أمنيات الأحياء وأمنيات الأموات

أمنيات الأحياء وأمنيات الأموات

أمنيات الأحياء وأمنيات الأموات


من أشد المواقف على الإنسان موقف الاحتضار


يقول بعضُ أهل العلم: إنَّ من أعظم المواقف الواعظة إفاقةَ المحُتضَر عندَ موته فقد قالوا: إنَّه ينتبه انتباهًا لا يُوصَف، ويَقلَق قلقًا لا يُحدّ، ويتلهَّف على ما مضى من زمانه، ويتمنَّى لو تُرِكَ ليرجعَ ويتداركَ ما فاته، ويَصْدُقَ في توبته؛ لأنَّه يعاني من الموت ما يعاني، ويكاد يَقتُل نفسَه أسفًا وحسرةً.

الموتى انتهَتْ فُرَصُهم في الحياة، وقد عايَنُوا الآخرةَ، عرفوا ما لهم وما عليهم، أدرَكُوا أنهم كانوا في نِعَم، فهل حفظوها؟ وفي أوقات فهل أحسَنُوا العملَ فيها؟ وأيُّ حسرة، وأيُّ ندامة هم الآنَ فيها؟ كانوا يعيشون بين الورى فأصبحوا تحت الثَّريّ، كانوا في الوجود ثم صاروا إلى اللُّحُود، صاروا رهائنَ أعمالهم لا يُطلَقون، وغرباءَ سفرٍ لا يعودون.

التأمل في حال الدنيا


هذه هي حالُ الدنيا، وهذه حالُ أهلها، وحالُ مَنْ فارَقَها، ولكن ها هنا وقفةٌ مع مسألة عجيبة، وحال غريبة، بُسطت في الكتاب والسُّنَّة، مسألة تتحدَّث عن مواقف لهؤلاء الأموات فيها العظة، والعبرة، والدرس، بل فيها المبادَرة والمسارَعة لمن وفَّقَه اللهُ وأعانه؛ نعم -حفظكم الله- الأمواتُ انتقلوا من عالَم الغيب إلى عالَم الشهادة، عايَنُوا الجنةَ، وشاهَدُوا النارَ، رأوا ملائكة الله، وعرفوا حقيقةَ الدنيا، وحقيقةَ الآخرة، وأيقَنُوا -وهم في البرزخ- أنهم سيُبعَثون ليوم عظيم، يومٍ يقوم فيه الناسُ لربِّ العالَمِينَ، اقرأوا كتابَ ربِّكم، وانظروا في سُنَّة نبيِّكم محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لتعرفوا هذه المسألةَ، وتتعرَّفوا على هذه القضية؛ إنَّها أمنيات الموتى.

المقارنة بين أمنيات الأحياء وأمنيات الموتى


كلُّ الموتى يتمنَّون لو رجعوا إلى الدنيا، الصالحون وغيرُ الصالحين، أمَّا الصالحون فيتمنَّون المزيدَ من العمل الصالح؛ لِمَا يرون من الكرامات، والدرجات، وعظيم النعيم، وأمَّا المقصِّرون فيتمنَّون الرجوعَ ليستدركوا ويستعتبوا.

وقبل الحديث عمَّا يتمناه الموتى هذه إشارة إلى بعض أماني الأحياء؛ إذ بالمقارنة تظهر الحقيقةُ، فالفقير في الدنيا يتمنَّى الغنى، والغنِيُّ يتمنَّى من المال مزيدًا، ومن العمر مديدًا، والغريب يتمنَّى العودةَ إلى أهله، والمريض يتمنَّى الشفاءَ والعافيةَ، والعقيم يتمنَّى الولدَ، والأعزبُ يتمنَّى الزواجَ، أمنياتهم في وظيفة مرموقة، وزوجة جميلة، ومَركَب هنيء، وبيت واسع، ومكانة اجتماعيَّة، ومزيد من المال والعقار، والسفر والتنقل، ومزيد من البهجة والانبساط، وهكذا هم أهل الدنيا: الْمُقِلّ لا يقنع، والغني لا يَشبَع، والأماني لا تنقطع.

أمَّا الموتى -رَحِمَنا اللهُ وإيَّاهم، وعَفَا عَنَّا وعنهم- فمنهم الصالحون، ومنهم المقصِّرون؛ روى الترمذي في جامعه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إِلَّا نَدِمَ، قَالُوا: وَمَا نَدَامَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَلَّا يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَلَّا يَكُونَ نَزَعَ".

أمَّا الصالحون فَأُولَى الأمنيات حين تُحمَل الجنازةُ على الأعناق فيقول الرجل الصالح: عجِّلوني عجِّلوني، قدِّموني قدِّموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها! أين يذهبون بها؟ أخِّروني أخِّروني، يسمع صوتَها كلُّ شيء إلا الإنسان، ولو سَمِعَها الإنسانُ لصُعِقَ، من صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.

إنَّ الصالحَ حين يُدَخلُ قبَرهُ ويرى نعيمَ القبر، وسَعَتَه ونورَه، وانشراحَه يتمنَّى أَنْ يُعجِّل اللهُ قيامَ الساعة، وقد قال صاحب يس فيما ذكر الله عنه: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾[يس: 26-27].

أمَّا الشهيدُ فمَع عِظَمِ منزلتِه العاليةِ، وما أعدَّ اللهُ له في الجنان من أعالي الدرجات، فإنَّه يتمنَّى أن يعود إلى الدنيا ليواصل الجهادَ في سبيل الله، فيُقاتِل ويُقتَل عشراتِ المرات، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أحدٌ يدخل الجنةَ يُحِبّ أن يرجعَ إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنَّى أن يرجع إلى الدنيا فيُقتَل عشرَ مرات؛ لِمَا يرى من الكرامة"

أمَّا المقصِّرون فلهم أمنياتُهم، وقد قال الله -عز وجل- فيهم: ﴿قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾[الْمُؤْمِنَونَ: 99-100]، وقال عز شأنه: ﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾[السَّجْدَةِ: 12]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾[الْفَجْرِ: 24]، وقال عز شأنه: ﴿لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾[الزُّمَرِ: 58]، مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقبر فقال: "من صاحب هذا القبر؟ فقالوا: فلان. فقال عليه الصلاة والسلام: ركعتان أحب إلى هذا من بقية دنياكم"، وفي رواية: "ركعتان خفيفتان تحقرون وتنفلون يزيدها هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم"

وآخَرُ يتمنَّى الرجوعَ ليقدِّمَ صدقةً لله -عز وجل-، وفي التنزيل العزيز: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾[الْمُنَافِقُونَ: 10]، يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "إنَّ غايةَ أمنيةِ الموتى في قبورهم حياةُ ساعةٍ يَستدرِكُونَ بها ما فاتهم من توبةٍ، وعملٍ صالحٍ، وأهلُ الدنيا يُفرِّطون في حياتهم وتذهب أعمارُهم في الغفلة ضياعًا، ومنهم مَنْ يُقطِّعُها في المعاصي" عياذًا بالله.

وهناك أموات تَجري عليهم أجورهم وهم في قبورهم، ففي الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "إذا مات الإنسانُ انقَطَع عملُه إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو عِلْمٍ يُنتَفَع به بعدَه، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له"، "ومَنْ سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنةً فله أجرُها، وأجرُ مَنْ عَمِلَ بها إلى يوم القيامة، ومَنْ سَنَّ في الإسلام سنةً سيئةً فعليها وزرُها ووزرُ مَنْ عَمِلَ بها إلى يوم القيامة"

ويا حسرةَ مَنْ مات ولم تَمُتْ ذنوبُه معه، فهو يتمنَّى العودةَ إلى الدنيا ليتخلصَ ممَّا اقترفَتْه يداه، ليس البكاءُ على النفس إذا ماتت، ولكنَّ البكاءَ على التوبة إذا فاتت.

إنَّ الأموات لا يحتاجون إلا أن يُلتزَم فيهم هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فقدِّموا لهم ما أَذِنَ الشرعُ فيه، من الدعاء، والصدقة، وقضاء الديون، والحج، والعمرة، وغيرها.

وإذا كان ذلك كذلك فلا تزال أرواحُكم في أجسادكم، فاستكثِروا من الطاعات، وجِدُّوا في عمل الصالحات، واحذروا السيئات، ها أنتم في الدنيا فأطيعوا اللهَ ورسولَه، وأصلِحوا أعمالَكم، وأصلِحوا ذاتَ بينِكم، فما هي إلا أيامٌ وتُلاقُون أعمالَكم، وتُواجَهون بما كسبتُم، الدنيا دار العمل، والآخرة دار الجزاء، فمَنْ لم يعمل هنا نَدِمَ هناك، وكلُّ يومٍ يعيشه المرءُ غنيمةٌ، احذروا زلةَ القَدَم، وطولَ الندم، واغتنموا الوجودَ قبلَ العدم، أيُّ حسرات تلحق صاحب الأمنيات؟ وأي ندامات تعصر قلب أهل الغفلات، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[الْمُنَافِقُونَ: 9-11].

الأمنيات المشروعة في الدنيا لأهل الإيمان


ومع كل ما سبق من أمنيات الأموات فإن لأهل الإيمان في الدنيا أمنيات مشروعة، مِنَ الزوجِ الصالح، والذريةِ الطيبةِ، والسِّتْرِ، والعافية، والرزق الحلال؛ ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾[الْفُرْقَانِ: 74]، ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[الْبَقَرَةِ: 201]، وفي الحديث: "لا حسدَ إلا في اثنتين: رجلٍ آتاه اللهُ القرآنَ فهو يقوم به آناءَ الليل وآناءَ النهار، ورجلٍ آتاه اللهُ مالًا فهو يُنفِقه آناءَ الليل وآناءَ النهارِ"

كما هناك أمنيات عامَّة، يَحمِلُها كلُّ مسلم، وكلُّ مخلص، وإننا نسأل اللهَ أن يَمُنَّ بفضله وكرمه على العالَم أجمع بالأمن والسلام والرخاء، وأن يرفع عَنَّا جميعًا البلاء، والوباء، والربا، والزنا، والزلازل، والمحن، وسوء الفتن ما ظهَر منها وما بطَن، كما نسأله -سبحانه- بجوده وإحسانه أن يمنَّ بحفظ بلاد المسلمين، وأَنْ يجمع على الحق والهدى كلمتَهم، ويحقنَ دماءهم، ويفكَّ أسيرَهم، ويجبر كسيرهم، ويؤوي طريدهم، ويبسط الأمن والرخاء في ديارهم.

لا تنس ذكر الله
لا إله إلا الله
0 / 100

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية