تعدُّد الزوجات
الحمد لله ... لم يكن الإسلامُ كنظامٍ تشريعي أوَّلَ مَنْ دعا إلى تعدُّد الزَّوجات، وإنَّما جاء وكان التَّعدُّد موجوداً في كافَّة الحضارات السَّابقة عليه، وكذا الدِّيانات: السَّماوية منها والوضعيَّة، وإنَّما ما ميَّز الإسلامَ عمَّا سبقه أنَّه جعل التَّعدُّد في إطارٍ تشريعيٍّ، فوضع له حدوداً وقيوداً، وضَمَّنه مسؤوليَّات على عاتق مَنْ أراد التَّعدُّد، وهو بهذا إنَّما عمل على تنظيمه وتهذيبه، وهذا ما نُريد الإشارة إليه من خلال مجموعةٍ من الحقائق الثَّابتة تاريخيّاً بخصوص التَّعدُّد، وهي:
الحقيقة الأُولى:
نظام التَّعدُّد معروفٌ عند الأُمم السَّابقة:التَّعدُّد كان معروفاً في جميع البيئات قبل الإسلام، فلم يكن الإسلام أوَّل نظامٍ يُشَرِّع التَّعدُّد ويُقِرُّه، فهذه الظَّاهرة الاجتماعيَّة معروفةٌ عند الأُمم السَّابقة؛ إذْ كانت معروفة عند اليونان والرُّومان والبابليين والهنود وقدامى المصريين، كما عرفه الأوروبيُّون في العصور الوسطى؛ وكان لا يحدُّه عدد، ولا يقيِّده شرط، ولم يكن له هدفٌ إلاَّ قضاء الشَّهوة[انظر: المرأة بين الفقه والقانون، د. مصطفى السباعي (ص71)؛ الإسلام عقيدة وشريعة، لمحمود شلتوت (ص198)؛ مكانة المرأة في الإسلام، (ص60).].
إذاً - ياعباد الله - نظام تعدُّد الزَّوجات ليس مقصوراً على الأُمم التي تدين بالإسلام، وأكبر برهان على ذلك أنَّ تعدُّد الزَّوجات لا يزال إلى يومنا هذا منتشراً في العديد من الشُّعوب التي لا تمتُّ إلى الإسلام بصلةٍ؛ كالأفارقة والهنود والصِّينيين واليابانيين [انظر: حقوق الإنسان، د. علي عبد الواحد وافي (ص123).].
وأمَّا الدِّيانة اليهودية، فكانت تُبيح التَّعدُّد بدون حَدٍّ، وكان لعددٍ من أنبياء اليهود زوجاتٌ كثيرات؛ فسليمان عليه السلام كان له سبعمائة امرأة من الحرائر، وثلاثمائة من الإماء[سفر الملوك الأول، الإصحاح الحادي عشر (1).]، وفقاً لما ذُكِرَ في العهد القديم[انظر: المرأة بين الفقه والقانون (ص60).].
وجاء في التَّوراة إباحة الزَّواج بغير عدد محصور من النِّساء، إلاَّ أنَّ بعض أحبار اليهود حدَّد ذلك بثماني عشرة زوجة، وأنبياء التَّوراة جميعُهم كانت لهم زوجات كُثُر[انظر: تنظيم الإسلام للمجتمع، أبو زهرة (ص74)؛ مكانة المرأة في الإسلام (ص62).].
يقول (نيوفيلد) في كتابه "قوانين الزَّواج عند العبرانيين" : «إنَّ التَّلمود والتَّوراة معاً قد أباحا تعدُّد الزَّوجات على إطلاقه، وإنْ كان بعض الرَّبَّانيين ينصحون بالقصد في عدد الزَّوجات، وأنَّ قوانين البابليين وجيرانهم من الأُمم التي اختلط بها بنو إسرائيل، كانوا جميعاً على مثل هذه الشَّريعة من اتِّخاذ الزَّوجات والإماء»[المرأة في القرآن الكريم، عباس محمود العقاد (ص74)
وأمَّا النَّصرانيَّة، فلم يَرِدْ فيها نَصٌّ صريح يمنع التَّعدُّد، بل جاء في بعض رسائل (بولس) ما يفيد أنَّ التَّعدُّد جائز، فقد قال: «يلزم أن يكون الأسقف بَعْلَ امرأة واحدة»[رسالة بولس الأُولى إلى تيموثاوس، الإصحاح الثالث (2).]؛ وفي إلزام الأسقف بزوجةٍ واحدةٍ دليل على جوازه لغيره، حيث كان التَّعدُّد مُعترفاً به عند الشُّعوب التي تدين بالنَّصرانية، ولم يُعتبر مخالفاً لتعاليم دينهم.
وهذا ما يؤكِّده (وستر مارك) بقوله: «إنَّ تعدُّد الزَّوجات باعتراف الكنيسة بَقِيَ إلى القرن السَّابع عشر، وكان يتكرَّر كثيراً في الحالات التي لا تحصيها الكنيسة والدولة»[حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، عباس محمود العقاد (ص178)].
وقد اعترفت النَّصرانيَّة المعاصرة بتعدُّد الزَّوجات في إفريقيا حينما وَجَدت الإرساليَّات التَّبشيرية نفسَها أمامَ واقعٍ اجتماعيٍّ هو تعدُّد الزَّوجات لدى الأفارقة الوثنيين، ورأوا أنَّ الإصرار على منع التَّعدُّد يحول بينهم وبين دخول الأفارقة في النَّصرانية، فنادوا بوجوب السَّماح للأفارقة النَّصارى بالتَّعدُّد إلى غير حَدٍّ[انظر: المرأة بين الفقه والقانون (ص62-63)]، وهذا ما يدعونا إلى إقرار حقيقةٍ أُخرى، وهي:
الحقيقة الثانية:
لا علاقةَ للدِّين النَّصراني في أصله بتحريم التَّعدُّد:فبالإضافة إلى ما سبق ذكره بخصوص وجود التَّعدُّد في النَّصرانية، فقد ثبتَ تاريخيّاً أنَّ بعضَ الأقدمين من المسيحيين ومن آباءِ الكنيسة كان لهم كثير من الزَّوجات؛ كما جاء في مقولة (وستر مارك) التي تقدَّم ذِكْرُها.
بل إنَّ بعض الطَّوائف المسيحيَّة ذهبت إلى إيجاب تعدُّد الزَّوجات في سنة (1531م) عندما نادى اللاَّمعمدانيون في (مونستر) صراحةً بأنَّ المسيحي ينبغي أن تكون له عدَّة زوجات[انظر: المرأة في القرآن الكريم (ص132).].
وهذا ما أشار إليه (جرجي زيدان) بقوله: «ليس في النَّصرانية نَصٌّ صريح يمنع أتباعها من التَّزوُّج بامرأتين فأكثر، ولو شاءوا لكان تعدُّد الزَّوجات جائزاً عندهم، ولكن رؤساءها القدماء وجدوا الاكتفاء بزوجة واحدة أقرب لحفظ نظام العائلة واتِّحادها - وكان ذلك شائعاً في الدَّولة الرُّومانية - فلم يُعجزهم تأويل آيات الزَّواج حتى صار التَّزوُّج بأكثر من امرأةٍ حراماً كما هو مشهور»[المصدر السابق (ص62).].
وممَّا ذُكِرَ يتَّضح أنَّ الأقدمين من نصارى أوروبا إنَّما ساروا على نظامِ الزَّوجة الواحدة؛ لأنَّ معظم الأُمم التي انتشرت فيها الدِّيانة النَّصرانية من أهل أوروبا الوثنيَّة أوَّل الأمر - وهي شعوب اليونان والرُّومان - كانت تقاليدها تمنع تعدُّد الزَّوجات، وقد سار أهلُها بعد اعتناقهم النصرانية على ما وجدوا عليه آباءهم من قبل، فكلُّ ما في الأمر أنَّ النُّظُم الكَنَسيَّة المُسْتَحدثة بعد ذلك قد استقرَّت على تحريم تعدُّد الزَّوجات، واعتبرت هذا التحريم من مفاهيم الدِّين، على الرَّغم من أنَّ أسفار الإنجيل نفسَها لم يَرِد فيها ما يدلُّ على هذا التحريم، وكانوا بذلك مقلِّدين لِمَنْ سبقهم، فغلَّبوا التَّقليد على التَّشريع[انظر: تصحيح بعض المفاهيم المغلوطة في المرأة من وجهة نظر إسلامية، محمد حسني أحمد أبو ملحم (ص37)].
والنَّصرانية المعاصرة عندما اصطدمت بتقاليدَ أُخرى، مغايرةٍ لما استقرُّوا عليه من قبل؛ من تحريمهم التعدُّد، حيث وجدوا الأفارقة يُعدِّدون بلا قيدٍ أو حدٍّ، فقد اضطرت إلى الاعتراف بتعدُّد الزَّوجات في أفريقيا - كما تقدَّم ذكره - عندما رأوا أنَّ الإصرار على منع التعدُّد يحول بين الأفارقة وبين اعتناقهم للنَّصرانية، فنادوا بضرورة السَّماح للأفارقة بالتعدُّد إلى غير حدٍّ.
يقول (نورجيه) معترفاً بهذه الحقيقة: «فقد كان هؤلاء المُرْسَلون يقولون: إنَّه ليس من السِّياسة أن نتدخل في شؤون الوثنيِّين الاجتماعية التي وَجَدْناهم عليها، وليس من الكياسة أنْ نُحَرِّمَ عليهم التَّمتُّع بأزواجهم ما داموا نصارى يدينون بدين المسيح، بل لا ضرر من ذلك ما دامت التوراة، وهي الكتاب الذي يجب على المسيحيين أن يجعلوه أساس دينهم؛ تُبيح هذا التعدُّد، فضلاً عن أنَّ المسيح قد أقرَّ بذلك في قوله: لا تظنُّوا أنِّي جئتُ لأهدم بل لأُتمِّم»[الإسلام والنصرانية في أواسط أفريقية (ص132-133)].
«وهكذا يُحلُّونه عاماً ويُحرِّمونه عاماً تَبَعاً لتقاليد الشُّعوب التي ينشرون فيها دينَهم، ففي الوثنيَّة الأوروبيَّة القديمة وجدوا شعوبَها يحرِّمون تعدُّد الزوجات فَحرَّموه، وفي الوثنيَّة الأفريقيَّة المُعاصرة وجدوا أهلَها على نظام التعدُّد فأباحوه، وسيظلُّون هكذا ما بين تحريمٍ وإباحةٍ يُحلُّون لِمَنْ يشاءون ويُحرِّمون على مَنْ يشاءون، ولن يَجِدَ الباطلُ مستقراً، وبهذا يتأكَّد لكلِّ ذي عقلٍ أنَّه لا علاقة إطلاقاً للدِّين المسيحي بتحريم تعدُّد الزوجات، بل إنَّه يُبيحه تبعاً لأصله، وهو التَّوراة» [دحض الشبهات الواردة على تعدد الزوجات في الإسلام، عبد التواب هيكل (ص289)].
ولو تَرَكَ أتباعُ الكنيسة الأمر على عهوده الأُولى لكان التَّعدُّد جائزاً عندهم، لكن الكنيسةَ - خضوعاً لمؤثِّرات أجنبيَّةٍ بعيدةٍ عن تعاليم المسيحية ذاتِها - هي التي ابتدعت القول بمنع تعدُّد الزَّوجات، وأخَذَ رؤساؤهم الدِّينيُّون يُأَوِّلون آيات الزَّواج - كما أَوَّلوا غيرَها - حتى أصبحَ التَّزوُّج بأكثر من واحدةٍ حراماً عندهم كما هو معروف.
الحقيقة الثالثة:
لا ارتباط بين نظام التَّعدُّد وبين التَّأَخُّر الحضاري:أجمعَ علماءُ الاجتماع، ومؤرِّخو الحضارات، وعلى رأسهم: (وستر مارك، وهوبهوس، وهيلير، وجنربرج) على أنَّ نظام التَّعدُّد لم يَبْدُ بصورة واضحة إلاَّ في الشُّعوب المُتقدِّمة حضارياً، على حين أنَّ نظام وحدة الزَّوجة كان سائداً في أكثر الشُّعوب تأخُّراً وبدائيَّة، وهي الشُّعوب التي تعيش على الصَّيد أو جمع الثِّمار، والزِّراعة البدائيَّة[انظر: حقوق الإنسان (ص123)].
ويرى كثيرٌ من علماء الاجتماع، ومؤرِّخو الحضارات «أنَّ نظام تعدُّد الزَّوجات سيتَّسع نطاقه حتماً ويكثر عدد الشُّعوب الآخذة به كلَّما تقدَّمت المدنيَّة واتَّسع نطاق الحضارة؛ وسواء صحَّت هذه النُّبوءة أم لم تَصِحَّ، فإنَّ الذي يهمُّنا أن نُقرِّره هو أنَّ الواقع التَّاريخي يؤكِّد أنَّ أكثر الشُّعوب حضارةً وأرقاها مدنيةً هُم الذين انتشر فيهم نظام تعدُّد الزَّوجات، وأنَّ الشُّعوب البدائيَّة هي التي كانت تسير على نظام الوِحدة الزَّوجية.
فانظروا - إخوتي الكرام - كيف ربطوا تعدُّد الزَّوجات بالمجتمع البدائي، واعتبروا تعدُّدَ الخَلِيلات من مظاهر الحضارة؟»[المصدر السابق (ص290-291)].
الحقيقة الرَّابعة:
الإسلام وَجَدَ التَّعدُّد مُطْلَقاً، فَهَذَّبَه وقَيَّده .لم يبتدع الإسلامُ التَّعدُّدَ، وإنما جاء فوَجَدَه منتشراً وشائعاً في كلِّ شرائع العالم وشعوبه تقريباً؛ دِينيِّها ووَثَنِيِّها كما أسلفنا، ولم يكن له حَدٌّ، ولا نظام، فهو مطلقٌ من جميع القيود والشُّروط، فلمَّا جاء الإسلام هذَّبه وقيَّده كمّاً وكيفاً.
قال ابنُ عاشور - رحمه الله - عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا ﴾ [النساء: 3]: «والآيةُ ليست هي المُثبتة لمشروعيَّة النِّكاح؛ لأنَّ الأمر فيها مُعَلَّق على حالة الخوف من الجَوْر في اليتامى، فالظَّاهر أنَّ الأمر فيها للإرشاد، وأنَّ النِّكاح شُرِعَ بالتَّقرير للإباحة الأصليَّة لما عليه الناس قبل الإسلام، مع إبطال ما لا يرضاه الدِّين كالزِّيادة على الأربع، وكنكاحِ المقت، والمُحَرَّماتِ من الرَّضاعة، والأمرِ بأن لا يُخْلوه عن الصَّداق، ونحوِ ذلك»[التحرير والتنوير، لابن عاشور (4/ 16-17)].
وقال أيضاً: «ولم يكن في الشَّرائع السَّالفة ولا في الجاهلية حدٌّ للزَّوجات، ولم يثبت أنْ جاء عيسى عليه السلام بتحديدٍ للتَّزوُّج، وإنْ كان ذلك توهَّمَه بعضُ علمائنا مثل القرافي، ولا أحسبه صحيحاً، والإسلام هو الذي جاء بالتَّحديد، فأَمَّا أصل التَّحديد فحكمته ظاهرة؛ من حيث إنَّ العدل لا يستطيعه كلُّ أحد، وإذا لم يقم تعدُّدُ الزَّوجات على العدل بينهنَّ اختلَّ نظام العائلة، وحدثت الفتن فيها، ونشأ عقوق الزَّوجات أزواجهنَّ، وعقوق الأبناء آباءهم بأذاهم في زوجاتهم وفي أبنائهم، فلا جرمَ أنْ كان الأذى في التَّعدُّد لمصلحةٍ يجب أن تكون مضبوطةً غيرَ عائدةٍ على الأصل بالإبطال».
إذاً بعد ما جاء الإسلامُ ووَجَدَ اليهودَ والعربَ وغيرَهم يمارس التَّعدُّد على أوسع نطاق، دون التَّقيُّد بأيِّ اعتبار، على حدِّ قول الطَّبري - رحمه الله: «كان الرَّجل في الجاهلية يتزوَّج العَشْرَ من النساء والأكثرَ والأقلَّ».
فكان لا بدَّ من إرشاد الإسلامِ لعلاج هذه الظَّاهرة الاجتماعيَّة التي وصلت إلى حدِّ الفوضى بين الناس، وأصبحَ لا دافع من ورائها إلاَّ التلذُّذ الحيواني، والتنقُّل بين الزَّوجات كما يتنقَّل الخليل بين الخليلات، فما كان للإسلام - وهو الشَّريعة الإلهيَّة الحكيمة التي تُقدِّر مصالح العباد وترشدهم إلى طريق السعادة في الدُّنيا والآخرة - أن يَدَعَ نظامَ تعدُّد الزَّوجات هكذا فوضى بدون تهذيبٍ أو إصلاح، فأحاطه بقيودٍ وشروطٍ تجعل نفعَه أقربَ من ضرِّه، وخيرَه أكثرَ من شرِّه، وسلَكَ به طريقاً وسطاً - كشأنه في جميع تعاليمه وأحكامه - فأصلحه ونَظَّمَه وهذَّبَه على النَّحو التَّالي:
- أوَّلاً: قيَّده كمّاً: فجعل أقصاه أربعَ زوجاتٍ، لا يجوز ولا يصحُّ تجاوزهنَّ، فأعظِمْ به من قيدٍ هَدَى النَّاس إلى الطَّريق السَّوي، بعد أن كان مُطلقاً دون حدٍّ، ومتروكاً للهوى دون ضابط، قال تعالى: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا ﴾ [النساء: 3].
أيها الأحبة... وعلى أثر هذه الآية الكريمة - التي أنصفت النِّساء من الرِّجال - قام النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يأمر مَنْ كان معه أكثر من أربع زوجات؛ أنْ يُمْسِكَ منهنَّ أربعاً، ويُسَرِّحَ الباقي؛ كما جاء في حديث قَيْسِ بْنِ الحَارِثِ، قَالَ: أَسْلَمْتُ وَعِنْدِي ثَمَانُ نِسْوَةٍ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعاً». - ثانياً: قيَّده كيفاً: فشدَّد فيه على العدل بين الزَّوجات في المعيشة والمعاملة، وفي النَّفقة والمباشرة، والقيام بأعباء الزوجية كاملة، وفي كلِّ ما يمكن تحقيق العدل فيه، ويدخل تحت طاقة الإنسان وإرادته، بحيث لا تُبْخَس زوجةٌ حقَّها، ولا تُؤثر واحدة دون الأُخرى بشيءٍ، فقال تعالى: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا ﴾ [النساء: 3].
وأمَّا فيما يتعلق بمشاعر القلوب وأحاسيس النُّفوس، فذلك خارج عن إرادة الإنسان واستطاعته، وهو غير مُطالَبٍ بالعدل فيه؛ لأنَّه لا يملكه، وإلى هذا المعنى جاءت الإشارة في قول الله تعالى: ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ﴾ [النساء: 129].
وقد كان النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يعدل بين نسائه كأرفع وأنبل ما يكون، ولا يلحقه في هذا العدل أحد؛ فضلاً أن يُدركَه.
وبعد، فإنَّ هذه الحقائق التاريخيَّة تَضَعُ الأُمورَ في نصابها بالنِّسبة لمسيرة التَّعدُّد في هذه الدُّنيا منذ الأجيال الغابرة إلى يومنا هذا، وبذلك تسقط الحملة الآثمة الكاذبة التي يشنُّها أعداء الإسلام من المستشرقين، وأذنابهم من بني جلدتنا الذين يتكلَّمون بألسنتنا ويكيلون المؤامرات على الإسلام وتشريعاته، ولا سيَّما في قضيَّة التعدُّد؛ زاعمين - كذباً وبهتاناً - أنَّ الإسلام هو الذي شرع التعدُّد وحده من بين الأديان، وهو نظام مرتبط بالتَّأخُّر الحضاري، وأنَّ المسيحيَّة تُحَرِّمه، ولها الفضل في نشر نظام الوِحدة الزوجيَّة في الشُّعوب المسيحيَّة، إلى آخر هذه المفتريات المكشوفة المفضوحة، وبئس ما يظنُّون.
العدوان على تعدد الزوجات
الحمد لله ... من أكثر القضايا التي استُغِلَّت استغلالاً بشعاً في مختلف وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئيَّة للطَعن في الشريعة الإسلاميَّة واتِّهامها بظلم المرأة، والانحياز الكامل للرَّجل - قضيَّة تعدُّد الزوجات، والذي يتابع ويرصد مستوى الهجوم على الشريعة في قضيَّة تعدُّد الزوجات يظنُّ أنَّ الرَّجل المسلم لا هَمَّ له في الحياة إلاَّ أن يجمع بين أربع زوجات، ويستمتع بهنَّ، وكأنَّ تعدُّد الزوجات هو ذروة سنام الإسلام، وأنَّ الرَّجل إن لم يُطَبِّقه قد انتقص من إيمانه ودينه بقدر تقصيره في تعدُّد الزوجات!ولعلَّ ما كتبه العديد من الغربيين والمستشرقين دليلٌ كافٍ على الهجوم الشَّرس على قضيَّة تعدُّد الزَّوجات في الإسلام، بل إنَّ (غوستاف لوبون) يرى أنَّ مبدأ تعدُّد الزوجات في الإسلام كان أكثر المداخل التي حاول من خلالها الأوروبيُّون انتقاص الإسلام والنَّيل منه، حيث يقول: «ولا نعلم نظاماً أنحى الأوروبيُّون عليه باللاَّئمة كمبدأ تعدُّد الزَّوجات... فيرى أكثر مؤرِّخي أوروبا اتِّزاناً أنَّ مبدأ تعدُّد الزَّوجات حَجَر الزَّاوية في الإسلام، وأنَّه سبب انتشار القرآن، وأنَّه علَّه انحطاط الشرقيين...»
ومن أمثلة هؤلاء المُجحفين الذين استغلُّوا مسألة التعدُّد للتَّنديد بالإسلام والتشهير به المستشرق الفرنسي (كارا دي فو)؛ حيث قال: «هَضَمَ الإسلامُ حقَّ المرأة، حيث أعطاها نصفَ نصيب الرَّجل في الميراث، وجعل الرَّجل يتزوَّج بأكثر من واحدةٍ إلى أربع...».
وقد اتَّخذ الهجوم المعاصر على التَّعدُّد شكلاً جماعياً ومؤسَّسيّاً، على المستويين: الرَّسمي وغير الرَّسمي، فما زالت المؤتمرات العالميَّة تحت إشراف الأُمم المتَّحدة تُعقد؛ لمكافحة مشروعيَّة تعدُّد الزَّوجات، ومنعه منعاً باتاً؛ انتصاراً للمرأة المظلومة؛ زعموا! ومن جرَّاء ذلك أُسِّست جمعيَّات نِسويَّة متحرِّرة تُطالب بمنع التعدُّد، وترى أنَّ تعدُّد الزَّوجات إهانةٌ واحتقارٌ للمرأة.
وقد تأثَّر العديد من أبناء المسلمين بهذه الصَّيحات، وتلك الدَّعاوى والافتراءات، فأصبحوا أبواقاً للغربيين، يتحدَّثون بلسانهم وينطقون بمنطقهم، حيث «هيَّأت ظروفٌ وأوضاعٌ مُتعدِّدة في المجتمعات الإسلاميَّة في عصورها الأخيرة مجالاً خصباً لازدهار هذه الثِّمار التي غَرست بذورَها كلماتُ المبشِّرين وصنائعُهُم من بين مواطنينا، ووَجَدت هذه البذور الأرضَ المهيَّأة في ظلِّ أوضاع معظم المجتمعات الإسلاميَّة البعيدة عن فهم تشريعها الإسلامي بصورة سليمة متكاملة، والواقعة نهباً لكلِّ فكرة غَرِيبة، مهما بلغ شذوذها وبُعدها عن تحقيق المصلحة الدُنيوية أو الدِّينيَّة لنا»[مكانة المرأة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة (ص155).].
ومن أمثلة هؤلاء الذين تأثَّروا بالفكر الغربيِّ، فشنَّ حملةً شعواءَ على نظام التعدُّد (قاسم أمين)، حيث يقول: «إنَّ في تعدُّد الزوجات احتقاراً شديداً للمرأة؛ لأنك لا تجد امرأةً ترضى أنْ تُشاركها في زوجها امرأةٌ أخرى، كما أنَّك لا تجد رجلاً يَقبل أنْ يُشاركه غيره في محبَّة امرأته، وهذا النَّوع من حبِّ الاختصاص طبيعيٌّ للمرأة، كما أنَّه طبيعيٌّ للرَّجل!».
ولم يصل الأمر عند حدِّ تأثُّر بعض أبناء المسلمين بتلك الدَّعاوى فحسب، وإنما تعدَّى الحدود، وتجاوز الخطوط؛ ليصل إلى مجال التَّقنين والتشريع في بعض البلاد الإسلاميَّة، فحَرَّمت ما أحلَّه الله تعالى بنصِّ القرآن الكريم، ووَضَعَتْ قيوداً وشروطاً قاسية لمَنْ أراد التعدُّد، هي بمثابة الآصار والأغلال تُطَوَّق بها أعناق المعدِّدين من الرِّجال، وتوثق بها أيديهم وأرجلهم؛ كي يمتنعوا عن التعدُّد، جزاءً لهم وردعاً لأمثالهم:
ففي تونس - وهي أكثر الدُّول تأثُّراً بفكرة عدم التَّعدُّد - تنصُّ المادَّة "18" من مجلة الأحوال الشخصية التُّونسية على: أنَّ تعدُّد الزَّوجات ممنوع، وأنَّ التزوُّج بأكثر من واحدة يستوجب عقاباً بالسِّجن مدَّة عام، وغرامة مالية.
وقيَّد القانون المغربي التعدُّد بإذن القاضي، واشتَرَط إخبارَ الزَّوجة الأُولى وموافقتَها على ذلك.
وفي القانون المصري ورد النَّص على: أنَّه لا يأذن القاضي بالتعدُّد إلاَّ بعدَ تأكُّده من قُدرة الزَّوج على القيام بحسن العشرة، والإنفاق على مَنْ في عصمته، وعلى مَنْ تجب نفقتهم عليه من أُصوله وفروعه، وأعطى للزَّوجة الأُولى حقَّ طلب فسخ عقد الزَّواج إذا تزوَّج بغير رضاها، كما أعطى للزَّوجة الثانية حقَّ طلب الطَّلاق إذا لم تكن على علمٍ بزواجه من قبل.
وقيَّد القانون السُّوري التعدُّد بالقدرة على الإنفاق، وشَرَط القانون العراقي إذن القاضي للتعدُّد بقدرةِ الزَّوج الماليَّة من جهة، ووجودِ مصلحةٍ مشروعة لزواجه الثَّاني من جهةٍ أُخرى.
وتجدر بنا الإشارة إلى أنَّنا لسنا ضدَّ تقنين الأُمور وضبطها بما لا يتعارض مع النُّصوص الشرعية، فهو أمر محمود تتحقَّق من خلاله المصالح العامَّة للناس، ولكن هناك فرق بين أن نضع ضوابطَ وشروطاً؛ لمصلحة الناس وحِفْظِ حقوقهم، وندرأ عنهم بعض المفاسد المتوقَّعة، وبين أن نضع أمامهم العراقيل والصُّعوبات الكثيرة، والتي من شأنها أن تُعارض نصوص الشَّريعة، فتُحَرِّم ما أحلّه الله، أو على الأقل تَحُول دون تحقيقه وتطبيقه، مع ما فيه من مصلحة كبيرة للبلاد والعباد.
الخطبة الثانية
الحمد لله... عباد الله.. في الوقت الذي يُثير فيه أعداءُ الإسلام الشُّبهات التي لا تحصى حول تعدُّد الزَّوجات؛ نجد أنَّ الدِّراسات الإحصائيَّة تدلُّ على أنَّ التعدُّد بين المسلمين يعتبر في حُكم النَّادر، وأنَّ مُعَدِّدي الزوجات قلَّةٌ في المجتمع الإسلامي؛ وذلك لارتفاع النَّفقات وتكاليف المعيشة، وما يترتب على التعدُّد من صعوبات اجتماعيَّة وموروثات ثقافيَّة؛ أفرزت مشاكل أُسَريَّة وخلافات مُستمرَّة، وقبل ذلك عدم إدراك المقاصد الشرعيَّة، والمصالح التي تعود على الفرد والمجتمع جرَّاء هذا التعدُّد؛ كلُّ ذلك جعل الرِّجال يُحجمون عنه، بل ويُعتبر في حُكم الشَّاذ والخارج عن المألوف مَنْ يُعدِّد في هذا العصر!فالتعدُّد ليس مُنتشراً بصورة تُزعج النِّساء المتزوِّجات سَلَفاً، وتُقْلِق المستشرقين والمتربِّصين بالإسلام الدَّوائر، ونسبته - في واقعنا المعاصر - لا تتعدَّى (5%) في معظم بلاد المسلمين، فهل هذه النِّسبة الضَّئيلة تجعل هؤلاء يُهاجمون الإسلام وينتقدونه بالباطل؟
وفي الوقت نفسه لم نسمع لهم صوتاً لما ينتشر في بعض بلاد المسلمين وغير المسلمين من عادات الغرب القبيحة فسقاً وفجوراً، واتِّخاذاً للخليلات وبذلاً للأعراض بأبخس الأثمان، فأيُّ المَسْلَكين أَوْلى بحملات التَّنديد والاستنكار؟
وهذا يدفعنا إلى القول بأنَّ: الهجوم على تعدُّد الزَّوجات في الإسلام، وعلى غيره من مبادئ الإسلام السَّامية وتشريعاته الرَّاقية؛ ليس في حقيقته إلاَّ حقدٌ دفينٌ وبُغْضٌ مقيت للإسلام وأهله، والمحرِّك الرَّئيس لهذا الحقد وتلك البغضاء هو الصَّليبية العالميَّة التي عادت من جديد، بل إنَّها لم تنزوي كي تعود، فهي كانت ولا تزال مستمرَّة منذ استطاع الإسلام القضاءَ على الإمبراطوريَّة الرومانية، والقضاء على آمالها الاستعماريَّة في الشَّرق والغرب، وكذلك ما غرسته القُوى الإمبرياليَّة الاستعماريَّة في نفوس أتباعها من كراهيةٍ للإسلام وأهله لتحقيق مصالحها الماديَّة، وقبل هذا وبعده، الحركة الصَّهيونية العالميَّة التي تكيد للإسلام وأهله؛ فمنذ أنْ وطأت قدمُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وحقدهم الشَّديد على الإسلام ونبيِّ الإسلام؛ جعلهم لا يفتؤون ليل نهار يدبِّرون المؤامرات للقضاء عليه، وهيهات هيهات أن ينالوا ما يريدون.
لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100