بيوت تحترق
الحمدُ للهِ الكريمِ المنانِ، عالمِ السرِّ والإعلانِ، خالقِ الإنسِ والجانِّ، مدبرِ الأفلاكِ والأكوانِ، لعبوديتِهِ يخضعُ الثقلانِ، ولعظمتِهِ يلهَجُ كلُّ مخلوقٍ بسبحان.أنزلَ القرآنَ فهوَ أعظمُ بيانٍ وأصدقُ برهانٍ، أرسلَ منْ خلْقِهِ صفوةَ عدنان، أيدَهُ بالقرآنِ، ونصرَهُ يومَ التقى الجمعان.
فعليهِ الصلاةُ والسلامُ عددَ ما نطقَ اللسانُ، وكتبَ البنانُ، وخفقَ الجنانُ، فعليهِ الصلاةُ في كلِّ حينٍ وآنٍ.
اللهمَّ لكَ الحمدُ على نعمٍ أسديتَها إلينا منْ غيرِ سؤالٍ، ولكَ الحمدُ على سَترِكَ للمعاصي الثقالِ، أخفيتَها بسترِك حتى نَسِيناها على مرِّ السنينَ الطوالِ، أخفيتَها ولو أظهرتَها لبُؤنا بالمذلةِ بعدَ الإجلالِ.
اللهمَّ لكَ الحمدُ يا ربَّنا نقابلُك بأعمالٍ يعتريها النقصُ والإخلالُ، ونظنُّ في أنفسِنا أننا حقَّقنا المبتغى والكمالَ، ونتجرأُ عليكَ يا ربَّنا بالذنبِ الكبيرِ والإثمِ العضالِ، فتجازينا بالأرزاقِ والخيراتِ الجزالِ، فلكَ الحمدُ ما أعظمَك ولكَ الحمدُ ما أحلمَك ولكَ الحمدُ ما أكرمَك. أمَّا بعدُ:
عبادَ اللهِ، اتقوا اللهَ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أيُّها المؤمنونَ:
حينَما تتأخرُ أمةٌ عزيزةٌ، ويذلُّ قومٌ كرامٌ، ويتوارى دينٌ هوَ الحقُّ، وتتغيرُ هويةٌ هيَ الأَوْلَى بالبقاءِ، وتندرسُ لغةٌ هيَ الأَجْدَرُ بالصمودِ، عندَمَا ينزَوِي الحياءُ، ويهلكُ البرُّ، وتُترَكُ الفضيلةُ، ويُسعى إلى الرذيلةِ، حينَما تُهجرُ المساجدُ، وتُطوى المصاحفُ، ويضمحلُّ الطهرُ والنقاءُ، فإنَّ هناك أمرًا عجبًا وخطبًا جللًا، فيا تُرى ما الذي تغيرَ؟ ما الأمرُ الذي تبدلَ؟ وما هذا التِّيهُ الذي استحكمَ؟ وما هذا الفتورُ الذي أَلَمَّ وأعمَّ؟ ألا إنَّه قدْ قالَ الأولُّ: (إذا عُرِفَ السببُ بطلَ العجبُ).فعندَما تنكَّرَ الآباءُ لأبنائِهم، وخانوا لأمانتِهِم وفرَّطوا في أهمِّ مهمَّاتِهِم، حينَ هرَبوا من الواقعِ وأَخْلَوُا المواقعَ، حينَ عكفوا في الاستراحاتِ ونسَوُا البنينَ والبناتِ، حين قرَّبوا النُّدماءَ والأصدقاءَ وأعرضوا عن الأبناءِ، حينَ انشغلوا في المقاهي المنزليةِ والرحلاتِ البريةِ والأسفارِ الخارجيةِ وتركوا المسؤولياتِ والذريةَ وقعتِ الكارثةُ، وحلتِ المصيبةُ، فتغيرَ الجيلُ!
التربيةُ وظيفتُهم الكُبرى ومهمتُهم العُظمى، قدْ تركوها من غيرِ خوفٍ منَ اللهِ ومنْ غيرِ رأفةٍ بأبنائِهم ودونَ مراعاةٍ لما يجنونَه على مجتمعاتِهم من جراءِ تفريطِهم وتضييعِهم.
فأسألُكم باللهِ كيفَ خرجَ السراقُ والمجرمونَ؟ بلْ كيفَ خرجَ المخنثونَ منَ الرجالِ والمترجلاتُ منِ النساءِ؟ لقدْ خرجوا من بيوتٍ خاويةٍ خاملةٍ عاطلةٍ، خاويةٍ منْ ذكرِ الله، خاملةٍ عن طاعةِ اللهِ، عاطلةٍ عن كلِّ نافعٍ في دنيا ودينٍ.
نعمْ همْ يشبعونَ الأبناء لكنَّهم لا يربُّونَ، نعمْ همْ يدفعونَ ويرفهونَ لكنَّهم لا يربُّونَ، لا يأمرونَ بفضيلةٍ ولا يحاربونَ رذيلةً ولا يحملونَ رسالةً، لسانُ حالِهِم؛ فأنتَ بالجسمِ لا بالنفسِ إنسانُ!
عبادَ اللهِ، إذا أُدِّبَ الصغارُ ظهرَ الأتقياءُ الأبرارُ والأصفياءُ الأخيارُ، إذا رُبِّيَ الأبناءُ خرجَ العُبَّادُ الصالحونَ، وإذا اعتُنِيَ بالجيلِ برزَ العلماءُ الناصحونَ، وإذا وقعَ عكسُ ذلكَ منَ التفريطِ والإعراضِ عنهُم فلا غرابةَ ولا عجبَ أن يكونَ الابنُ عدوًّا لوالدِهِ عقوقًا وإعراضًا، وتكونَ البنتُ فضيحةً ونكالًا:
وينشأُ ناشئُ الفتيانِ منَّا
علَى مَا كانَ عوَّدَهُ أبُوهُ
عذرًا أيُّها الأب، فقد أحضرتَ القنوات الغاوية التي تعرضُ المزمارَ والغانيةَ، ووفِّرتْ الأجهزةَ اللاهية التي تؤدِّي إلى الهاويةِ، عذرًا أيُّها الأبُ.. تصدحُ أصواتُ المآذنِ في كلِّ يومٍ وليلةٍ لكنكَ معَ الأسفِ لم تأمرْ مَنْ تحتَ يدِك من زوجٍ وذريةٍ بأداءِ هذهِ الفريضةِ الإلهيةِ، والوصيةُ النبويةُ، «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ».
أيُّها الأبُ، سمعتَ الألفاظَ النابيةَ، ورأيتَ الألبسةَ الشاذةَ الفاضحةَ، وعاينتَ التصرفاتِ الخادشةَ الساقطةَ ولمْ ترفعْ بذلكَ رأسًا ولم تَرَ بذلكَ بأسًا، فأيَّ برٍّ ترجوهُ؟ وأيَّ قرةَ عينٍ تنتظرُها؟ بل أيَّ فخرٍ ونجاحٍ وإنجازٍ وقد أخرجتَ نشئًا لا يعرفُ معروفًا ولا ينكرُ منكرًا؟
عوِّدْ بنيكَ على الآدابِ في الصغر
كيما تقرَّ بهم عيناكَ في الكبرِ
عن معقل بن يسار رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّة".
فما أعظمَ الخسارةَ في الدنيا بفسادِ الأولادِ وما أعظمَ العاقبةَ في الآخرةِ في نارٍ وبئسَ المهادُ. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6].
أيُّها الآباءُ لا تلوموا الزمنَ، ولا تلوموا الأعداءَ ولا تعتذروا بالتقنيةِ والتطورِ. فأمَّا الزمنُ فهو شاهدُ حقٍّ لا يكذبُ، ألم تَرَوْا منْ يحفظُ القرآنَ ويحافظُ على الصلواتِ ويتفوقُ في دراساتِهِ ويتميزُ بهوايتِهِ؟
كيفَ خرجَ أولئكَ الفتيةُ؟ إنهم خرجوا بعدَ كفاحٍ طويلٍ معَ والدينِ صالحينِ تحفُّهمُ الدعواتُ الأبويةِ وتحرسُهم العنايةُ الإلهيةُ بعد معركةٍ طويلةٍ في ميدانِ التربيةِ، قد تركَ من أجلِها الوالدانِ كلَّ شيءٍ حتى ربحَ البيعُ.
وأما الأعداءُ فهناك من أسلمَ أولادهُ إليهم بأرواحٍ خاويةٍ وأجسادٍ باليةٍ وأفكارٍ فارغةٍ، حتى أصبحوا لقمةً سائغةً، فقيدوهم بالشهواتِ وكبلوهم بالشبهاتِ، وأَنَّى لهمُ الفكاكُ
رَمَوهُ باليمِّ مكتوفًا وقالوا له
إياكَ إياكَ أنْ تبتلَّ بالماءِ
وأما التقنيةُ فهي سلاحٌ ذو حدَّينِ، متى ما وُجدتْ العنايةُ والمراقبةُ مع خوفٍ يُزرعُ في قلبِ الابنِ يردَعُهُ عن المحرماتِ ويخلِّصُهُ من المهلكاتِ مع مراعاةٍ للأعمارِ والمراحلِ وعنايةٍ بأوقاتِ استخدامِ تلكَ الأجهزةِ إذا رُوعي ذلك كانت بإذنِ اللهِ خيرًا وفلاحًا وعلمًا ونجاحًا.
فليَلُم المقصر نفسه، وليتأمل في حالِه ويتقِ اللهَّ في أبنائِه. واعلموا أن فتيانَ الحاضرِ هم مستقبلُ الأمةِ وحظُّها وسترُ الديارِ وعرضُها، يبنونَ الصروحَ ويضمدونَ الجروحَ ويتقدمونَ الفتوحَ.
فأحسِنوا لأنفسكِم بذريةٍ طيبةٍ وأمِدُّوا أمتَكم بأجيالٍ صالحةٍ ﴿ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ﴾ [المزمل: 20].
الخطبةُ الثانيةُ :
الحمدُ للهِ على إحسانِهِ والشكرُ لهُ على توفيقِهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له تعظيمًا لشأنِهِ وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ الداعي إلى جنانِهِ، والمحذرُ من نيرانِهِ، صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تسليمًا مزيدًا إلى يومِ الدينِ. أما بعدُ:
أيُّها المؤمنونَ، لا ينكرُ أحدٌ كثرةَ الضغوطِ العمليةِ وازدحامَ المشاغلِ اليوميةِ وتأثيرَ التقنيةِ، وتعدد مصادرِ المعلومةِ وتنوع روافدِ المعرفةِ ووجود فجوةٍ كبيرةٍ بينَ الأبناءِ والآباءِ بحكمِ التسارعِ العجيبِ الذي يشهدُهُ العالمُ من حولِنا.
لكنَّ كلَّ هذه الأسبابِ لا تُسَوِّغُ للآباءِ التخلِّيَ عن المسؤوليةِ والجنوحَ إلى الهدايةِ الربانيةِ من غيرِ فعلٍ للأسبابِ الشرعيةِ.
أيُّها الأبُ، اعلمْ يقينًا أن تربيةَ الأبناءِ من أهمِّ التكاليفِ الشرعيةِ التي كلَّفَ بها الربُّ سبحانَهُ عبادَهُ المؤمنينَ وهي من أعظمِ ما يُختبرُ به المؤمنُ في هذه الحياةِ، فكما أنك حضرتَ لهذهِ الصلاةِ العظيمةِ مستشعراً مكانَتَهَا الدينيةَ فاعلمْ يقينًا أنكَ منذُ أن تنفتلَ من هذهِ الصلاةِ فأنتَ مقبِلٌ على فريضةٍ أخرى، ومهمةٍ عُظمى ألا وهي تعبيدُ الأبناءِ للهِ عزَّ وجلَّ فكمْ منْ مؤمنٍ مسارعٍ للصلواتِ باذلٍ للصدقاتِ، لكنَّهُ مفرطٌ في أداءِ أعظمِ الأماناتِ ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72].
أيُّها الأبُ المباركُ، أبناؤُكَ هم تجارتُك الحقيقيةُ ووظيفتُكَ الأوليةُ، فأيُّ تجارةٍ تنفعُ؟ وأيُّ وظيفةٍ تغني وولدك بعيد عنك بسببِ خلافاتٍ أو مخدراتٍ؟ بل أيُّ مجلسٍ أو استراحةٍ تؤنسُ وقد فُجعتَ بفضيحةٍ أو عارٍ؟
أيها الأبُ، إن الأصدقاءَ سوفَ تصرفُهُم الأيامُ وتحولُّهم الأعوامُ ولا يبقى لك إلا أسرتُك، وسوفَ تكونُ أشدَّ حاجةً لها فلا تؤثرْ الزائلَ على الباقي.
اعلمْ أنها مسؤوليةٌ عظيمةٌ، ومهمةٌ شاقةٌ يحوطُها كثيرٌ من المصاعبِ والعقباتِ، لكنْ اعلم يقينًا أنَّها يسيرةٌ بإذنِ الله ِعلى مَن أحسنَ النيةَ وصدقَ مع اللهِ وسوفَ يعينُك المولى بإذنِ اللهِ ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [الأنفال: 27، 28].
اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ وأذلَّ الشركَ والمشركين واحم حوزة الدين، اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون لإعلاء كلمتك في كل مكان، اللهم كن لهم عوناً ونصيراً ومؤيداً وظهيراً، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، اللهم وفق ولي أمرنا لكل خير، اللهم ارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، اللهم اغفر لأمهاتنا، اللهم اغفر لآبائنا، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نعوذ بك من الربا والزنا والزلازل والمحن والفتن ما ظهر منها وما بطن، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100
إقرأ المزيد :
الفئة: خطب إسلاميةالأسرة المسلمة