إمام أهل السنة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا صَلّوا عَلَيهِ وَسَلِّموا تَسليمًا﴾ [الأحزاب: ٥٦]
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد ، ما تعاقب الليل والنهار وعلى آله وأصحابه الطيبين الأطهار ، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم القرار أما بعد فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
أحبتي الكرام هذه ليلة الثلاثاء ، الثالث والعشرين من شهر جمادى الأولى من سنه ألف وأربعمائة وثلاثة عشر للهجرة وهذا المجلس المبارك في الجامع الكبير بمدينة عفيف ..
وموضوع حديثي إليكم الليلة – كما سمعتم وقرأتم – إمام أهل السنة وما من قارئ إلا ويعرف من هو إمام أهل السنة ! إنه أحمد بن حنبل – بلا منازع - فإذا أطلقت هذه الكلمة قصد بها أحمد بن حنبل الذي – اللواء . وإنني علم الله أتقال نفسي أن أتكلم عن رجل كهذا الإمام الأشم الفخم المعظم الذي هو ولي من أولياء الله ، وإمام من أئمة الدين ، وحافظ من حفاظ السنة ، وهو إمام في فنون كثيرة .
إن هناك سؤالا يطرح نفسه : لماذا نتكلم عن هؤلاء الرجال ؟ ! ليس فقط الإمام أحمد لقد تكلمت قبل سنوات عن العز بن عبد السلام الإمام الجهبذ المجاهد الصابر الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر , الذي ضاقت به بلاده بلاد الشام فهاجر إلى مصر فضاقت به ، فهم بالخروج منها , كل ذلك في سبيل الله , ولكن الله تعالى كتب له حسن العاقبة .
وتكلمت عن سلطان آخر من سلاطين العلماء ، وهو المنذر بن سعيد البلوطي إمام من أئمة الأندلس الذي كان إماما أيضا في العلم والدعوة و الصبر والجهاد .
وتكلمت عن إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رحمة الله تعالى الذي ذهب أكثر أهل العلم إلى أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ينصرف إليه : " يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل فلا يجدوا عالما أعلم من عالم المدينة " إنه الإمام مالك بن أنس فحسب . وها أنا اليوم أتحدث عن أحمد بن حنبل ، وفي نيتي إن شاء الله تعالى أن أعقد مجلسا فيما يقبل من الأيام إن وفق الله وأعان للإمام الشافعي , الإمام الفقيه الأصولي المحدث اللغوي الشاعر الفذ ، العابد الورع ، التقي النقي . إذا لا بد أن نتساءل : لماذا نتحدث عن هؤلاء ؟
أولا : عند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة ، فإن ذكرهم ذكر للعلم الذي يحملون ، والمذهب الذي ينتحلون ، والدين الذي إليه يدعون ، والسنة التي بها يعملون . فما ذكروا لأنهم من العرب مثلا ، وما ذكروا لأنهم أثرياء يملكون من المال والفرش و الريال ، وما ذكروا لأنهم من أهل السلطان والمراسيم . لا , إنما ذكروا لأنهم من أهل الله تعالى الذين إذا ذكروا ذكر الله تعالى ، وإذا أ ثني عليهم أثني على الدين ، وإذا أحبوا فبحب الله تعالى أحبوا.
ثانيا : إن العبد في هذا الطريق الطويل يحتاج إلى الأسوة ، والقدوة , ولا شك أن الأسوة العظمى إنما تكون برسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم ﴿لَقَد كانَ لَكُم في رَسولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كانَ يَرجُو اللَّهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثيرًا﴾ [الأحزاب: ٢١] فهو صلى الله عليه وسلم الكامل في خصاله وخلاله , الذي أنعم الله تعالى عليه بأن بوأه هذا المقعد الكريم ، فهو أسوة لكل متأس وقدوة لكل مقتد .
فيجد الأب في تربية أبنائه أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم في معاملته لولده ، ويجد الزوج في معاملته لزوجته أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم مع أ أهله المعلم والشيخ مع طلابه أسوه برسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ، ويجد المجاهد معه ، في سراياه ومغازيه السلاء والعزاء ، ويجد كل إنسان في سيرته صلى الله عليه وسلم أعظم الأسوة والقدوة فهو المعلم الكبير . وكل من ذكرنا ولم نذكر فإنما اقتبسوا شيئا من هديه ونور من نوره وكلهم من رسول الله مقتبسا غرفا من البحر أو رشفا من الديم .
إنهم بعض حسناته صلى الله عليه وسلم وشيئا من آثاره وفيضا من دينه وشرعه وسنته , فما الإمام أحمد والشافعي ومالك وأبو حنيفة وغيرهم من أئمة الفقه ، والحديث والجهاد والدعوة إلا بعض آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إذا فلماذا لا نكتفي بسيرة النبي الأول ، المعلم الأكبر ، محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قد يقول بعض الناس هذا نبي مصطفى مختار مجتبى يأتيه خبر السماء بكرة وعشيا فما لنا وله ؟ فإنه المؤيد بجبريل , المكرم ب التنزيل , فأما نحن فالبشر الخطاة الجناة . فإذا عرضنا لبعض أتباعه وبعض الأئمة فإننا نقول للناس ها هي قدوات أخرى نسجت على منوال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فأفلحت ونجحت وهؤلاء بشر من البشر لا ينـزل عليهم وحي ولا يأتيهم جبريل يصبحهم ويمسيهم , وإنما هم بشر كالناس في بلا دهم ومعايشهم وأنسابهم ووفاتهم وأعمالهم . ولكنهم قبسوا من هذا الهدي وتمسكوا بهذا الصراط , فكان منهم من بديع الأفعال والأقوال ما ترون وتسمعون .
كل نحل الدنيا وكل ملل الأرض تدعي أنها تقدم للناس الهدي الصحيح .
فالنصارى مثلا يدعون أنهم أهل الخلق الفاضل والمسلك النبيل والدين الصحيح ويقولون نحن أهل الصبر وأهل العفو وأهل الحلم ، ويزعمون أن عيسى عليه السلام كان يقول لهم : من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ، ومن أخذ منك الرداء فأعطه القميص أيضا . يزعمون هذا ولهذا ينادون بالسلام وحقوق الانسان . أما اليهود فإن نظريتهم العرقية تقوم على أساس أنهم هم شعب الله المختار . وهؤلاء وأولئك كما قال الله عز وجل : ﴿وَقالَتِ اليَهودُ وَالنَّصارى نَحنُ أَبناءُ اللَّهِ وَأَحِبّاؤُهُ قُل فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنوبِكُم بَل أَنتُم بَشَرٌ مِمَّن خَلَقَ يَغفِرُ لِمَن يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلكُ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَما بَينَهُما وَإِلَيهِ المَصيرُ﴾ [المائدة: ١٨]
أما الشيوعية فقد قامت على أساس منابذة الفطرة ومناقضة الدين ومحاربة الله ورسوله . وصاح صائحها يقول : " لا إله والحياة مادة " وكذبوا وكفروا .. فإذا بها تتهاوى بحمد الله , وما بين ميلادها ووفاتها عمر أقل من عمر الإنسان . وكانت تنادي بالحرية وتنادي بالمساواة وتنادي بالعدالة وتنادي بحقوق الإنسان .
ولكن الشيوعيين ومن قبلهم اليهود والنصارى قالوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم , ولو أنموذج واحد منهم لم تجد , فأين تجد المثل الصحيح للشيوعيين وهم الذين تبين أنهم في الوقت الذي ينادون فيه ويطالبون بتعميم الثروة وبالعدالة أن زعمائهم وحكامهم كانوا يحتكرون الأموال لأنفسهم ، ويبنون القصور الفخمة في البحار ويعيشون في رغد العيش ويأخذون أقوات الفقراء ليشبعوا هم ومن يلوذ بهم !!
أما اليهود فإنهم في الوقت الذي زعموا أنهم شعب الله المختار كانوا من أكفر الناس , فنسبوا إلى الله تعالى الكذب والزور وتجرأوا على الله تعالى وعلى رسله ، ورموهم بما هم براء ، ثم اعتدوا على حقوق الخلق فظلموا وسفكوا الدم الحرام وأخذوا المال الحرام واستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل !!
وأما النصارى فإنهم قوم كذب وزور ففي الوقت الذي ينادون فيه بالسلام فإنهم هم أهل الحرب ، شنوها على المسلمين فنزفت دماء أهل التوحيد من سيوفهم وخناجرهم ورماحهم منذ وجد الإسلام وإلى يوم الناس هذا ، ومازال المسلمون يعانون منهم البلاء والشدة.
إذا كثيرون هم الذين يدعون الدعاوى الباطلة ويزعمون أنهم على حق ويكتبون في كتبهم وأنظمتهم وأساليب حكمهم وطرائق حياتهم أنهم ينادون بمكارم الأخلاق ومعاليها ويطالبون بالحريات ويرسمون المثل العليا , ولكن الواقع يكذب كل ما يقولون ، وفي نظم الدنيا كلها لو قرأت لوجدت العجب العجاب : إقرأ على سبيل المثال نظام العمل والعمال في أي دولة تجد أنه قد أعطى العامل حقوقا عظيمة في نفسه وفي عمله وفي راحته وفي إجازاته وفي سكنه وفي دراسته وفي تعليمه وفي تطبيبه وفي علاجه وفي خدمته وفي الترفيه عنه وفي كل شيء , فإذا أتيت إلى واقع هؤلاء العمال سواء في هذا البلد أو في كل بلد وجدته واقعا مريرا تشمئز منه النفوس .
إذا العبرة بالواقع لا بالمثال , وبالفعل لا بالقول , ومن قال لنا قولا قلنا له : صدق قولك بأفعالك .
وها نحن نؤكد أن شرائع الإسلام ومثله وقيمه وأحكامه لم تكن كتبا تتلى فحسب ولا أحكاما وتعليمات تتوارث في المدارس والمجالس , وإنما كانت نمط حياة وأسلوب معيشة ومدرسة يتربى عليها العلماء والدعاة في كل زمان ومكان وفي كل حين وأوان ويرثها اللاحق عن السابق .
إن الله تعالى جعل لهذا الدين وهذا العلم من كل خلف عدوله , ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، ويعيدون الناس إلى السنن الأول و الطريق المستقيم الذي كان عليه النبي الكريم عليه من ربه الصلاة والسلام .
فالشافعي ومالك وأحمد وأبو حنيفة وفلان وعلان كل هؤلاء نسخ مصغرة ومذكرات توضيحية تأكد للناس أن الإسلام دين عملي دين حياة وتطبيق وعمل وليس دينا نظريا موجود في الكتب والأوراق فحسب.
أحمد بن حنبل بن هلال الشيباني أبو عبد الله المروزي ثم البغدادي , خرجت به أمه حملا في بطنها من مرو ثم ولد ببغداد وبها نشأ ومات – رحمة الله تعالى - , كان ميلاده سنة 164 هـ ، وطاف البلاد لطلب العلم . دخل الكوفة والبصرة ومكة و المدينة واليمن والشام والجزيرة وغيرها . وهو عربي من بني ذهل بن شيبان ، ولكنه كما قال يحيي بن معين : ما افتخر علينا قط بالعربية ولا ذكرها .. بل قال عنه محمد بن الفضل : وضع أحمد عندي نفقته وكان يجيء في كل يوم فيأخذ منها شيئا , قال فقلت له يوما : يا أبا عبد الله بلغني أنك من العرب , فقال : يا أبا النعمان نحن قوم مساكين . قال : فلم يزل يدافعنى حتى خرج ولم يقل شيئا !! إن الإمام أحمد يعلم أن الفخر ليس بالعروبة , فمن العرب من د ست أنوفهم في العرب من هم حطب جهنم هم لها واردون ؛ أبو جهل وأبو لهب ما الرغام ، ومن نفعتهم عروبتهم .
الناس من جهة التمثال أكفاؤ أبوهم آدم والأم حواء فإن يكن لهم من أصلهم نسبا يفاخرون به فالطین والماء
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أذلاء
وقدر كل امرء ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء
لا يسأل الإنسان يوم القيامة قط : من أي قبيلة أنت ؟ ولا من أي فخذ أو بطن أنت ؟ ولا من أي بلد أنت ؟ إنما يسأل : ماذا أجبتم المرسلين ؟ ماذا كنتم تعملون ؟ فلم يكن الإمام أحمد يفتخر بعروبته ، ولا يلقى لها بالا.
طلب الحديث وهو ابن خمس عشرة سنة أو ست عشر سنة على الأكثر ، وما زال يطلب الحديث حتى مات , وقد رؤي على كبر سنه وفي يده دواة وكاغدا يكتب به وهو يركض بين الشيوخ , فقال له قائل : يا أحمد هذا على كبر سنك , ق ال : نعم , مع المحبرة إلى المقبرة . إن العلم لا يعرف الكلمة الأخيرة , والعالم مثل الذي يشرب من البحر لا يزداد بسعة علمه إلا عطشا ورغبه إلى العلم . حج رحمة الله خمس حجج منها ثلاث كان ماشيا على رجليه , وفي أحد هذه الحجج منذ ذهب وإلى أن رجع لم تزد نفقته على ثلاثين درهما ، قال الشافعي – رحمة الله تعالى - : خرجت من بغداد وما خلفت بها أفقه ولا أزهد ولا أورع ولا أعلم من أحمد بن حنبل .
وقال أيضا : أحمد بن حنبل إمام في ثمان مسائل إمام في الحديث وإمام في الفقه وإمام في اللغة وإمام في القرآن وإمام في الزهد وإمام في الفقر و إمام في الورع وإمام في السنة.
تسأل عن صفة أحمد ؟ ! كان بشرا من البشر ، في غاية التواضع . وكان حسن الصورة حسن الوجه ، ربعة بين الرجال ليس بالطويل ولا بالقصير وهو إلى الطول أميل , يخضب بالحناء وفي لحيته شعرات سود بعد كبره . كان أسمر شديد السمرة ، غليظ الثياب ، إلا أن ثيابه كانت بيضاء شديدة البياض .
قال العباس النحوي : رأيت الإمام أحمد وهو معتم وعليه إزار . يا سبحان الله ! كم ببغداد من رجل عليه عمامة وعليه إزار ؟ ! مائة ألف أو خمسمائة ألف أو ربما أكثر , لكن هذا الرجل ينقل لنا صورة رآها . لماذا ؟ لأن الله كتب لأحمد الخلود في الدنيا فصار الناس يذكرون حتى أدق التفاصيل عن حياته , حتى لقد نقل الناس عنه حتى الصمت !! " سئل أحمد عن كذا فسكت " , " سئل عن كذا فهز رأسه " , " سئل عن فلان فأشاح بوجه " , كل هذا ينقل عن أحمد وهناك غيره من أهل العلم من نسيت كتبهم ودرست معالمهم ولم يعد الناس يذكرونهم بشيء لأن الله تعالى لم يكتب لهم الخلود في هذه الدنيا فانقطع أثرهم وذكرهم . أما أحمد فقد كتب الله له الخلود لا لأنه من بني ذهل بن شيبان ، ولا لأنه من العرب ، ولا لأنه عاش في بغداد ، ولا لأنه اقترب من السلطان ، ولا لأنه ملك الأموال ، ولكن لأنه قام بأمر الله عز وجل في وقت عز فيه القائمون بأمر الله تعالى .
كان الإمام أحمد مهيبا إذا رآه الإنسان هابه وامتنع عن كثير مما يريد أن يقول ، حتى إن يزيد بن هارون كان إماما عالما محدثا صاحب نکته ودعابة فربما مزح فضحك الطلاب ، فلما علم بعد ذلك أن أحمد كان في مجلسه قال ألا أخبرتموني أن أحمد كان بيننا وغضب عليهم . وفي إحدى المرات قال كلمة فضحك الطلاب فتنحنح الإمام أحمد فلما نظر إليه خجل منه واستحى . قال عبدالملك الميموني عن الإمام أحمد : ما رأيت أنظف بدنا ولا أشد تعاهدا لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه ولا أنقى ثوبا بشدة بياض من أ أحمد بن حنبل , ولم يكن في ثيابه رقه تنكر ولا غلظة تنكر ، كان يحب التوسيط في الملابس وفي الحذاء وفي غيرها ، لا يحب ملابس العظماء والمستكبرين والأغنياء والأثرياء والمترفين ، وأيضا كان يبتعد عن الملابس التي يتميز بها الصوفية أو المتظاهرين بالزهد والفقر والورع ، لأنه لا يحب أن يتظاهر بشي من ذلك كما سوف يأتي بعد قليل .
مات الإمام أحمد سنه 241 هـ وكان عمره سبع وسبعين سنة . – هذا الكلام قد يقال عند كل إنسان فما من عالم إلا وقد يقال عنه مثل هذا ، لكن الشأن فيما بقى من سيرة الإمام أحمد رحمه الله
لا يذكر الإمام أحمد إلا وتذكر معه الفتنه التي لقيها !!
قال علي بن المديني : " ما قام أحد في الإسلام بمثل ما قام به أحمد بن حنبل " . قال الميموني – وكان حاضرا - : تعجبت من قول علي بن المديني هذا عجبا شديدا وقلت له أبو بكر رضي الله عنه قام بما قام به وجاهد في الله وصبر وصابر وحارب المرتدين فكيف يقول علي بن المديني ما قام أحد في الإسلام بمثل ما قام به أحمد بن حنبل ! قال الميموني : فلقيت أبا عبيد القاسم بن سلام فقلت له ذلك ، فقال : إذا يخصمك علي بن المديني ، قلت : بأي شي هذا . قال : إن أبا بكر رضي الله عنه قد وجد على الحق أنصارا " وأعوانا " أما الإمام أحمد فإنه لم يجد على الحق ناصرا ولا معينا . ثم أقبل أبو عبيد يطري الإمام أحمد ويثني عليه ويقول لست أعلم في الإسلام مثله .. نعم , لم يكن أحمد بن حنبل في وقته إلا إماما فريدا قام بأمر ما قام به غيره ، ولا يعني هذا نسيان فضيلة أبي بكر رضى الله في محاربة المرتدين وفي جهادهم وفي الصبر وفي إحياء الدين يوم كاد أن يندرس في جزيرة العرب . وإنما كان الإمام أحمد على منوال أبي بكر ينسج وبهديه يهتدي . وقال بشر بن الحارث وقد سئل عن الإمام أحمد بن حنبل فقال : أنا أسأل عن الإمام أحمد ؟ ! إن أحمد بن حنبل أدخل في الكيـر فخرج ذهبا أحمر ، أ دخل في المحنة ، أ حرق فصبر وصابر حتى خرج ذهبا خالصا نقيا وزال منه كل غش فيه لعشرين سنة . وقال عبد الوهاب الوراق : عشرين سنة والإمام أحمد يتقلب في نيران المحنة حتى خرج منها كما خرج إبراهيم من نار النمرود { قلنا يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم } .
خذوا إيمان إبراهیم تنبت لكم في النار جنات النعيم
ضرب الإمام أحمد وحبس في عهد المأمون ، وسجنه في آخر أيامه , ولكن مات المأمون قبل أن يصل إليه الإمام أحمد وكان قد أ شخص إليه . وقيل إن موته بدعوة من الإمام أحمد , فإن بعض حاشية المأمون خاف على الإمام أحمد وحملته الغيرة فجاء متسللا إلى الإمام أحمد وهو يمسح دمعه بطرف ردائه وقال له : يا إمام إن المأمون قد سل سيفا ما سله قط وإنه يحلف ب الله تعالى إن لم تجبه لما أراد من القول بخلق القرآن ليقطعنك إربا إربا ، فرفع الإمام أحمد يديه إلى الله تعالى ودعا على المأمون فمات من ليلته , فما جاء السحر إلا وقد ارتفعت الأ صوات وأوقدت النيران ونعي المأمون إلى الناس .
وفي ذلك درس وعبرة .
إن هذا الرجل من الحاشية هو كمؤمن آل فرعون ، يغار على الإمام أحمد ويحبه ولكنه لا يستطيع أن يصنع شيئا كثيرا . هو من حاشية الخليفة ومن أعوانه ومن المقربين منه وربما جامله بعض الشيء ، ولكنه أسر إلى الإمام أحمد بهذا الخبر , وهكذا يكون المؤمن الصابر الذي قلبه مع أهل الخير وأهل الإيمان وأهل التقوى , إن لم يستطع أن ينفعهم علانية نفعهم سرا ولو بالنصيحة بينه وبينهم أو بالموافاة ..
بما يكاد لهم { إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين } . ولما حمل الإمام أحمد للمأمون سأله رجل عن حديث وقال : يا إ مام ما تقول في حديث كذا وكذا ؟ والإمام أحمد مثقل بالحديد في رجليه و القيود في يديه فالتفت إليه الإمام أحمد وتبسم وهو يقول ويتمثل.
بقول الشاعر:
رويدك حتى تنظري عما تنجلي عماية هذا العارض المتألق
أي انتظر حتى ينجلي هذا الأمر . نعم لقد انجلى هذا الأمر عن طيب معدن الإمام أحمد وصلاحه وأنه ممن خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوى ، وآثر الحياة الآ خرة على الدنيا فجعل الله تعالى له الدنيا والآخرة .
مات المأمون وجاء المعتصم , وكان جاهلا " لا يعرف شيئا " ولكنه مشى على سنن من كان قبله ووجد الإمام أحمد محبوسا فزاد في حبسه وقيده وضربه وأهانه ، وكان يقف عليهم بنفسه ويأمرهم بضربه حتى تتقطع أيدي الجلاد من شدة الضرب حتى قال أحدهم : والله لقد ضربت أحمد مائة سوط لو كانت على فيل لانهد . وكانوا يتعاقبون عليه والإمام أحمد رجل قد بلغ من السن ما بلغ وهو ضعيف الجسم كثير الصيام , يسرد الصوم بل ربما واصل أياما , ومع ذلك ربما ظل صابرا وهو يضرب ويتقلب تحت السياط ويتلوى ويعرضون عليه الفطر فلا يفطر ويقول : إني أقوى . يأتيه الخليفة فيقول له : يا أحمد والله لولا إني وجدت من قبلي قد حبسك ما صنعت بك شيئا , ثم يقول والله يا أحمد لئن أج بتني إلى ما أريد أن تقول بأن القرآن مخلوق لأطلقن عنك القيود بيدي ولأركبن إليك بجندي ولأطأن عقبك ، يا أحمد والله إني عليك لشفيق وإني لك محب , والله إنك عندي مثل ولدي هارون فأجبني إلى ما أريد حتى أطلق عنك وأكرمك ... إلى غير ذلك . فاستخدموا معه أسلوب القوة والقسوة والضرب ، ثم أسلوب الترغيب والإشفاق والتعبير عن المشاعر . فكان الإمام أحمد لا يزيد في هذا ولا في ذاك على كلمة واحدة " هاتوا لي دليلا من كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما تذهبون إليه وتقولون " ، ما عنده إلا هذا الكلمة . إنها قضية كبيرة , لامزايدة في المبادئ , والدين ليس فيه مجال للمساومة والبيع والشراء أو الالتقاء في منتصف الطريق ، الدين حق واضح يؤخذ من القرآن والسنة ولا يزيد أهله بإيذائهم وضربهم وحبسهم والوقوف في سبيلهم إلا صبرا وثباتا . أهل العقائد على مدار التاريخ – حتى ولو كانت عقائدهم باطلة – كل ما أوذوا وحوربوا كان ذلك دفعة لهم للأمام وتقوية لعزائمهم وتصبيرا لهم وحفزا لهمهم , فكيف إذا كانوا أهل الحق الذين ينطقون عن القرآن والسنة ويقتدون بهدي المرسلين ؟ . إنهم يقرءون ويسمعون قول الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُترَكوا أَن يَقولوا آمَنّا وَهُم لا يُفتَنونَوَلَقَد فَتَنَّا الَّذينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللَّهُ الَّذينَ صَدَقوا وَلَيَعلَمَنَّ الكاذِبين﴾ [العنكبوت: ٢-٣]
وفي الآية التي بعدها : ﴿أَم حَسِبَ الَّذينَ يَعمَلونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسبِقونا ساءَ ما يَحكُمونَ﴾ [العنكبوت: ٤]. إذا هذه الفتن والمحن لا تزيد المؤمنين إلا صبرا وإصرار وثباتا على دينهم فالإمام أحمد لم يزايد ولم يجعله البلاء والشدة يقول : أنا لست مكلفا ولا ملزما بهذا وأنا بعافية والحمد الله , ألزم بيتي وأغلق – بابي ! .. لا , القضية قضية دين ومسؤولية وأمانة لا بد أن يحملها كذلك لما قال له الخليفة ما قال : ا أحمد أنا والله عليك مشفق ، وأنت عندي مثل ولدي هارون فإذا أجبتني إلى ما أريد أطلقتك بيدي وفعلت وفعلت هذا أيضا لم يزلزل موقف الإمام أحمد , كانت كلمته في الحالين واحدة : " هاتوا لي دليلا من كتاب الله " , إنه لم يتقلب مع الذين تقلبوا ولم يتلون مع الذين تلونوا :
ولم أتلون كالذین تلونوا وزاغوا وراغوا خسئة وتصيدا
وحسبي من القول الحلال قصائد نطقت بها تبقي إذا لفني الردى
إن الكثيرين قد يدعون دعاوى ويقولون أقوالا فإذا وصلت الأمور إلى المحك و وجد الجد لم تجد الرجال ولم تجد الصدق , والناس إنما ينظرون إلى هؤلاء في المواقف التي يبين بها المحق من المبطل ، والصادق من الكاذب ، والمؤمن من المنافق ربما كان الخليفة ينظر إلى أحمد فيتغيظ منه ويقول في قرارة نفسه : لماذا هذا العناد ؟ لماذا الخليفة يقف بنفسه على رأسك ويطالبك فلا تجيبه بكلمة ؟ ولكن أمر الله تعالى كان عند الإمام أحمد أعظم من أمر الخليفة . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) , وقال الله تعالى : ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا أَطيعُوا اللَّهَ وَأَطيعُوا الرَّسولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم فَإِن تَنازَعتُم في شَيءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسولِ إِن كُنتُم تُؤمِنونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأويلًا﴾ [النساء: ٥٩]
حتى لو كانت المنازعة مع كبير أو وزير أو أمير أو مشير أو غير ذلك , بل حتى لو كانت المنازعة مع أب حبيب عظيم القدر رفيع الشأن ! يقول الله تعالى :﴿وَإِن جاهَداكَ عَلى أَن تُشرِكَ بي ما لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ فَلا تُطِعهُما وَصاحِبهُما فِي الدُّنيا مَعروفًا وَاتَّبِع سَبيلَ مَن أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرجِعُكُم فَأُنَبِّئُكُم بِما كُنتُم تَعمَلونَ﴾ [لقمان: ١٥]
فالحق أعز من كل عزيز ، وأحب من كل حبيب ، وفي سبيل الحق تطير الروؤس ، وفي سبيل الحق يقدم الإنسان راحته وسعادته وهو يقول :
ربي لك الحمد لا أحصى الجميلا إذا نفذت يوما شكاه القلب في كربي
فلا تؤاخذ إذا زل اللسان وما شيء سوی الحمد في الضراء يجمل بي
لك الحياة كما ترضى بشاشتها فيما تحب وإن باتت على غضبي
رضيت في حبك الأيام جائرۃ فعلقم الدهر إن أرحاك كالعذب
شكرا لفضلك إذا حملت كاهلنا مما وثقت بنا ما كان من نوب
وفي عهد الواثق بعدما مات المعتصم تغيرت الأمور وهدأت الفتنة ، ولكن الواثق فرض على الإمام أحمد الإقامة الجبرية في بيته ، وكان المعتصم قد أطلقه وندم على ما كان منه ، ثم فرض عليه الواثق الإقامة الجبرية في بيته فلا يخرج حتى إلى الصلاة !! قولوا لي ب الله عليكم من يستطيع أن يصبر على هذا ؟ ! إنه لا يصبر
عليه إلا الأفذاذ من الناس لو أ م ير الإنسان ألا يخرج من بيته يوما واحدا أو أودع في السجن ساعة لضاقت عليه الأرض بما رحبت وصار يضرب أخماسا بأسداس وترك ما كان يدعو إليه من قبل وتغيرت في عينه الموازين ف الله المستعان . أما أحمد فبعدما خرج من كير المحنة ونارها جاءته المحنة الأخرى وهي فرض الإقامة الجبرية عليه في بيته لا يخرج حتى إلى الصلاة ولا يعلم ولا ينشر علما ولا حديثا .
ثم جاء بعد ذلك المتوكل فأكرم الإمام أحمد وعظمه ورفع عنه المحنة وأذن له ب التعليم والتدريس ونشر علمه وفقه وحديثه وفتياه ، ومع ذلك فإن الأمر لم يسلم من المنغصات . فمع أن المتوكل أكرم أحمد واحتفى به ولقيه مرات وطلب منه أن يشخص إليه فاستقبله في بغداد وأسكنه ببيت فخم , وكان يغدى عليه بالموائد ويراح والإمام أحمد لا يأخذ شيئا من ذلك ولا يأكل ، منه شيئا ولا يقربه بل ينهى من حوله عن ذلك كله ، وقد رضى وقنع باليسير والزهيد فكان يأكل من ماله الخاص .
فحينئذ قال قائل للخليفة : إن هذا الرجل لا يأكل لك طعاما ولا يشرب لك شرابا ولا يجلس لك على فراش ، بل هو يحرم ما تشربه فلماذا لا تتخذ منه موقفا ؟ ! هذا تقرير رجال الأمن للخليفة في ذلك الوقت , فماذا قال الخليفة ؟ لم يلتفت إلى هذا التقرير ولا أعطى رجال الأمن هذه الأهمية ولا اعتبر أن تقريرهم هو القول الفصل في شأن الإمام أحمد ولا في غيره , بل قال قولة مدوية صريحة , قال : " والله لو نشر المعتصم – يعني أخرج من قبره بعدما مات – وكلمني في الإمام أحمد ما قبلت منه شيئا الإمام أحمد له من قلبي مكانة رفيعة ، لا أقبل فيه قول قائل " .
ما سكتت الوشايات عند هذا الحد ، فقد جاءه رجل من المغرضين وقال له : إن أ حمد وإن كان يتظاهر بالدين والصلاح والعلم والفقه إلا أن الأمر بخلاف ذلك . قال له : ما الخطب ؟ قال له صاحب التقرير الأمني الثاني : ( إن أحمد يخطط لقلب نظام الحكم ويسعى إلى الوصول إلى السلطة وأن هناك وثائق تدل على ذلك !! ) ما هي الوثائق ؟ ! يقول التقرير الأمني الذي ذكره غير واحد من المؤرخين ، قال له : ( إن الإمام أحمد قد آوى بعض العلويين من نسل علي بن أبي طالب في بيته وأنه ي باي ع له في السر ) ! إذا نحن أمام دعوة عريضة تعتمد على أمر موجود في بيت الإمام أحمد ، رجل علوي يبايع له بالسر بالخلافة . فحينئذ أصاب الخليفة ما أصابه لأن هذا تقرير أمني يفترض أنه على حقائق ومعلومات ودراسات ، وليس على تخمين أو ظن ، ولهذا فوجئ أحمد وأهل بيته وجيرانه وإذا بمنزله يحاصر في ساعة خرة من الليل – أو ساعة متقد من الليل – فلم يشعر إلا والمشاعل والمصابيح تضاء على منزله ومنازل الجيران أيضا من أجل ضمان أن لا يتسلل أحد من المنزل , وتحيط بالدار فرق التفتيش والدوريات وقوات الطوارئ وغيرها وإذا الناس والأجهزة الأمنية حتى من فوق السطوح وجدوا ؟ انظروا البساطة : أحمد رحمه الله جالس القرفصاء وعنده زوجته وأولاده وهم يتناولون طعام العشاء بكل هدوء وبكل بساطة مع الأولاد في جلسة عائلية . فوجئ الإمام رحمه الله بذلك : ما القصة ؟ قالوا : عندك رجل علوي . قال : فتشوا . ففتشوا كل شيء حتى خزائن الكتب والمطبخ وغيرها فما وجدوا شيئا ، فسألوه . قال : والله ما عندي من هذا علم وليس من هذا شيء ولا مثل هذا في نيتي وإنما هذا كذب على .... فعرف الخليفة أن الناس يكذبون عليه فلم يعد يقبل فيه كلاما بعد ذلك .
هذه هي الفتنة وهذه هي مجرياتها وأحداثها .. ولكن ما هي العبرة منها ؟ .
أول هذه العبر : أن الإمام أحمد رحمه الله قام بفرض الكفاية وكان موقفه الفريد هو الذي أثبت الخيرية المستمرة لهذه الأمة وأنه لا يزال فيها من يأمر بالقسط و العدل ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويقوم بالحق لا يخاف في الله تعالى لومة لائم ، ولو لم يوجد الإمام أحمد لكان معنى ذلك أن الأمة كلها طأطأت رأسها وأذعنت وخفضت ظهرها للفتنة وأقرت بالباطل , ولكن يأبى الله تعالى إلا أن يوجد في كل زمان ومكان من يقوم بحجة الله تعالى على عباده ويبلغ دين في ذلك ويصابر . ولهذا لما ذكر علي بن شعيب حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قصة خباب رضي الله : ( إن الرجل ممن كان قبلكم يؤتى به يحفر له في الأرض فيوضع فيها ويؤتى بالمنشار فيوضع على مفرق رأسه حتى يشق نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه من عصب ما يصده ذلك عن دينه ) , فقال علي بن شعيب : " والله لولا أن الإمام أحمد قام بهذا الشأن لكان عارا علينا إلى يوم القيامة أن قوما سبكوا فلم يخرج منهم أحد " . يقول : لو ما وجد أ أحمد حنبل لكان معنى هذا أن الأمة كلها ليس فيها واحد يثبت للفتنة ويصبر ويقف في وجه الرياح العاتية لكن الله تعالى رحم هذه الأمة بالإمام أحمد . ولهذا قالوا : لو كان الإمام أحمد في بني إسرائيل لكتبت له سيرة . وأقول : كان الإمام أحمد في هذه الأمة وإنه لو كان في بني إسرائيل لكتبت له سيره واحدة أما لأنه من هذه الأمة فقد كتب له مئات السير , فقد ترجم له في مجلدات خاصة , كما صنف في ذلك ابن الجوزي والبيهقي ، وكما كتب في ذلك جمع من أهل العلم وعلى كلامهم اعتمدت : كما فعل الذهبي في : سير أعلام النبلاء ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ، وكما فعل ابن كثير في البداية والنهاية ، وكما فعل جماعة من المؤرخين المعتمدين . وكذلك المحدثون كما فعل ابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل ، وغيرهم كثير.
العبرة الثانية : أن الإمام أحمد قام بالشهادة لله تعالى . إن الذين كانوا على مثل مذهبه ويقولون بما يقول كثير بل هم أكثر العلماء والمحدثين والفقهاء , كانوا يقولون مثل قوله : القرآن كلام الله تعالى منزل غير مخلوق , منه بدأ وإليه يعود , ولكن الذي ثبت وأعلن هذا المذهب وأصر عليه وأوذي في سبيله هو رجل واحد فقط وهو الإمام أحمد , ولهذا عرف المذهب باسمه ونسب إليه وإن كان الجميع يقولون بقوله ،إن الإمام أحمد لم يرض مسلك التأويل والتورية والمداراة بظاهر القول , فإن من أهل العلم مثلا من أجابهم إلى ما قولوا تقية فقال لهم ما يريدون على سبيل التخلص من أذاهم ، بل قيل إن من أهل العلم من قال القرآن والإنجيل و التوراة والزبور والصحف هذه مخلوقة ، وأشار إلى يديه – يعني اليد مخلوقة ولا يقصد هذه الكتب – فتخلصوا من ذلك .
أما الإمام أحمد فما رضي بالمداهنة ولا ب التورية ولا بأسلوب اللف والدوران بل قالها واضحة صريحة ولو غضبت لها أنوف ولو انزعجت لها بلاطات الخلفاء ولو أرعدت لها قواتهم ولو أجلبوا عليه بخيلهم . ورجلهم إنه صبر حتى أعز الله تعالى به الدين حتى قال علی بن المديني : إن الله تعالى أعز هذا الدين برجلين بأبي بكر رضى الله عنه يوم الردة وبأحمد بن حنبل يوم المحنة .
الدين عنده الانحرافات أي تجديد للدين أعظم من أن يصبر الإمام أحمد عشر سنوات أو عشرين سنة فتعود الدولة إلى مذهب أهل السنة والجماعة ويعود الناس إلى هذا المذهب ويصبح هو المذهب المتبوع المقرر الرسمي الذي يدين به المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ؟ !
إن أبا بكر رضي الله عنه جدد دين الإسلام بعدما كادت الردة أن تكتسح جزيرة العرب ولم يكن لأبي بكر إلا أنه وقف ذلك الموقف العظيم لما قال الصحابة : يا أمير المؤمنين الجزيرة كلها رمتنا على قوس واحدة الناس كلهم ارتدوا ونخشى أن تقتحم المدينة نفسها عاصمة الإسلام فلو تركنا الذين منعوا الزكاة وصبرنا عليهم وبدأنا بالمرتدين الكبار , فلم يرض أبو بكر رضي الله عنه ولا داهن وإنما قال : والله لو جرت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين في المدينة ما فرقت من هؤلاء . وهؤلاء ، إن الله تعالى ما فرق بين الصلاة والزكاة ، والله لو منعوني عقالا – أو عناقا – كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها . قال عمر والله ما هو إلا أن رأيت أن الله تعالى شرح صدر أبا بكر رضى الله عنه لهذا حتى علمت أنه الحق .
إذا الإمام أحمد كان مجددا لهذا الدين بذلك الموقف العظيم الذي تحطمت عنده المحدثات والبدع والانحرافات , إن ثقة الناس بالدعوة – أي دعوة – تكون بقدر ثقة الداعية بها ويقينه بصحتها وتضحيته من أجلها , قال الله تعالى : { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } إذا بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
وكان الإمام أحمد نموذجا فقد كان مؤمنا بآيات الله عز وجل ما داخله شك ولا ريب ولا تردد في صحة وصواب ما يدين به وما يعتقده ولم يزده الب لاء والعذاب إلا يقينا على يقينه وإيمانا على إيمانه { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } , { ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما } إذا البلاء زاده إيمانا وزاده تسليما وزاده صبرا ويقينا ، وقال : حسبنا الله ونعم الوكيل .
وأيضا كان صبورا : جلد وخلع ظهره وأوجع وأوذي ومات وهو يتألم من أثر الجراح وأثر الجلد وأثر السياط ، فما صده ذلك عن دينه وما تراجع وما فكر وما قال أعطوني فرصة أشاور ولا قال أريد أن أستخير ، كانت كلمته واحدة " هاتوا لي دليلا من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك " , ولهذا خلد ذكره ولهذا كان إماما حتى كان العلماء في وقته وفي زمنه ممن يكبرونه سنا وممن جلسوا وقعدوا للتدريس و التعليم والتحديث قبله كانوا يقولون : " أحمد إمامنا وسيدنا وهو حجة بيننا وبين الله تعالى " كما قال على بن المديني ويحيى بن معين وغيرهم من أهل العلم . بل قال قتيبه بن سعيد : " الإمام أحمد هو إمام الدنيا " ولذلك اهتموا به ونقلوا هديه وعلمه وأعماله وأحواله وأقواله وسائر أموره ، حتى نقلوا عنه الدقائق والتفاصيل التي تتعجبون من نقلها ، بل أقول بكل طمأنينة إن أهل الكتاب لا يعرفون عن أنبيائهم مثل ما نعرف نحن المسلمين عن عالم من . علمائنا كالإمام أحمد ا رحمه الله تعالى .
كان إماما مجددا صالحا قدوة حجة بين الناس وبين الله عز وجل ، ولو رضي ب التأويل والمدارة والتماس المعاذير والتورية لنجا من ذلك كله , ولكن لو نجا من ذلك كله لخمد ذكره وما كان له مقام يذكر فضلا عن نقص الأجور في الدار الآخرة , ولهذا كان الكثيرون يقولون كما قال البشر بن الحارث وعلي بن المديني ويحي وغيرهم يقولون : تريدون منا أن نقوم مثل ما قام الإمام أحمد ؟ ! . إن أحمد قام مقام الأنبياء – أي وقف موقف صدق يشبه ما كان عليه الأنبياء عليهم سلام الله تعالى –
النقطة الثالثة : ثبت الإمام أحمد في المحنه فكان هو نفسه المحنة . كيف ؟ كان العلماء في عصره يسعون إلى لقياه وإلى النظر إليه وإلى القعود بين يديه . قال المقرئ : رأيت علماءنا مثل الهيثم بن خارجة ومصعب الزبيري ( وعد خلقا فيما لا أحصيهم من أهل العلم والفقه ) رأيتهم يعظمون الإمام أحمد ويبجلونه ويجلونه ويوقرونه ويقصدونه للسلام عليه . وقال أبو حاتم – رحمه الله - : إذا رأيتم الرجل أحمد فاعلموا أنه صاحب سنة . فصار الإمام أحمد رمزا من رموز السنة ما يحبه إنسان إلا لأنه يحب دينه ويحب عقيدته ويحب مذهبه ويحب صبره ويحب ما كان عليه ، وبالمقابل قال الغلاس : إذا رأيتم الرجل يقع في أحمد ويغتابه ويسبه ويبغضه فاعلموا أنه مبتدع .. لأنه لا يبغض أحمد إلا لمحاربته لدينه ومسلكه ومذهبه وما كان عليه . بل قال الهمداني : أحمد بن حنبل محنه ي يعرف به المسلم من الزنديق :
أضحى ابن حنبل محنة مأمونة وبحب أحمد يعرف المتمسك
وإذا رأيت لأحمد متنغصا فاعلم بأن ستوره ستهلك
نعم وهكذا يكون الصابرون وما يلقاها إلا الصابرون { وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم } إن هناك رجالا تجردوا من حظوظ أنفسهم وتخلوا عن دنياهم وترفعوا عن شهواتهم فلم يعد لأنفسهم في أنفسهم نصيب ولم يعد يعنيهم أمر أنفسهم لا في مأكل ولا في مشرب ولا في جاه ولا في عرض , فلا أن يقع الناس فيه ولا أن ينالوا منه ولا أن يضربوه بالسياط ولا أن يسجنوه ، المهم أن ينتصر دين الله تعالى وأن تبقى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأكرمهم الله تعالى وجعلهم رموزا للسنة بها يعرفون وإليها ينسبون فمن أحب أحمد فإنما أحب السنة ومن أبغضه فإنما أبغض السنة .
العبرة الرابعة : بماذا ثبت الإمام أحمد ؟ أو : ما ه تأملت فرأيت ثلاث أسباب :
أولها : تثبيت الله عز وجل { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا } ثبته الله تعالى بعونه وتشديده وتأيده :
وإذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
{ وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين } فاتجه إلى الله تعالى وسل الله واعتصم بالله وتوكل على الله وآمن ب الله وسلم إلى الله واعلم أ تنجو بنفسك ولا بقوتك ولا بحولك وإنما بالله تعالى , ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن أن يقول : لا حول ولا قوة إلا ب الله , وأخبر أنها من كنـز تحت العرش . ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) : فلا تحول للعبد من معصية إلى طاعة أو من بدعة إلى سنة أو من ضلالة إلى هدى إلا ب الله تعالى ، ولا قوة للإنسان وصبرا له على طاعة الله واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصبر على ما يلقاه إلا بعون الله تعالى وتأيده وتسديده . فقل دائما وأبدا لا حول ولا قوة إلا بالله تجد العون والتسديد من الله .
السبب الثاني : البينة والعلم الذي كان يحمله ، فكان على بينة من أمر دينه , تلقى كتاب الله وكان عالما إماما في القرآن ، وتلقى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قيل إنه يحفظ مئات الألوف من الأحاديث بأسانيدها ، وعرف وعلم فلم يكن عنده ، في ذلك شك ولا تردد ولا ريبه ولذلك ما داخله في ذلك شيء فعلم أنه على الحق فصبر وصابر ، وكان الله تعالى يسخر له بعد ذلك.
السبب الثالث : وهو الأمة التي كانت وراء الأمام أحمد . نعم . كانت وراءه أمة تؤيده وتساعده وتصبره , قال أبو جعفر الأنباري : لما حمل الأمام أحمد إلى المأمون وتجاوز الناس به النهر – نهر الفرات – عبرت إليه فإذا هو في الخان فسلمت عليه فرد علي – السلام وقال لي : تعنيت – أي تعبت في سبيل المجيء إلي قلت له : ليس هذا بعناء . قال : ثم قلت له – وانظر إلى نصيحة هذا الرجل الذي لا يملك شيئا إلا النصيحة يقولها لأحمد يثبته ويصبره بها - : يا هذا أنت اليوم رأس و الناس يقتدون بك فوالله لأن أجبتهم إلى ما يريدون وقلت بخلق القرآن ليجيبن بإجابتك خلق كثير من خلق الله تعالى , وإن أنت امتنعت عن هذا ليمتنعون بامتناعك ، ومع هذا فإن الرجل – أي المأمون – إن لم يقتلك فإنك تموت غير بعيد و لا بد لك من الموت فاتق الله ولا تجبهم إلى شيء , قال : فجعل الإمام أحمد يبكي ويكفكف دموعه ويقول : ما شاء الله ما شاء الله أعد علي هذا الكلام , قال : فأعدته عليه . فقال : ما شاء الله ، ما شاء الله .
وأعجب من ذلك أن الإمام أحمد لما جيء به إلى الخليفة يمتحن جاءه رجل فهمس بأذنه بكلام – ما هذا الكلام ؟ - قال أنا رسول إليك أرسلني إليك فلان الحداد – رجل محبوس – يقول لك يا أحمد اثبت ولا تجزع من الضرب فوالله أنا قد ج دت في معصية الله ألف حد—ولعله يقصد ألف جلدة في معصية الله – فما يضرك أنت أن تجلد في ذات الله ؟ ! حتى السجناء وحتى العصاة يشعرون أن عليهم واجبا في تثبيت أهل الطاعة ودعمهم وتقوية هممهم وعزائمهم وتصبيرهم وإعانتهم بما يستطيعون .
العبرة الخامسة : أن الإمام أحمد ثبت وكان وحده , وانجفل الناس عنه وأعرضوا فلا تجد حول بيته أحد ولا يقترب الناس منه ولا يؤذن لهم فيأخذون عنه العلم والحديث , على حين كان بعض شيوخ البدعة حولهم الجاه والصولجان ، وما إلا سنوات حتى انقلبت الآية فكان يجلس في مجلس الإمام أحمد كما ذكر الذهبي وغيره خمسة آلاف منهم خمسمائة يكتبون العلم والباقين يتعلمون من الإ مام أحمد الأدب والهدي والسمت وأصبح لا يجرؤ عليه أحد .
ثم مات رحمه الله فصلى عليه خلق كثيرون حتى قيل إنهم حسب الإحصائيات المتوسطة مليون إنسان ، فضلا عمن صلوا عليه في السفن وفي الأنهار , وفي غيرها خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى .
ازدحمت الشوارع وامتلأت بغداد وغصت بمن فيها واجتمع خلق وقال بعض المؤرخين إنهم لم يجتمعوا في الإسلام قط كما اجتمعوا على جنازة الإمام أحمد .. لماذا ؟ لأنه صبر وكان يقول لأهل البدع : " بيننا وبينكم الجنائز " . فأما أحمد فحضر جنازته ما يزيد على المليون وارتفع الصياح في البيوت والأسواق والمقابر والمساجد وغيرها ، وما من مسلم إلا دخلت المصيبة عليه بموت الإمام أحمد ؛ أما أهل البدعة ومنهم ابن أبي دؤاد خصم الإمام أحمد وعدوه اللدود والذي كان يقول للخليفة : يا إمام اقتله ودمه في عنقي ، لأنه من علماء السلطان وكان ضالا مبتدعا منحرفا عن السنة , هذا الرجل لما مات بالفالج ما حضر جنازته إلا ثلاثة . وهناك كثيرون كبشر الحافي وغيره من أهل الزهد والورع والصلاح ومع ذلك لم يحضر جنازتهم أحد يذكر .. أما أحمد فكان هذا الخلق حضر جنازته .
أما في الدنيا قبل أن يموت فحدث ولا حرج فقد ضربت شهرته الآفاق وصار ذكره على كل لسان حتى صار هو يضيق بذلك ويقول : " اشتهرت ، اشتهرت " , وكان يقول : طوبى لمن أحمد الله تعالى ذكره . ويرى عليه الحزن أحيانا من كثرة ذكر الناس له .. بل لعل من الطريف أن الحسين بن الحسن الرازي كان يقول : اشتريت من بقال بمصر – مع أن الأمام أحمد لم يدخل مصر – متاعا وتحدثت معه وذهبنا في الحديث وجئنا , قال : فسألني عن الإمام أحمد بن حنبل , قال : أتعرفه ؟ قلت : ؟ نعم أعرفه وقد كتبت عنه حديثا . قال : فلما أتيت أعطيه ماله قال : والله لا آخذ منك شيئا , أنا آخذ ثمن متاع من إنسان عرف الإمام أحمد ورآه بعينه ؟ ! أبدا أنا سامحتك ولا أخذ منك شيئا . فكانوا يعظمون حتى من لقي أحمد أو أحبه أو أخذ عنه أو كتب عنه الحديث , وهذه بعض آثار صبره رحمه الله على المحنة .
العبرة السادسة : فهي زهده وعبادته . ولعل هذا يمت بسبب إلى ما سبق ، فلم يكن يصبر ويصابر لولا أنه كان يستمد هذا من عبادته لله تعالى , قال الله تعالى { يا أيها المزمل ( 1 ) قم الليل إلا قليلا ( 2 ) نصفه أو انقص منه قليلا ( 3 ) أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ( 4 ) إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } قال عبدالله ابن الإمام أحمد : كان والدي ساعة يصلي العشاء ينام نومة خفيفة ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو على رغم كبر سنه وبعدما جاوز السبعين من عمره ، وكان يقرأ كل يوم س مع القرآن فيختم القرآن في كل أسبوع وربما ختم القرآن في كل أسبوع مرتين , وكان يكثر من الصيام ويسرده وربما صام وهو في السجن وربما صام وهو يجلد وربما ضعف كثيرا حتى كاد أن يغمي عليه وهو مع ذلك مصر على الصيام حتى قرب وفاته رحمه الله تعالى . ولما اشتد مرض الإمام أحمد بعث إليه الخليفة بابن ماسويه الطبيب ، فنظر إلى الإمام أحمد ورجع إلى الخليفة وقال له : يا أمير المؤمنين , أحمد ليست به عله في بدنه إنما هذا من قلة الطعام وكثرة الصيام ، وكثرة العبادة . فسكت المتوكل عن ذلك .
هذا جانب من عبادته وقربه إلى الله تعالى .
ثم إنه كان معرضا عن الدنيا ومباهجها وزخرفها . قال بعض المؤرخين عرض الشافعي على الإمام أحمد أن يتولى القضاء في اليمن فأبى وقال للشافعي : أنت تعلم أنني أتعلم منك العلم المزهد في الدنيا فلا أريد شيئا يبعدني عن الآخرة ويرغبني في الدنيا . والإمام أحمد حينما رفض القضاء رفضه كسلم إلى الدنيا , أما أن يكون القضاء سببا إلى إصلاح بين الناس وإلى إقامة القسط والعدل وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلى قضاء حوائج المسلمين فلا شك أن هذا من أعظم القربات وأجل الطاعات ، ولا بد للناس من القضاء ومن القضاة وقد يتعين هذا المنصب على من يكون أهلا له وجديرا به.
كان الإمام أحمد يكره التكلف والتصنع والتزين والتظاهر بالأشياء ، ويعرف أن البهرج لا ينطلي على الله تعالى , وأن العبد يعرض على الله تعالى لا تخفى منه خافيه { يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية } { ولقد جئتمونا فرادي كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم } حتى ثيابكم ونعالكم وملابسكم وأراضیکم خلفتموها وراء ظهوركم ! ليس معكم شيئا أنكم محشورون إلى الله تعالى حفاة عراة – { كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين } كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح . فكان الإمام يتعامل مع الله تعالى ، ويراقب الله ، ويخاف من الله ، فلا يتظاهر بشيء . قال أبو حاتم : إذا رأيت أحمد تعلم أنه لا يظهر النسك , رأيت عليه نعلا لا يشبه نعل القراء له رأس كبير ( يعني النعل ) معقد , وشراك مسبل كأنه اشترى له يعني نعال الناس ) وليس من النعال التي يتميز بها القراء وأحيانا فتيان القراء . وبعض المحدثين وبعض الطلبة قد يكون له سمت خاص وبزة معينة أما أحمد لم يكن كذلك ، بل كان كسائر الناس . قال : ورأيت عليه إزارا وجبة . قال أبو محمد ابن أبي حاتم : أراد الإمام أحمد بهذا – والله أعلم – ترك التزين بزي القراء وإزالته عن نفسه لئلا يشتهر به . إذا كان الإمام يكره أن يشتهر بشيء من ذلك . وقال المروزي إذا كان الإمام أحمد في بيته كان خاشعا وكان عامة جلوسه التربع , فإذا كان برا _يعني في خارج بيته – لم يتبين منه خشوع ولم يكن يتظاهر بذلك لا في مشيته ، ولا في ثيابه ، ولا في طأطأة رأسه . ولا يتميز بثياب خاصة أو ملابس معينة أو هندام وإنما كان يهتم بالحقائق لا بالمظاهر وبالمعاني لا بالرسوم .
أمر ثالث من زهده وعبادته إعراضه عن الدنيا والمال : قضى الإمام أحمد حياته كلها فقيرا , وكان يحب الفقر ويفرح به . ومع ذلك عرضت عليه أعطيات كثيرة من التجار ومن سائر الناس , بعضها أموال ، وبعضها من المزارع ، وبعضها هدايا ، وبعضها أعطيات. ومع أنهم يحاولون بكل وسيلة إلا أنه كان لا يقبل شيئا من ذلك قط مهما كانت به من الحاجة . قال : عبد الرزاق : أعطيته بعض الدنانير فردها الإمام أحمد ، وقال : أنا بخير . وقال محمد بن سعيد الترمذي : قدم إلى بغداد صديق له من خرسان وكان قد اتخذ بضاعة يبيع ويشتري وقال : إن ربح هذه البضاعة للإمام أحمد . فذهب الرجل إلى الإمام أحمد ، وقال له : أن رجل بخرسان يبيع ويشتري ويقول : إن ربح البضاعة لأحمد . فقال الإمام أحمد : جزاه الله تعالى عنا عن العناية والاهتمام خيرا ، أما نحن ففي غنى وسعة , وأبى أن يأخذ شيئا من ذلك . ربما أحرجه بعض الناس وأطال عليه فيقوم من المجلس ويدخل في بيته .
دفع إليه السلطان أموالا فردها ، ودفعها فردها مرة أخرى , فقالوا له : إن رددتها تغير عليك قلب السلطان وظن أنك لا تأخذ منه شيئا وربما وقع في نفسه . فأخذ هذه الأموال وقال : هاتوا لي أسماء الفقراء وطلاب الحديث وطلاب العلم المحتاجين وجعلها كلها في قوائم فما أصبح في بيته درهم واحد منها ولا دينار , وكان يقول : { ورزق ربك خير وأبقى } . ولما مات الإمام أحمد بعث ابن طاهر بصينيتين عليهما كفن و حنوط للإمام أحمد وقال : كفنوه في هذا وحنطوا بهذا . فقال صالح ولد الإمام أحمد : لا , إن الإمام أبا عبدالله قد أعد – كفنه وأعد حنوطه قبل أن يموت ، وإن أمير المؤمنين قد أعفى والدي من كل ما يكره وهذا ما يكره الإمام أحمد ، وأبى أن يقبلها وردها إليه .
كان الإمام أحمد يقول لولده صالح : إن والدتك - وكان يحبها كثيرا ويتذكرها وقد ماتت قبله – كانت تغزل غزلا دقيقا فتبيع الأستار بدرهمين أو أقل أو أكثر وكان ذلك قوتنا ومعاشنا وكان يقول : أنا أفرح إذا لم يكن عندي شيء من الدنيا . ثم يقول : إنما هو طعام دون طعام ، ولباس دون لباس ، وأيام قلائل ثم نصير إلى الدار الآخرة . ثم بلغ من ورع الإمام أحمد وزهده أنه نهى ولده عن أن يأخذ شيئا من أعطيات السلاطين ، وكان صالح – فيما أذكر – قد ولي القضاء " وأخذ بعض المال وبعض المرتبات ، فكان الإمام أحمد – لا تحريما لهذا ولكن من باب الورع ولأنه دخل في الأموال شيء – يتورع عن أخذها ويعتذر عن ذلك ، ولما أخذ أولاده بعض ذلك عاتبهم فاعتذروا , وقالوا : احتجنا يا أبانا , فهجرهم شهرا لا يكلمهم . ولما مرض وصفوا له بعض القرع الذي يشوي ويؤخذ ماؤه فلما جاءوا بهذا القرعة قال بعض الحضور : اجعلوها في تنور صالح . لأن تنور صالح قد أوقد وحمى فاجعلوها في هذا التنور . فكان الإمام أحمد يقول بيده هكذا ( لا ، لا ) ، لا تجعلوها في تنور صالح لأنه يأخذ من السلطان .
وكان لعمه غلام يجلس عند الإمام أحمد فربما حرك عليه المروحة يروح عنه أحيانا فبغض الإمام أحمد ذلك لأنه يخشى أن يكون عمه اشترى هذا العبد من أعطيات السلطان .
هذا جانب من ورعه ، جانب من زهده ، إنه لا يحرم الحلال أبدا ولا يضيق على الناس أبدا . والنبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين : ( ما أتاك من هذا المال وأنت غير مستشرف فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك ) , أي ما كان من سبل الحلال ولكنه كان في خاصة نفسه وفي من يعول من ولده يتخذ مسلك الورع و التقوى والاحتياط والتعفف والبعد حتى عن أقل القليل من ذلك.
أخلاقه ومناقبه : وإنها عجب من العجب ! أوذي الإمام أحمد وضرب وقضى حياته كلها مترددا بين السجون فماذا كان موقفه ؟ سامح من آذوه وضربوه , وقال : " ما علينا ألا يعذب الله تعالى أحد بسببنا " , إلا من أصروا على الضلال والبدعة فإنه لم يصالحه . وقد تلقى عنه هذا الهدي والسمات تلاميذه ومحبوه وأتباعه , فكان الإمام ابن تيمية مثلا وقد ضرب أيضا وأوذي واعتدي عليه وسجن , وكان إذا أصر عليه طلابه يقول لهم : الحق إن كان لي فقد عفوت عنهم ، وإن كان لله ف الله تعالى يتولاهم ، أما أنتم فليس لكم بذلك شأن.
قيل للإمام أحمد قد مكنك الله من عدوك , هذا هو ابن دؤاد اصنع به ما شئت واحكم فيه ما شئت , فلم يتكلم بشيء ! . ما قال أنتقم منه وأن هذه فرصة سانحة بل أعرض عنه , { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفي وأصلح فأجره على الله } . ( أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تحن من خانك ) . استفتوه في أموال لابن دؤاد وكانت أموالا جاءته من السلاطين فلم يرد منها شيئا وما أفتاهم بشيء . بل ذكر البيهقي حكاية عجيبة عن أبي الفضل التميمي عن الإمام أحمد أنه كان يدعو في سجوده ويقول : " اللهم من كان من هذه الأمة على غير الحق وهو يظن أنه على الحق فرده إليه حتى يكون على الحق حقا " .
هكذا حرصه ودعاؤه حتى للضالين والمحاربين والمبتدعين يدعو لهم بالهداية لأنه يقول : " ما علينا ألا يعذب الله أحد في النار بسببنا , اللهم إن قبلت من عصاة هذه الأمة فداء فاجعلني فداء لهم " ! إلى هذا الحد حرصه على هداية الناس ودعوتهم إلى الخير وإنقاذهم من المعصية ودعوتهم إلى الطاعة والسنة !!
ناظر الإمام أحمد أهل البدعة في مجالس عديدة في زمن المعتصم وغيره فلم يكن يقول إلا هاتوا لي دليلا من كتاب الله تعالى .
ما كان يسب ولا يشتم ولا يلعن ولا يرفع صوته ولا يتهم , فالمسألة ليست مشاتمة ولا ملاعنة ولا خصومه , وإنما كانت المسألة مسألة مناظرة بالدليل.
كلام الإمام أحمد في الرجال – الجرح والتعديل - : لم يكن يغلظ في القول ولا يبالغ في ذلك وإنما كان في كلامة إجمال وعفة وإعراض . فربما قال لا تأخذ الحديث عن فلان أو اتركه أو ما أشبه ذلك أو أشاح عنه بوجه وتركه . ولكن لا ينقل عنه الكلام الغليظ ، فالكلمات المعروفة بالقسوة والشدة قلما تسمع من فم الإمام أحمد .
تواضعه : وهذا أمر عجيب أذكر ، نماذج فحسب . لم يكن يدع أحدا يستقي له الوضوء بل كان يأخذ الماء بنفسه , وربما خاط الإمام أحمد قلنسوته بيده ، ويتولى شأنه مباشرة ويعمل فيه بيده أيضا . وربما خرج إلى البقال يشتري حاجته بيده ويحملها على كتفه { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } هذا هو هدي المرسلين التواضع والبساطة والبعد عن الأبهة وعن الجبروت وعن الكبرياء ومن تواضع لله رفعه الله . قال له رجل : يا أحمد هذا العلم تعلمته لله ؟ فقال : هذا شرط شديد , وفي رواية أنه قال أما لله فعزيز ولكن حبب إلي شيء فجمعته . وروى البيهقي أن رجلا قال للإمام أحمد : إن أمي مقعدة منذ سنين وإنها أوصتني أن آتي إليك لتدعو الله تعالى لها , فغضب الإ مام أ . منه أحمد وقال : أنا أدعو لله تعالى لها ؟ ! أنا أحوج أن تدعو الله تعالى هي لي . فذهب الغلام وهو مكسوف وذهب إلى أمه يريد أن يخبرها بخبر الإمام أحمد . فلما ولى رفع الإمام أحمد يديه إلى السماء ودعا الله تعالى لها . فلما طرق الغلام الباب إذا أمه تفتح الباب له وقد عافها الله تعالى وشفاها ببركة دعاء الإمام أحمد لها . روى عنه ولده صالح وعبدالله أنه كان في مرض موته إذا أغمى عليه قال : لا بعد لا بعد ، فلما أفاق قال : يا أبت ما كلمة تلهج بها قال : ما هي ؟ قال : تقول لا بعد لا بعد , قال : إن الشيطان عرض لي في زاوية هذه الحجرة وهو عاض على أصبعه يقول : فتني يا أحمد فتني يا أحمد , فأقول له : لا ما فتك بعد .. فما دامت الروح في الجسد فأنا لم أفتك بعد والكيد قائم وربما كان هذا من كيد الشيطان للإمام أحمد أن يدخل على قلبه أو نفسه شيء من العجب فربما داخله ذلك ، ولكن الله تعالى عصم الإمام أحمد بصدقه وورعه وتقواه فكان يقول لا ما فتك بعد . وقال المروزي لأحمد : ما أكثر الذين يدعون لك يا أحمد . قال : عسى ألا يكون هذا استدراجا . أي : من أجل ماذا يدعون لي ؟ ما في " شيء يستحق أن يدعي لي وأخشى أن يكون هذا من الاستدراج . قال له يا أحمد : كنا في بلاد الروم وقد هجم المسلمون على الكفار فكان الجنود وهم مرابطون في المعارك يدعون لك في الهزيع الأخير من الليل ويبكون ويسألون الله تعالى لك . فدمعت عيناه وقال : من أجل ماذا ؟ أخشى أن يكون هذا استدراجا . قال : يا أحمد والله لقد رأيت الجنود يرمي أحدهم بالمنجنيق ويقول : هذا عن الإمام أحمد ، فربما ضرب علجا من علوج الروم فقطعه أو قتله فبكى أحمد وقال : من أجل ماذا يصنعون هذا ؟ أخشى أن يكون استدراجا . قيل له وقد ترك التحديث في آخر عمره وحلف ألا يكمل حديثا من أوله إلى آخره وأعرض عن الناس , فقال قائل في مجلسه : يا أحمد إن الناس يتكلمون أنك لست زاهدا في الدنيا فقط بل أنت زاهد في الدنيا زاهد في الناس . قال : ومن أنا أزهد في الناس , الناس يزهدون بي . ولاحظ أخي أن الإمام أحمد ما كان يرى أنه هو الإمام الفحل المبجل الذي اتسم بالورع حين خلط الناس ، والتقوى حين فجر الناس ، والتزم بالسنة حين خالفها الناس ، وأنه وحيد زمانه وفريد أوانه كان متواضعا لا يري لنفسه حقا ولا يرى نفسه شيئا ! يقول : لا , الناس يزهدون بي ولست أنا الذي أزهد بالناس .
ذكروا له أن فلانا رأى أنك بشرت بالجنة , فلان رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يذكرك ويثني عليك ويقول : اصبر . فيبكي الإمام أحمد وينفض يده ويقول : الرؤيا تسر المؤمن ولا تغره وهذا فلان بشر بالجنة فوقع في الدماء – أي اعتدى على الناس وتجرأ عليهم - .
ننتقل بعد ذلك إلى نقطه وفقره أخيره وهي : ( بين الإمام أحمد وبين علماء عصره ) . علماء عصره كثير ، وقل منهم أحد إلا ولقي أحمد وأخذ عنه أو تتلمذ الإمام أحمد عليه لكني سوف أضرب نماذج سريعة لكل فئة :
الإمام الشافعي نموذج لعلماء السنة : أخذ عنه الإمام أحمد نحو عشرين حديثا مع أن الإمام أحمد أبصر منه بالحديث وأوسع منه في الرواية بمراحل ومع ذلك أخذ عنه ، وكان الإمام أحمد يقول لبعض زملائه تعال حتى أريك رجلا لم تر " عينك مثله قط ، ثم يشير إلى الشافعي رضي الله عنه .
كما أخذ عن الشافعي جملة من كلام العرب . ولما مات أحمد وجد في تركته كتاب الرسالة وهو كتاب عظيم صنفه الشافعي في أصول الفقه وكان أحمد يقرأ فيه ويستفيد منه ويدعو للشافعي ويثني عليه . وقد روى أحمد عن الشافعي حديثا طريفا مسلسلا بالأئمة : رواه أحمد عن الشافعي عن مالك وهم ثلاثة أئمة متبوعون , عن الزهري عن عبدالرحمن مالك کعب بن عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : « نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى تعود إلى جسدها ».
ولما لقي الإمام الشافعي أحمد في رحلته الثانية إلى بغداد قال الشافعي لأحمد : " يا أحمد إذا صح الحديث عندكم فأعلمني به حتى أذهب إليه " .. حجازيا كان الحديث أو شاميا أو عراقيا أو يمنيا أو كان ما يكون إذا صح الحديث فأخبرني حتى أذهب إليه . يقول هذا لإنسان يصغره بسنوات طويلة . وكان الإمام أحمد يقول لولد الشافعي بن محمد : أبوك من الستة الذين أدعو لهم في السحر .
وكان الإمام أحمد في حداثته يختلف إلى مجالس علماء آخرين كالقاضي أبو يوسف , وقد كتب روايات علماء الرأي وروايات أهل العراق ثم أقبل على الحديث والسنة .
نموذج آخر : الحارث بن أسد المحاسبي : وهو من المشهورين بالزهد والتقوى والورع والصلاح , بل التشديد في ذلك والتنقيب فيه . قال إسماعيل بن إسحاق الس راج : قال لي الإمام أحمد هل تستطيع أن تريني الحارث بن أسد المحاسبي ؟ قال قلت له : نعم . وفرحت فرحا شديدا فدعوتهم ليلة على العشاء فأتوني بعد المغرب فجلسوا مطرقي الرؤوس , وجلس الإمام أحمد في غرفة بحيث يسمع حديثهم ولا یرونه هم ولا يعلمون به .. قال فجلس هؤلاء مطرقي الرؤوس كأن على رؤوسهم الطير وهم يتحدثون وبشر يعظهم ويذكرهم . قال : فإذا كان قريب من نصف الليل سأل أحدهم الحارث عن مسألة فشرع الحارث يتكلم فيها بكلام قوي جزل مؤثر فجعل هذا يبكى وهذا يأن وهذا يزعق ، قال : فصعدت إلى أحمد في الغرفة فإذا هو يبكى وقد اشتد به البكاء حتى كاد أن يغشى عليه . قال فرجعت فلم يزل كذلك إلى الصباح ، ثم ذهبت إلى أحمد فقلت له : ماذا رأيت ؟ قال : ما رأيت أحدا يتكلم في الزهد مثل هذا الرجل ، وما رأيت مثلهم قط ، فأثنى عليهم بالخير الذي فيهم ، قال ومع هذا فلا أرى لك أن تجتمع بهم . لماذا ؟
أولا : قيل لأنه كان عنده شيء من علم الكلام ، وهذا محتمل .
ثانيا : قال البيهقي لأنه ظن أن هذا الرجل يعجز أن يصل إلى سيرة هؤلاء ويشق عليه .
ثالثا : وهذا الذي رجحه ابن كثير في البداية والنهاية أن الإمام أحمد رأى في الحارث ومن معه من شدة التقشف يرى أنه ليس و التدقيق والتنقير والمحاسبة والتشديد في ذلك والمبالغة فيه ما يرى أنه ليس بمشروع . فلذلك تركهم ونصح هذا الرجل بأن لا يصحبهم وأن يقبل على العلم و الحديث والزهد المعتدل الذي لا يكون فيه إسراف .
النموذج الثالث علماء عصره ابن أبي دؤاد : الذي كان يسمي قاضي القضاة ، وكان عالم الخليفة وهو الذي تسبب في البدعة وناظر الإمام أحمد ووقف على رأسه وأغرى به وآذاه وحصل منه ما حصل ، ثم دارت الدائرة عليه فجرد من من منصبه وبيعت أمواله بالمزاد العلني وأخرج من بغداد واضطهد وضيق عليه ومات شر ميتة ، ثم لم يحضر جنازته إلا عدد قليل . سئل عنه الإمام أحمد فلم يجب عنه بشيء فسئل في أمواله فأعرض عنها . ا فهذا نموذج سريع لمواقفه من علماء عصره ...
رحم الله الإمام أحمد ورفع من درجته في المهديين وألحقنا به في الصالحين إنه على كل شيء قدير .. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100