العنف الأسري ١ (خطبة)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأَشهد أن لا إِله إلا الله وحده لا شريك له، وأَشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلَّغَ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغُمَّة، وجاهد في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين من ربه، فصلوات الله وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار إلى يوم الدين، أما بعد:أيها المسلمون، لقد كانت المرأة قبل الإسلام في بعض مجتمعات الجاهلية تعيش فترةً عصيبةً؛ فقد كانوا يكرهون ولادتها، فمنهم من يدفنها وهي حية تحت التراب؛ خوفًا على نفسه من العار، ومنهم من يتركها تبقى في حياة الذُّلِّ والمهانة؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [النحل: 58، 59]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ﴾ [التكوير: 8، 9].
والموءودة: هي البنت تُدفَن حيةً حتى تموت تحت التراب، والمرأة في الجاهلية ليس لها حظٌّ في الميراث مهما عانت من الفقر والحاجة؛ لأن الميراث يختصُّ بالرجال؛ بل إنها كانت تُورَثُ عن زوجها الميت كما يُورَث سائر المتاع، وكان الجمع الكثير من النساء يعشْنَ تحت زوج واحد؛ حيث كانوا لا يتقيَّدُون بعددٍ محدد من الزوجات، ولا يبالون بما ينالهن من المضايقات والظلم؛ روى مسلم في صحيحه من حديث عمر رضي الله عنه أنه قال: «وَاللهِ إِنْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ، وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ».
أيها المسلمون، ومن الصور المضيئة لتكريم المرأة في الإسلام: أنه رفع عنها المظالم، وأعاد لها مكانتها، وجعلها شريكة الرجل في الثواب والعقاب وسائر الحقوق، إلَّا ما اختصَّ اللهُ به النساء؛ قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾[النحل: 97]، وقال تعالى: ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ﴾ [آل عمران: 195].
روى الترمذي في سُنَنِه من حديث أُمِّ عمارةَ رضي الله عنها: أَنَّهَا أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: مَا أَرَى كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا لِلرِّجَالِ، وَمَا أَرَى النِّسَاءَ يُذْكَرْنَ بِشَيْءٍ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 35]، وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ)).
وحرم الإسلام اعتبار المرأة من موروثات الزوج، كما هو الحال في الجاهلية؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ﴾ [النساء: 19]، فضمن لها استقلال شخصيتها، وجعلها وارثةً لا موروثةً، وجعل للمرأة حقًّا في مال قريبها من الميراث؛ فقال تعالى: ﴿ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴾ [النساء: 7].
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا))، وروى ابن ماجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي)).
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:أيها المسلمون، لقد أكرم الإسلام المرأة غاية الإكرام، ونهى عن إيذائها أو تحقيرها بأي قول أو فعل؛ قال تعالى: ﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ﴾ [الطلاق: 6].
وفي الحديث قال النبي: ((لا تضربوا إماء الله))، فجاء عمر إلى رسول الله، فقال: ذَئِرْنَ النساء على أزواجهن، فرخَّص في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءٌ كثيرٌ يشكون أزواجهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد طاف بآل محمد نساءٌ كثيرٌ يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم))؛ (رواه أبو داود).
وقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عندما سأله معاوية بن حيدة: ما حقُّ زوجةأحدناعليه؟ قال: ((أَن تُطعِمَهَا إِذَا طَعِمتَ، وَتَكسُوَهَا إِذَا اكتَسَيتَ - أَو: اكتَسَبتَ - وَلَا تَضرِبِ الوَجهَ، وَلَا تُقَبِّح، وَلَا تَهجُر إِلَّا فِي البَيتِ))؛ (رواه أبو داود).
سُئِل الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله مفتي عام المملكة العربية السعودية سابقًا عن ضرب الزوجة:
وأما المرأة فليس له ضربها إلَّا بعذر شرعي؛ كالنشوز، إذا نشزت عليه، ولم ينفع في هذا الوعظ، ولا الهجر، ضربها ضربًا غير مبرح، ضربًا خفيفًا؛ لقول الله سبحانه: ﴿ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 34]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)).
وأذن في ضربهن ضربًا غير مبرح إذا عصين، فالحاصل أن الرجل له ضرب امرأته إذا عصته ونشزت عليه، ولم يتيسَّر إصلاحها بغير الضرب، فإنه يضربها ضربًا خفيفًا، يردعها عن العصيان، ولا يضربها بجرحٍ ولا كسرٍ للآية الكريمة، والحديث الشريف.
إمَّا أن يضربها بغير حق من أجل هواه، أو من أجل غضبه، وهي لم تفعل ما يوجب الضرب، فهذا لا يجوز له، ولا ينبغي له، وهذا من سوء المعاشرة، والله يقول: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [النساء: 19]، وينبغي له أن يتحمَّل ما قد يقع منها من بعض الخلل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((استوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج))، وفي اللفظ الآخر: ((وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها))، فالرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بهن خيرًا، قال: ((استوصوا بالنساء خيرًا))، وبيَّن أنه لا بد من عوج، فينبغي الصبر والتحمُّل، وعدم التشديد، وعدم تدقيق الحساب فيما يتعلَّق بأخطائها، يكون عنده كرم، وعنده خُلُق جيد، وحلم، يتحمَّل فلا يعاقب على الصغيرة والكبيرة، وعلى كل شيء، لا؛ بل ينصح، ويعظ ويُذكِّر، أو يهجر عند الحاجة؛ يهجرها في الفراش، أو يعطيها ظهره أيامًا أو ليالي، ثم إذا صلحت رجع عن الهجر وترك الهجر، فإذا لم تجزئ الموعظة ولم ينفع الهجر، ضربها ضربًا غير مبرح، عند عصيانها له، وإيذائها له، ضربًا خفيفًا، ليس فيه خطر، لا جرح ولا كسر، والمقصود من هذا أن الواجب عليه أن يعاشر بالمعروف؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [النساء: 19]، وقال عز وجل: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾ [البقرة: 228].
باختصار أيها المسلمون، لم يكن من هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم ضربُ النساء؛ سواء كانت أختًا أو بنتًا أو زوجة أو غيرها.
فروى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قطُّ بيده،ولا امرأة، ولا خادمًا، إلَّا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قطُّ، فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله عز وجل؛بل حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم الرجل على الرفق بآل بيته، فروى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: ((يَا عَائِشَةُ، ارْفُقِي؛ فَإِنَّ اللهَ إِذَا أَرَادَ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا، دَلَّهُمْ عَلَى بَابِ الرِّفْقِ)).
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين.
لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100
إقرأ المزيد :
الفئة: خطب إسلاميةالأسرة المسلمة