابلات مكة اللائى يَقُمْنَ بعملية الولادة، وجلسن للتشاور فيما ينبغي عمله حتى يتم الوضع بأقل متاعب، ولم تمض إلا ساعات قليلة حتى وضعت قتيلة طفلتها.

أسرعت أم الخير «سلمى بنت صخر تبشر ابنها، وقد ملأت عينيها منها، ووصفتها له فقالت يا عبدالله بارك الله لك في مولودتك، فسيكون فيها الخير والبركة، إنها طويلة جميلة، وفيها الكثير من ملامحك، فأبشر بها يا أبا بكر.

قال أبو بكر: شكر الله لك يا أماه، وأرجو أن تكون مثلك في صفاتك وأعمالك وأن تجعلك قدوتها ومثلها الأعلى عندما تكبر، فتملأ علينا البيت فرحًا وسرورًا.

خرجت أم الخير، وجلس أبو بكر يحمد الله، ويشكره على عطيته؛ فهو الذي يهب، وهو الذي يعطى. ثم دخل والده أبو قحافة، وقد امتلأ وجهه بالسرور قائلاً: عم مساء یا أبا بكر.
-عمت مساء يا أبتاه.
- بم سميت مولودتك يا بني العزيز؟
- سميتها أسماء يا أبتاه.
-والله يا أبتاه ما أردت وما اخترت وسواء أكانت بنتا أم ولدًا فهو من عند الخالق، وليبارك الله لنا فيها، وفي أخيها عبد الله.

تربية وتعليم وتوجيه أسماء بنت أبو بكر

فرح أبو بكر بأسماء كثيرًا، فقد كانت قوية الجسم، سريعة النمو، وكلما ازداد نموها زاد ذكاؤها وتفهمها لكل ما تسمع تحفظه وتردده حتى حفظت الكثير من أشعار العرب وروايتها، وأخبار العرب وتاريخهم وأنسابهم، فعرفت الكثير منها.

تعلمت من والدها الشجاعة في القول والعمل، والأمانة فقد كان أمينا في تجارته التي جلبت عليه أموالاً طائلة ، صادقًا في حديثه يُؤثر عنه أنه كذب مرة ليصل إلى منصب أو جاه، عف اللسان فلم يصدر منه ما يسيء إلى إنسان مهما كانت مكانته وتعلمت منه الرحمة والرفق بالضعفاء، وإطعام الفقراء والمحتاجين، ونجدة المستغيث، والكثير من الصفات الحميدة التى اتصف بها أبو بكر وعرفها الناس فيه. لم لا يفرح بها وقد أحبته كثيرًا؟، كانت تسمعه وتُصْغِى إليه، وتشاركه الحديث، وربما وقفت وراء الباب تنتظر أوْبَتَه بنفس مُتلهفة على لقياه فهو مثلها الأعلى الذي تتأسى به وتقلده في أعماله وكلامه وجلسته، وتتمنى أن تكون مثل أبيها فى حياته حتى تكون محل احترام وتقدير من كل الذين يعرفونها.

نشأة أسماء بنت أبو بكر

كانت أسماء منذ طفولتها تشارك الخدم في إعداد الموائد للضيوف الذين لا تخلو منهم قاعة البيت الكبيرة في يوم من الأيام، سواء كانوا من الفقراء والمساكين أو من القاصدين لأمور التجارة، فقد كان والدها من كبار تجار مكة وكانت تجارته في الأقمشة التي ربح منها مالاً كثيرًا، أو من الذين يأتون ليفصل بينهم في أمور الديات التى ولته قريش القضاء فيها، وكانت تصدقه في كل ما يقول. وكثيرًا ما كان يقصده العلماء والنسابون ليزدادوا من علمه.

لقد كانت أسماء ترى كلَّ هؤلاء من بعيد، وربما أنصتت إلى حديثهم مع أبيها، وناقشته فيما سمعت بعد انتهاء المجلس، وأدلت برأيها فيما قيل معتمدة على ما تعلمته من أبيها ، واعية لكل ما ذكر. لقد كانت سعيدة وهي تساعد الخدم في إعداد الموائد للبيت وللضيوف الذين قلما تخلو قاعة الطعام الكبيرة منهم، غير متعالية ولا متكبرة. كانت تذهب أحيانًا مع أبيها إلى البيت الحرام، وتطوف معه، وترى الناس وهم يقابلونه بالبشر والترحاب، فيقتربون منه، ويصافحونه فرحين مسرورين، فتزداد فخرًا وتيها به.

قالت أسماء لأبيها وهى تطوف معه بالبيت العتيق : لماذا يحبك الناس كثيرا يا أبتاه؟ قال أبو بكر: لأننى أحبهم، وأقضى حوائجهم.
- يا أبت إنني أراهم يسجدون للأصنام، فلماذا لا تفعل مثلهم؟
قال أبو بكر: إن السجود إنما يكون للإله الذي خلقنا وحده، وخلق لنا كل شيء، وهذه الأصنام من صنع الناس ولا فائدة ترجى منها.
- حقيقة يا أبتاه، ولكن من الذى علمهم أن يفعلوا ذلك؟
- إنها يا أسماء عادات وتقاليد أخذوها عن آبائهم وأجدادهم دون تفكير سليم.
قالت أسماء: أنا مثلك يا أبتاه لن أسجد لصنم أبدا.

إسلام أسماء بنت أبي بكر

كان أبو بكر والد أسماء يعيش بمكة في الحى الذي يعيش فيه «محمد بن عبد الله » مع زوجته خديجة بنت خويلد رضى الله عنها -» وكان يسمى حى التجار، وقرب الجوار له أكبر الأثر في روابط الصداقة والألفة بين الناس، وقد ربط الجوار بين «محمد ﷺ » وبين «أبى بكر» فجعل منهما صديقين مؤتلفين متقاربين في السن ومشتركين فى العمل وهو التجارة ومتفقين في البعد عن عادات وتقاليد الجاهلية. صاحب أبو بكر محمدًا، وكان يرى فيه من الصفات ما لا يراه فيمن عرف من الرجال، بل لقد كان يدهش من التصرفات التي يتميز بها عن غيره، ويرى أن وراءه سرًّا يعجز عن معرفته، لذلك حينما بعثه الله برسالته، وطلب محمد ﷺ منه الإيمان بما جاء به من عند الله لم يتردد، ولم يفكر طويلاً، بل أسرع إلى التصديق بكل ما جاء به وزالت عنه الدهشة والحيرة.

-قال محمد - يا أبا بكر إنك صاحبي، وأنت أول من أبلغه من الرجال ما أمرني به ربي
- نعم.. إننى مستمع إليك، ومصدق لكل ما تقول.
- إن ما أقوله ليس من عندى، وإنما هو من عند الله - سبحانه وتعالى -.
- نعم إنني أصدقك، وأوقن إيقانًا مؤكدًا أن ما تقوله هو الحق.
- إننى رسول من الله إلى الناس أجمعين. -
نعم يا رسول الله، وإنك أنت الصادق الأمين.
- إن هذا الأمر سيظل الآن سرّا، حتى يأمرنا الله - سبحانه وتعالى - بالجهر به.
قال أبو بكر: نعم يا رسول الله، وأنا معك مؤمن بكل ما تأمر به.

ترك أبو بكر رسول الله، وتوجه إلى بيته وطرق الباب، فعرفت أسماء أنَّ من بالباب أبوها أبو بكر، فأسرعت لتفتح له، وما كاد يراها حتى ابتسم لها وقال: السلام عليكم
- ما هذا.. يا أبتاه ؟ هل هذه تحية اللقاء؟
- نعم.. إنها تحية الإسلام، وهى تحية اللقاء للمسلمين، فحيثما يلق المسلم أو المسلمة أخا أو أختا يبدأه أو يبدأها بهذه التحية.
- ومن الذي عرفك بها؟محمد بن عبدالله .. فقد أرسله الله - سبحانه وتعالى -.
- بن عبدالله صاحبك الأمين، وبم أرسله الله؟!
قال أبو بكر: أرسله الله ليعلم الناس أنه - سبحانه وتعالى - هو الخالق وحده للكون، وأنه هو المخصوص بالعبادة، وأن يتركوا عبادة الأصنام، وأن محمد رسوله في كل ما يدعو إليه.
قالت أسماء: يا أبت إننى أسلمت وآمنت بكل ما جاء به محمد بن عبدالله من عند الله تعالى وأمره به.
- قولى يا أسماء: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، سأقولها في كل وقت بالليل والنهار وفى السر والعلن ولكن قل لي يا أبت ما رد تحية الإسلام؟
- رد هذه التحية وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

ما كادت أسماء تخلو بنفسها، إلا وتفكر في الدين الذي جاء به رسول الله من عند ربه، وتتشوق إلى معرفة المزيد من هذا الدين، وكيف تستطيع أن تعبد الله؟ وهل سيؤمن به كل الناس فى مكة ؟ إنها تريد مزيدًا وبيانا لكل ما يجول فى نفسها وبينما أسماء غارقة فى تفكيرها، سَمِعَتْ دق الباب، فاتجهت إليه لترى من الطارق، وما كادت تفتح حتى وجدت نفسها أمام رسول الله ﷺ وتلقته فرحة مسرورة، ثم سارت معه حيث يجلس أبوها أبو بكر. قام أبو بكر ليجلس رسول الله ﷺ وقد رحب به، وتحدث إليه، ثم أقبلت أسماء وحيت رسول الله الله ثم قالت يا رسول الله إنني آمنت بكل ما جئت به.

ابتسم لها النبي الله ثم سألها متلطفا بأى شيء جئتُ يا أسماء؟
قالت أسماء: قال لي أبي: إنك جئت برسالة من عند الله -تعالى- بأنه واحد لا شريك له، وأنه أرسلك إلى جميع الناس لتعلمهم ذلك، وأنه هو الذي يُعبد وحده، وأنه يأمر بالخير وينهى عن الشر، وعن الإساءة إلى الناس، وأن الجنة فى الآخرة لمن استقام وخاف من العقاب وأن النار لمن أشرك وكفر
وظلم الخلق.
-نعم يا رسول الله أعاهدك وأعاهد الله - تعالى - على الطاعة لكل ما تأمر به ولعبادة الله وحده.
دعا لها رسول الله ﷺ بأن يقوي إيمانها ويثبتها على الحق، وأن يضاعف لها الثواب والأجر في الدنيا والآخرة.
- بارك الله فيك يا أسماء. ولكن تعاهدينني على الطاعة الله ولرسوله في كل ما يأمر به.

أسماء على الطريق الصحيح

اتبعت أسماء كل ما جاء به رسول الله ﷺ ، وعملت به، فنفذت ما يدعو إليه الإسلام، كانت تنتظر والدها حتى يعود إلى البيت، ليخبرها بأحوال الرسول وأحوال المسلمين، وبما يجري بينهم وبين المشركين من قريش الذين وقفوا ضد الدعوة، وآذوا رسول الله ﷺ والمسلمين معه، كان يلقنها كل ما سمع من الرسول من أحاديث وما نزل عليه من آيات وسور القرآن الكريم، ولم تكتف بذلك بل كانت تذهب متخفية مع المسلمات إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم»، تلك الدار التي كان يذهب إليها المسلمون والمسلمات متخفين في أول الدعوة للاجتماع بالرسول ﷺ والاستماع إلى ما نزل به جبريل -عليه السلام - من أى الذكر الحكيم وما يأمره به ربه سبحانه وتعالى.

كانت تلتقى بمن أسلمن من النساء، لتتعرف ما يصيب المسلمين من الأذى، وتهتم بأخبار أبيها، والذين يترددون على بيته، ومنهم «عثمان بن
عفان» و «عبد الرحمن بن عوف» و «سعد بن أبي وقاص» و «طلحة بن عبيدالله»

و«الزبير بن العوام»، وكانت شديدة الإعجاب بقوة إيمان الزبير وصبره على تحمل الأذى، ودفاعه عن عقيدته.

كان عم الزبير رجلاً كافرًا شديد الكفر غليظ القلب، يحقد على ابن أخيه الزبير من يوم أن رآه يتبع محمدًا، ويؤمن بدعوته.

قال له العم يومًا:
- بلغنى أنك اتبعت دين محمد، وكان الزبير خامس خمسة أسلموا الله رب العالمين، وكان فتى فى الخامسة عشرة من عمره».
قال الزبير . نعم أسلمت لله رب العالمين.
- دعك من هذا - يا بني - وعد إلى دين قومك، فهو خير وأفضل.
- لن أعود.. وافعل ما تشاء. لقد أثرت في نفس العم هذه الإجابة، واشتد غيظه وقرر أن ينتقم من الزبير، فأمسكه وقيد يديه ورجليه بالحبال ولفه فى حصير، وعلقه على الحائط، وأوقد تحته نارًا فاندلعت ألسنة الدخان إلى رأس الزبير، ونفذت إلى عينيه فسالت منها الدموع، وكاد الدخان أن يكتم أنفاسه، فأحس الزبير ضيقًا شديدًا وكاد أن يغمى عليه ويفقد صوابه، ولكنه صبر على هذا البلاء، وتحمل العذاب الشديد ولم يقلل من إيمانه وعقيدته، وكانت كلمة التوحيد لا تفارق شفتيه.

طلب منه عمه أن يعود إلى دين قومه، ولكنه أخبره أنه لن يعود إلى الكفر أبدًا، ولو قطعه إرْبَا إِرْبَا.

لقد علم أن عذاب الزبير لن يرجعه عن إيمانه بما جاء به رسول الله ﷺ فمل من تعذيبه، ويئس من رجوعه، ففك عقاله وتركه وشأنه.

زواج أسماء والزبير

دخل أبو بكر على أسماء فوجد الحزن باديًا على وجهها، وآثار الدموع في عينيها فسألها، ما هذه الدموع يا أسماء؟ دموع من أجل الله.. ومن أجل العذاب الذى يلقاه المسلمون الذين اتبعوا الدين الحق وآمنوا بما جاء به رسول الله .
- ومن تقصدين منهم؟
- أقصد الزبير بن العوام صاحبك، وما يلقاه من عمه، ومن أهله.
- «الزبير بن العوام».. لا تحزنى فسوف أكافئه على صبره وإيمانه.
قالت أسماء: هل ستعطيه مالاً يتاجر به يا أبتاه، فقد علمت أنه . معدم؟
- نعم يا بنيتي العزيزة، وأعطيه أيضًا ما هو أغلى من المال.
- إن شاء الله .

إن أسماء قد أصبحت في سن تصلح للزواج، ولابد من اختيار زوج لها، وإن حديثها عن الزبير يغري أبا بكر بالكلام معه فى أمرها، وليس عيبا أن يختار الأب الإنسان الصالح لابنته، ولا مانع من أن يبدأ الحديث كان الزبير واحدًا من المقربين إلى أبى بكر، ولكن كيف يبدأ الحديث؟ هل يفاجئه بالموضوع؟ أو يلمح له من بعيد؟ وبينما أبو بكر يخطط لبدء الحديث معه إذ دخل على أبي بكر في قاعة الضيوف جماعة من المقربين، وفيهم ابن العوام، كان حديثهم في شأن الدعوة وما يلقاه المسلمون من إيذاء المشركين لهم، وفيما نزل حديثًا من القرآن، ولما هَمَّ الجماعة بالانصراف، استأذن الزبير، واستسمح القوم أن يبقى وقتا مع أبي بكر، ثم اقترب منه وقال له: يا أبا بكر. جئتك في أمر.
- إن شاء الله يكون خيرا.
- هو الخير كله إن شاء الله جئتك أطلب منك يد ابنتك «أسماء» لنفسي.

سكت أبو بكر، وأطرق إلى الأرض، ومر بخاطره ما كان يفكر فيه منذ قليل، ثم حدث نفسه قائلاً: والله إنه لمن صنع الله، والله إنه لمن صنع الله !!
قال أبو بكر لابن العوام: انتظرني لحظات.
دخل على أسماء، وأخذها جانبًا وهمس في أذنيها بكلمات احمر لها وجه أسماء، وأطرقت بوجهها إلى الأرض حياء ، ولم تتكلم، فضمها الوالد إلى صدره، ثم عاد إلى الزبير وقال : وافقنا على الخطبة.. فعلى بركة الله.

سرى الخبر في مكة.. بموافقة أبى بكر على زواج الزبير من أسماء وباركه رسول الله ﷺ فأم الزبير عمته، و«العوام بن خويلد» أخو السيدة خديجة زوج النبي ، وهذا الزواج فيه تقوية الصلة بين المسلمين الأوائل فالزبير أسلم وله من العمر خمس عشرة سنة ، وكان - رضى الله عنه - خامس من أسلم، وأسماء أسلمت ولم تتجاوز الرابعة عشرة من العمر، وكان ترتيبها من الذين دخلوا الإسلام السابعة عشرة من بين الرجال والنساء.
تعجب المشركون من موافقة أبي بكر على هذا الزواج، ونسوا أن الإسلام حطم الفوارق بين الناس وجعل مبدأ الإيمان والتقوى فوق كل المبادئ الدنيوية. وجاء موعد الزواج، وفرح النبي والمسلمون وهنأ بعضهم بعضًا، فالإسلام قضى على عادات وتقاليد الجاهلية.

اجتمع أهل مكة فى بيت أبي بكر، وأقيمت الموائد، وضربت الدفوف وغَنَّت الجواري، ودعا الجميع للعروسين بالرفاء والبنين. ثم ذهبت مع زوجها إلى بيته والفرح يملأ قلبيهما، وكان هذا من تدبير العلى القدير.

بدأت أسماء حياتها الزوجية في مكة، فانتقلت إلى بيت الزبير، وكان فقيرا فلم يكن في بيته إلا فراس ووسادةٌ من ليفِ، وقربة من الجلد للشرب والاغتسال ولكنها كانت راضية سعيدة لأنها اجتمعت مع الزبير على الإسلام، فلم تضجر من حياتها، ولم تكلف زوجها بما لا يطيق، فكانت متعاونة تهيئ له أسباب الراحة وتشاركه في العبادة، وحفظ ما ينزل من القرآن.

لقد أعطى الإسلام للزبير دفعة قوية نحو العمل والجد والاجتهاد، فما كاد يستقر في بيت الزوجية حتى سافر في تجارة إلى الشام.

ترك الزبير زوجته أسماء، ليذهب بتجارة إلى الشام، وانتقلت أسماء إلى بيت أبيها، لتكون مع أخيها عبد الله وأختها الصغيرة عائشة وأم رومان زوجة أبيها.. وفي يوم كانت أسماء وأختها عائشة تجلسان قريبا من سرير أبي بكر، وإذا الباب يُدقّ، فأسرعت أسماء لتفتح ، ولترى من الطارق فإذا به رسول الله .

كان وقت الظهيرة، ولم يكن متعودًا أن يَأْتِيَ في مثل هذا الوقت، وفكر أهل بيت أبي بكر في أن أمرًا عظيمًا قد وقع.

سلم رسول الله، واستأذن فى الدخول، وقابل أبا بكر الذي أسرع في القيام من مكانه ليجلس الرسول، ثم قال ﷺ لأبي بكر:

- يا أبا بكر أخْرِج مَنْ عندك.
- بأبي أنت وأمى يا رسول الله إنما هم أهلى، وإنهما أسماء وعائشة!
- يا أبا بكر، فإني قد أذن لي في الخروج والهجرة.
- أنا معك، الصحبة يا رسول الله.

نعم الصحبة يا أبا بكر. - تأخذ أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين. - نعم - يا أبا بكر – سآخذها بالثمن.

مؤامرة فاشلة من المشركون

يئس المشركون من إثناء محمد عن دينه، فقرروا التخلص منه قبل أن يستشرى خطره، فاختاروا من كل قبيلة فتى قويًا لمحاصرة بيت محمد بالليل وقتله، وبذلك يتفرق دمه بين القبائل ويعجز قومه بنو هاشم عن مواجهة قريش كلها للثأر.

أخبر الله رسوله ﷺ بما اتفق عليه كفار مكة، فطلب من على بن أبي طالب أن ينام مكانه، وأن يتغطى ببُرده الأخضر الحضرم ، كان المجتمعون ينظرون من ثقب بالباب فيرون النائم، فيطمئنون إلى أن محمدًا ما يزال نائما مكانه، ولكن النبي خرج من بين صفوفهم وهم لا يشعرون وكانت أسماء تقوم بواجبها من وقت أن علمت بالسفر، فأحضرت ما يحتاج إليه المسافران ثم وصل رسول الله إلى بيت أبي بكر في الثلث الأخير من الليل، وكانت أسماء قد أعدت لهما كل شيء.

خرج الرسول وصاحبه من خوخة فى ظهر بيت أبي بكر مُتَّجِهَيْن جنوبًا إلى طريق اليمن حيث وصلا إلى غار ثور.

وأطل نور الصباح والمشركون ينتظرون أن يقوم النائم، وما أعظم دهشتهم حينما رأوا أن النائم ليس هو محمدًا، وإنما هو «على بن أبي طالب!! نظر بعضهم إلى بعض فى دهشة واستغراب، فبعضهم يقسم أنه رآه وهو يتغطى بالرداء، وبعضهم سخر من كبار القوم من قريش، ولم يمض إلا وقت قصير حتى كان خبر نجاة محمد قد انتشر في أرجاء مكة.

ثار المشركون، وراحوا يتخبطون فى الطرقات واتجه أبو جهل، أشد أعداء المسلمين وصاحب فكرة القتل وتوزيع الدية على القبائل، إلى دار أبي بكر ومعه جماعته فهو يعرف الصلة القوية التي بين أبى بكر ومحمد بن عبدالله طرق الباب، فاقتربت أسماء، ثم نادت: من يكون الطارق؟
قال أبو جهل بصوت عال: افتحي يا بنت أبي بكر.
فتحت أسماء الباب.
- أين أبوك؟
- أبي.. خرج من البيت.
- متى خرج؟
- لا أدرى وقت خروجه.
- إلى أين سار؟
- لا أعرف مكانه.

لم يملك أبو جهل نفسه من شدة الغيظ، فهوى على وجه أسماء بيده القوية ولطمها على وجهها لطمة وصلت إلى أذنها فشقتها وسقط القرط منها، وقد

تخضب وجهها بالدماء. وقفت ثابتة لم تتزحزح رغم ما تعانيه من شدة الضربة، أما أبو جهل فقد انسحب فى خزى وعار. وقد لامه أهل مكة على ضربه لأسماء من غير ذنب جنته.

ولم تكد أسماء تستريح مما لاقته من عدو الله أبي جهل، حتى طرق الباب طارق آخر، وما كادت أسماء تقترب من الباب، حتى سمعت صوت جدها أبي قحافة، ففتحت الباب ودخل الجد وهو مشغول بما وصل إلى أذنه مما تناقلته الأخبار عن اختفاء رسول الله ونجاته مما اتفق عليه المشركون من قتله والتخلص منه.

قال في لهفة: أين أبوك يا أسماء؟
- أبى - يا جداه - هاجر إلى ربه.
- وما الذي دعاه - يا أسماء - إلى ذلك؟
- الذي دعاه إلى ذلك - يا جداه - الصحبة الرسول الله .
- الناس تقول: إنه أعطى كل ماله لمحمد.
- أبدًا - يا جداه - لقد ترك لنا خيرًا كثيرًا.
- أريني - يا أسماء – هذا الخير الكثير.

جمعت أسماء وساعدتها أختها عائشة حصوات من فناء البيت، ولفتها في قطعة من القماش، ووضعتها فى الكُوَّة ، ، ثم سحبت جدها وكان قد فقد بصره، فلمس بيده ما وضع فى الكُوَّة، وأسماء تقول: أليس كثيرًا يا جداه؟
- الآن قد استراحت نفسى يا أسماء.

دور أسماء ذات النطاقين

عرفت أسماء المكان الذى انتهى إليه الصاحبان وهو غار ثور، فكانت تأتى إليه ليلاً بالطعام والشراب يصحبها أخوها عبدالله، وقد كلفه أبوه بتتبع المشركين لمعرفة أخبارهم، وما يقومون به من عمل تجاه البحث عن رسول الله.

بقي رسول الله ﷺ وصاحبه فى الغار ثلاثة أيام بلياليها، وفي الليلة الأخيرة صنعت أسماء سُفْرة فيها شاة مطبوخة ومعها سقاء الماء، وذهبت بهما مع أخيها إلى الغار، حتى إذا دنا وقت الرحيل وقفت أسماء تساعد في ربط الأشياء، وأرادت أن تعلق السُّفْرة والسقاء، ولم تجد ما تربط به وبحثت فلم تعثر على ما تريد ففكت نطاقها وشقته نصفين، ربطت بأحدهما السفرة وبالآخر السِّقاء، رآها رسول الله له وهي تفعل ذلك، فقال لها: «أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة». ومنذ ذلك الحين سميت أسماء بنت أبي بكر بذات النطاقين.

دور عامر بن فهيرة


كان عامر بن فهيرة يرعى غنم أبى بكر، وكان يخرج في الصباح المبكر بالغنم ليطمس بأرجل الغنم معالم آثار أقدام أسماء وأخيها، حتى لا يراها كفار مكة الذين يبحثون عن الرسول الله وأبى بكر، فيعرفوا مكانهما ويذهب باللبن إلى الغار ليشرب منه الرسول ﷺ وأبو بكر.

دور عبدالله بن أريقط


جاء عبد الله بن أريقط، الدليل الذى سيقود الركب، وهو على معرفة بالطريق، وكان على صلة وثيقة بأبي بكر، واستعدوا للرحيل، وقف النبى رافعا يده إلى السماء يناجي ربه سبحانه وتعالى - ويدعوه بما يشاء يطلب منه العون والمساعدة، وأن يحفظه ومن معه من شر الأعداء وعثرات الطريق، ثم يتلو آيات من كتاب الله مما أنزل عليه. -

وداع الأحبة


وقفت أسماء لتودع رسول الله ، وقفت أمامه، وقالت: في حفظ الله ورعايته وهو خير الحافظين، ثم اقتربت من أبيها ، وسلمت عليه، وقبلته في جبينه، وغبطته على صحبته للنبي ، ودعت له بالتوفيق في رحلته... ثم وقفت مع أخيها يراقبان الركب، حتى غاب في الطريق الطويل المتعرج، آخذين وجهتهم إلى يثرب عادت أسماء مع أخيها، وقد بدا عليهما شيء من القلق والحزن، وسادهما الصمت، ولكن عبدالله أراد أن يقطع هذا الصمت فقال: والله يا أسماء إني لخائف على أبي بكر وعلى رسول الله. - ولكنني - يا عبد الله - أخاف على رسول الله أكثر، لأن الدعوة إلى الإسلام لا تتم إلا به.
نعم أنت يا أختاه على صواب وتفكيرك أنضج من تفكيري، وإنني أوافقك على ما تقولين وأكملت أسماء قولها لكن يا أخى مما يطمئنني، وترتاح له نفسى أن الله هو الذي أرسله برسالته وهو الذي أمره بالخروج للهجرة، وأنه – سبحانه وتعالى - حافظه وراعيه وحافظ من معه لإتمام الدعوة ونشر الإسلام في كل أرجاء هذه الدنيا الكبيرة. - هذا - والله - حق يا أسماء.
قالت أسماء ندعو الله أن نلحق بالنبى وبالمسلمين في يثرب.
قال عبد الله: إن شاء الله سوف نلحق بهم.

أول مولود للمهاجرين

علم الزبير وهو بالشام أن رسول الله له وصاحبه هاجرا إلى يثرب، وأن أهلها فرحوا بهما فرحا شديدا، وقابلوهما بالبشر والترحاب، وأن آل أبي بكر ومعهم أسماء سيلحقون بهما قريبًا، فقد بعث أبو بكر بكتاب إلى ابنه عبد الله، حمله إليه زيد بن حارثة وأبو رافع اللذان ذهبا إلى مكة ليأتيا بأهل رسول الله ، وأن الجميع سيكونون قريبا في يثرب.

أسرع (الزبير) يطوي الأرض طيًّا، متجها إلى يثرب ليشارك في ثواب الهجرة إلى الله، وليستقبل زوجته بعد طول غياب، وكله شوق لهذا اللقاء.

وصل فوجد المسلمين مجتمعين في مسجد رسول الله ، وما إن رأوه حتى هللوا وكبروا ، ثم رحب به رسول الله، وضمه إلى صدره، وفرح به أبو بكر كثيرًا، سأله الزبير عن الأهل فعلم أنهم لم يصلوا بعد إلى المدينة.

أصابه شيء من القلق.. لماذا تأخر ركب أسماء؟ وما الذي أبطأه في الطريق؟ وهل أصيبوا بمكروه؟ ترى ما الذي حدث؟ توجه الزبير إلى الله بالدعاء والرجاء أن يصلوا إلى المدينة سالمين. وبينما هو غارق في تفكيره إذ أقبل البشير من مكة يسبق الآل، ليبشر بسلامة الوصول، فقد وصلوا إلى قباء ، ونهض (الزبير) ليستفسر عن سر التوقف في قباء، فبادره البشير قائلاً: أبشر با بن العوام، فقد رزقك الله مولودا كريما قال الزبير مولود. أين ولد
ولد في قباء.
- متى كانت ولادته؟
-كانت ولادته فجر هذا اليوم.
- وكيف حال أسماء؟
- بخير.. والحمد لله.

سجد المسلمون شكرا الله وهللوا، فهذا أول مولود يولد للمهاجرين في المدينة، وهنأ بعضهم بعضا، وانتشر الخبر في أرجاء المدينة، وقضي على ما أشيع من أن اليهود سحروا للمسلمين، ولن يولد للمهاجرين مولود.

أسرع أبو بكر ومعه الزبير إلى قباء والتقيا بالأهل، وحمل الزبير زوجه أسماء وأهل أبي بكر ومعهم المولود الحبيب إلى المدينة، ثم حمل أبو بكر أول حفيد له إلى الرسول فتناوله ووضعه في حجره، وابتسم له وقال إنه أشبه الناس بأبي بكرا

ثم طلب تمرة فمضغها بفمه الشريف، فاختلطت بريقه، وحنكه بها، فكان أول ريق يصل إلى جوف المولود هو ريق النبي ﷺ وسماه عبدالله وهو اسم جده أبى بكر، وتناول الصحابة عبد الله يقبلونه، ويضمونه إلى صدورهم.

رجعوا بعبد الله إلى أمه أسماء فى الدار التى نزلت بها، وقد امتلأت بنساء المهاجرين والأنصار، وهن يرددن الأناشيد ويرفعن أصواتهن علامة الفرح والسرور.

حمل الأنصار الهدايا والأطعمة إلى بيت أسماء، ومضت ليلة خالدة بين الفرح والسرور والشكر لله تعالى.

كفاح أسماء ذات النطاقين

وفي المدينة بدأت أسماء حياةً جديدةً، فالأنصار يتعاونون مع المهاجرين وأسماء مستمرة مع زوجها تقاسمه خشونة الحياة، وهو المعدم الذي ليس له أرض يتولى ،زراعتها ولا مال يتجربه وليس عنده مملوك قد يؤجره وينتفع بأجرته، ولا شيء إلا فرسه الذي يحمل عليه الماء من الآبار. كانت أسماء تعلف الفرس، فتدق له النوى وتؤكله فتكفى الزبير مئونته وتسقيه الماء وتخرز غربه، وتعجن الدقيق، ولم تكن تحسن العجن والخب فكان لها جارات من الأنصار كن يساعدنها في العجن والخبز، ويقدمن لها ما تحتاج إليه، فلقد كانت أخوة الإسلام كاملة بين المهاجرين والأنصار لأنها أقوى من كل شيء حتى من أخوة الأب والأم .

ثم إن النبي ﷺ رق لحال الزبير، فأقطعة أرضًا على بعد ثلثى فرسخ (1) من المدينة، وكانت أسماء تحمل النوى على رأسها من تلك الأرض، وتذهب به إلى بيتها لتدقه. لكنها صبرت، وجعلت رسالتها إرضاء زوجها ليرضى عنها الله سبحانه وتعالى فقنعت بكسبه، وحمدت الله على ما أعطاها من رزق، وعاشت صابرة تنتظر الجزاء من الله - تعالى -.

أراد والدها أبو بكر أن يساعدها ويعينها على ما تقاسيه، من غير أن تشكو إليه فأرسل لها خادمًا يحمل عنها عناء العمل، ففرحت أسماء كثيرًا، ثم قالت ، تذكر فضل أبيها:
- كفاني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني!

إيمان وأمان

لقد هيأت أسماء لزوجها حياة مستقرة رغم قلة ما بيده من المال، فلم ترهقه بالمطالب ولا بالشكايات فاتجه إلى العبادة، وحفظ ما نزل من القرآن، وكثيرًا ما كانت أسماء تشاركه فى تلاوة القرآن وحفظه وفي صلاة الليل.

ومما يدل على قيام أسماء بالبيت وبالأسرة الكثيرة العدد أن الزبير كان من أوائل الذين قاموا بواجبهم في الجهاد، فلم يتخل مرة عن غزوات الرسول ، فظل فى مقدمة المجاهدين الأولين فى حياة الرسول ﷺ، وبشره ﷺ بالجنة فكان واحدا من العشرة المبشرين بها واشترك في الفتوحات في عهد أبي بكر وعمر وعثمان. أما أسماء فقد شغلت بتربية أولادها، فلم يؤثر أنها حضرت من الغزوات سوى غزوة تبوك.

أسماء الأم

تفرغت أسماء لأولادها فَرَبَّتُهم على تعاليم الدين الإسلامي، وعلى التمسك بمبادئه القويمة، وعلى الإخلاص الله ولرسوله ، والجهاد في سبيله. ريتهم على الشجاعة، ونشأتهم ليكونوا في الصفوف الأولى مع المجاهدين، فهى تعلم أن الإسلام دائما بحاجة إلى المجاهدين، كانت تقص عليهم أخبار أبطال المسلمين من أمثال حمزة بن عبد المطلب وغيره ممن استشهدوا في سبيل الله وشجعتهم على أن يتعلموا ركوب الخيل والتمرس بالرماية واللعب بالسيوف، واستخدام الرماح، وأن يتقنوا كل عمل كلفوا به فالله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه.

لقد أنجبت خمسة رجال وثلاث بنات تذكرهم فيما يلى:

١ - عبد الله بن الزبير : عبد الله بن الزبير أكبر أولادها، وكان أول مولود يولد للمهاجرين في المدينة وقد سُر المسلمون به كثيرًا، لأن اليهود قالوا إنهم سحروا المهاجرين، وأنهم أصيبوا بالعقم ، ولن يروا مولودًا أبدا، فكانت ولادته سهما رجع إلى صدر العدو.
فرح المسلمون فرحا شديدًا بمولد عبد الله، وتكذيب اليهود فيما ذهبوا إليه، كانت تؤدبه بأدب النبي وتطلب منه أن تكون أعماله كما يرى عليها النبي ، وكثيرا ما كانت تتركه عند خالته عائشة ليرى النبي ﷺ وهو يصلي ويراه وهو يعامل أهل بيته وكيف يعامل خدمه وأصحابه، وكيف يتناول طعامه، وربما شاركه الطعام في الغداء أو العشاء.

نشأ شجاعًا يجيد الضرب بالسيف، ويتمرن على فنون القتال، وهو ما يزال صبيًا صغيرًا، فلقد اشترك فى المعارك وهو في سن الرابعة عشرة. ومما يدل على شجاعته أنه كان يلعب مع الصبيان في شارع من شوارع المدينة ومر به عمر بن الخطاب ، وكانت الصبية يهابونه إلى درجة الخوف الشديد، فلما رأوه فروا جميعًا إلا عبد الله فإنه وقف مكانه، فلما اقترب منه قال له ابن الخطاب : - ما اسمك؟
فأجاب - بجرأة وشجاعة : اسمي عبد الله.
قال له عمر : لقد رأيت الصبية يفرون فلماذا لم تفر مثلهم؟
رد عليه عبدالله قائلاً: لم أجرم فأخاف منك، ولم يكن الطريق ضيقا فأوسع لك.
فأعجب عمر بشجاعته، وتنبأ له بحياة كلها شجاعة وكفاح، وقد كان ما رأه عمر ، فقد سعى سعيا شديدا كي يتولى أمر المسلمين، وقد تحقق له الكثير فقد وصل إلى الخلافة، ونودى به خليفة للمسلمين، إلا أن ذلك لم يدم طويلاً كما سيأتى الحديث عن موقفه من خلافة الأمويين.

٢ - عروة بن الزبير: ولد عروة فى السنة الثالثة والعشرين من الهجرة، ولما كبر اتجه إلى دراسة الفقه حتى كان أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وقد تأثر كثيرا بخالته عائشة، فلازمها طوال مدة حياتها، وتفقه على يديها، وكانت كثيرة الحفظ الأحاديث رسول الله حتى قيل: إنها أفقه نساء الأمة . لقد حفظ كل ما عرف منها من حديث رسول الله ﷺ حتى قال: - لقد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حجج ، وأنا أقول: لو ماتت اليوم ما ندمت على حديث عندها إلا وقد وعيته. كان عابدًا تقيا صواما خائفًا من ربه تحدثت كتب التاريخ عنه، فكان مما قالوا: كان في زيارته للخليفة الوليد بن عبد الملك الأموى. وكان برفقته ابنه محمد وكان من أحب أبنائه إليه، وحدث أن المرض سرى بإحدى رجليه، وأجمع الأطباء على بترها حتى لا تقضى عليه. قال عروة شأنكم بها فافعلوا ما تريدون. قالوا: نسقيك شيئًا لثلا تحس بما نصنع بك. قال: لا فلما نشروها، ورأى القدم في يدهم دعا بها فقلبها في يده ثم قال: أما والذي حملني عليك إنه يعلم أني ما مشيت بها إلى حرام قط. الحجة العام والسنة وجمعها حجج. وجاء في سورة القصص: (۲۷): (قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج..)

ویروی أنه في أثناء قطع رجله أن كان ابنه الأكبر في حظيرة الدواب، فرفسته دابة فقتلته، فلما أخبروه بذلك قال: (اللهم إنه كان لي بنون أربعة فأخذت واحدًا وأبقيت لى ثلاثة فلك الحمد، وكان لي أطراف أربعة فأخذت واحدًا وأبقيت لي ثلاثة فلك الحمد، وكان لى أطراف أربعة فأخذت واحدًا وأبقيت لى ثلاثة فلك الحمد وايم الله لمن أخذت فقد أبقيت، ولئن ابتليت فطالما عافيت).

وإلى الأم العظيمة ينتمى هذا الابن الفقيه الصابر المحتسب، ثم إنه توفى بضيعة له قرب المدينة، وقد بلغ من العمر الرابعة والتسعين.

٣- المنذر بن الزبير : كان المنذر يعمل بالتجارة، وكثيرا ما كانت الأم تتوجه إليه بالنصيحة وتدعوه إلى تقوى الله والتعامل بالصدق، والبعد عن الغش والخداع والرضى بالمكسب الحلال، وتذكر له ما كان عليه جده أبو بكر يوم أن كان تاجرا بمكة قالوا عن المنذر كان سيدا حليما مشهورا بحسن الخلق أهدى إلى أمه كسوة من ثياب رقاق بعدما بلغت المائة وكف بصرها فلمستها بيدها ثم قالت: - أف ... ردوا عليه كسوته، فإنها تشف قال المنذر يا أماه إنها لا تشف.
قالت رضى الله عنها : يا بني إنها وإن لم تشف، فإنها تصف. قال لها المنذر: لا تشغلى بالك بهذا فسوف أبدلها بما تحبين.

ثم أهدى إليها ثيابًا أخرى، فقبلتها وقالت مثل هذا فاكسني. قتل المنذر مع أخيه عبد الله بمكة في الحرب التي قامت بينه وبين بني أمية.

أما المهاجر بن الزبير وعاصم بن الزبير.. فلا نشك في أنهما كانا فاضلين بفضل تربية الأم العظيمة. وأما البنات فكبراهن خديجة بنت الزبير وكانت على جانب كبير من التقوى والتدين تزوجت عبدالله بن أبي ربيعة المخزومي. وأم الحسن بنت الزبير تزوجها عبد الرحمن بن الحارث وعائشة بنت الزبير تزوجها الوليد بن عثمان بن عفان، وكلهن تفرغن التربية أولادهن وأحفادهن.

لقد كفت أسماء بنت أبي بكر الزبير تربية الأولاد وتثقيفهم، وانفردت بتعليمهم، فكانوا قدوة صالحة مخلصين لربهم متمسكين بدينهم.. ولكن حوادث عبد الله ابنها، وما أدت إليه نهايته غطت على كثير مما قاموا به من أعمال.

أزمة عبد الله بن الزبير

الآباء والأمهات يحبون الأبناء النجباء ، ولقد كان عبدالله بن الزبير نجيبا ذكيًا، فأحبته أمه حبًا شديدًا كاد يزيد على حبها لأولادها الآخرين. ظهر ذكاؤه منذ الصغر، وكان موضع تقدير من جده أبي بكر ، ومن الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله ، وعندما بلغ الرابعة عشرة من العمر اشترك في الفتوحات الإسلامية في العراق وفارس وفى الشام وفلسطين، وفي مصر. ثم تولى قيادة الجيوش في شمال إفريقية.
حضر حصار الخليفة عثمان بن عفان ، ودافع عنه ضد أولئك الذين اقتحموا عليه داره، ثم أعلن معارضته لحكم بني أمية سنة ٤٠هـ، ووقف ضدهم واتهمهم بالخروج على قواعد الحكم في الإسلام، وانتصر عليهم وأعلنت البلاد ولاءها له ما عدا دمشق وما حولها من القرى التي ساعدت الأمويين على إرجاع الحكم لهم ثانية.

فقد استطاعوا بعد حروب دامية أن يستردوا ملكهم، وكان قد تولى قيادة جيش الخليفة عبدالملك بن مروان قائد جبار عنيد هو الحجاج بن يوسف الثقفي، وكانت به جرأة وشدة وقسوة زائدة فظل يحارب عبدالله، وينتصر عليه حتى وصل إلى عاصمة حكمه ( مكة المكرمة) فاستولى عليها ، وظل وراء عبد الله حتى لم يبق له إلا المسجد الحرام والبيت العتيق الذي تحصن به وجعله مقر قيادته.

ثم دعاه الحجاج وقد تغلب عليه إلى الاستسلام وله ما يريد من المال والأرض ومتع الحياة والعيش الناعم ،المريح، لكنه أبى وامتنع وصمم على القتال، ووضع أمامه أمرين لا ثالث لهما إما النصر وإما القتال حتى الموت. اشتد الحصار على ابن الزبير، ولكنه استطاع قبل الفجر أن يتسلل خفية إلى دار أمه أسماء.. ليعودها في مرضها، وليودعها الوداع الأخير. طرق الباب ودخل وما إن سمعت الأم صوته حتى فتحت له ذراعيها. ربت عبدالله على كتفيها في رفق وحنان، ثم اضطجعت في فراشها.

قال عبد الله: كيف تجدينك يا أماه؟

قالت الأم: ما أجدني إلا شاكية. داعبها عبدالله قائلاً: إن في الموت لراحة قالت الأم لعلك تتمنى الموت لي لا والله يا أماه، ما أتمناه ولكن....

ردت أسماء سريعا وقالت: وماذا بعد. ولكن.. اسمع يا عبد الله لا أحب أن أموت إلا بعد أحد أمرين لا ثالث لهما إما أن تنتصر على أعدائك، وإما أن تموت فأحتسبك عند الله - تعالى -. ساد الصمت بين عبد الله وبين أمه أسماء، ثم أخذ يشكو لها بمرارة خروج أصحابه عليه، ولم يبق معه إلا القليل والأعداء قد عرضوا عليه الصلح، وما يريد من المال والجاه إن هو استسلم لهم. اعتدلت الأم في جلستها، وقاومت ما بها من داء، وقالت: أو تستسلم؟!! يا بني أنت أعلم بنفسك إن كنت على حق وتدعو إلى حق. أنت أهلكت نفسك وأهلكت من معك كم خلودك في الدنيا القتل أحسن، والله الضربة سيف في عز خير من ضربة سوط في مذلة. قال عبد الله أخاف يا أماه إن مت أن يمثلوا بجسدى. قالت أسماء بنت أبى بكر كلمتها الخالدة : (لا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها)

دنا عبد الله منها أكثر، وقبلها في جبينها وقال: هذا - والله - رأيي ما حدث عنه، ولكنى أحببت أن أعلم رأيك فزدتني بصيرة، فانظري يا أماه فإني مقتول في يومي هذا، فلا يشتد حزنك وجزعك على وسلمى الأمر الله - تعالى - .

حبست الأم دموعها، وتغلبت على ما يخالجها من آلام، ثم قالت: إني لأرجو أن يكون عزائي فيك حسنًا، اخرج حتى أرى ما يصير إليه أمرك.

لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية