محتويات المقال
✨هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحج✨
تأملات في قدوم قوافل الحجيج
ها هي قوافلُ الحَجيج، وجُموع الوَافدين قد تقاطَرَت على البيتِ العَتيق من كل فجٍّ عَميق، استجابةً للنداءِ الكَّريم: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: 27].
فما أكرمَهم عند ربِّهم، وقد وفَدوا عليه، يدفعُهم الإيمان، ويحدُوهم الشوقُ والحَنين، قال - صلى الله عليه وسلم -: «الحُجَّاجُ والعُمَّارُ وفدُ اللهِ، دعاهم فأجابُوه، وسألُوه فأعطاهم».
هدي النبي –صلى الله عليه وسلم- في المناسك
إنَّ الواجبَ علينا أن نُتابِع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في أعمالِنا كلِّها، ومن ذلك: الحَجُّ؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - أكََّدَ ذلكَ فقال: «خُذُوا عنِّي مناسِكَكم».
ولمعرفةِ ما يُشرَعُ من المناسِكِ من يومِ غَدٍ وحَتى نهاية أيامِ التَّشريق، نَذكُرُ مُجملَ هَديِه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك:
لما كان اليوم الثامن "يومُ التروية"، اتَّجَه - صلى الله عليه وسلم - إلى مِنى، وصلَّى بها الظهرَ والعصرَ والمغربَ والعِشاءَ، وفجرَ يوم عرفة، كلَّ صلاةٍ في وقتِها، يقصرُ الرباعية.
وفي اليومِ التَّاسِع خرج من مِنى بعد أن أشرَقَت الشمسُ، مُتوجِّهًا إلى عرفة، وصلَّى بها الظهرَ والعصرَ جمعًا وقَصرًا، وتفرَّغ للدعاء والذِّكرِ حتى غَرَبَت الشمس، ثم دفَع إلى مُزدلِفة، فجمَعَ بها المغربَ والعِشاءَ، وقَصرَ العشاء، وبات بمُزدلِفة وصلَّى فيها الفجرَ، وذكرَ الله حتى ظهَرَ النورُ وانتَشَر، وأفاضَ منها قبل أن تُشرِقَ الشمسُ.
وفي يومِ النَّحر "يومِ العيد"، رمَى جمرةَ العَقبة، ونحرَ هديَه، وحلقَ رأسَه، وطافَ بالبيت.
وفي أيام التشريق باتَ بمِنى، وكان يرمي الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس.
أحوال النبي –صلى الله عليه وسلم- في الحجِّ مع ربِّه
إنَّ الحجَّ من أوضحِ عباداتِ الإسلام، التي يتجلَّى فيها اتباعُ قُدوةِ الأنام - صلى الله عليه وسلم -، والتأسِّي به في أقوالِه وأفعالِه وأحوالِه.
ومن أعظمِ الأحوال التي يُتأسَّى فيها برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أحوالُه في الحجِّ مع ربِّه، وقد أخذَ ذلك صورًا وألوانًا شتَّى، من أبرزِها: تحقيقُ التوحيدِ والعنايةُ به.
فمن أمثلةِ ذلك: التلبِيَة، وهي شعارُ الحجِّ التي تتضمَّنُ إفرادَ الله وحدَه بالعبادة، وما زال - صلى الله عليه وسلم - يلهَجُ بها إلى أن أتَى جَمرةَ العقبةَ يومَ النحرِ ليرميَها.
ومنها: عنايتُه بإخلاصِ العمل، فقد كان يقولُ في إحرامِه: «اللهم حجَّةٌ لا رياءَ فيها ولا سمعةٌ».
ومنها: دُعاؤُه على الصَّفا والمروةِ بالتوحيد؛ إذ كانَ يقول: «لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ، له المُلْكُ وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيٍء قديرٌ، لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه»، قال مثلَ هذا ثلاثَ مرات.
ومنها: دُعاؤُه في عرفةَ بالتوحيد، كما جاء في الحديث: «خيرُ الدعاءِ: دعاءُ يومِ عرفَةَ، وخيرُ ما قلْتُ أنا والنبيونَ من قبلي: لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ».
في هذا كلِّه دلالةٌ واضِحةٌ على وجوبِ تحقيقِ التوحيد في نفسِ كلِّ مسلم، وكما أنه لا يجوزُ للعبدِ أن يسجُدَ لغيرِ الله، فإنَّه لا يجوزُ له أن يدعُوَ غيرَه من الأولياءِ والصالحين، ولا يَطُوفَ بالقبورِ مُتقرِّبًا إلى أصحابِها، ولا يستغيثَ بهم ويطلبَهم الشِّفاء والمَدد، وقضاءَ الحوائجِ وتفريجَ الكُرُبات.
ولا يجوزُ أيضًا أن يَنذُرَ لمخلوقٍ، أو يذبَحَ له، أو يسألَه الشفاعةَ ويتوكَّلَ عليه، أو يعتقِدَ فيه القدرةَ على الضرِّ والنَّفع، والعطاءِ والمنع، والتصرُّفِ في الكون، كل ذلك مما يَحذَرهُ المسلم، فهو من الشركِ الأكبرِ المُخرجِ من الملَّة.
كما يَحذَرُ المسلمُ من إتيانِ السَّحَرةِ والكُهَّان، فهو أمرٌ مُحرمٌ لا شكَّ في تحريمِه، وسؤالُهم وتصديقُهم، وفعلُ ما يطلُبون من الذبحِ ونحوه شركٌ أكبر.
ومن صُورِ أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ربِّه في الحج: إظهارُ البراءة من المشركين، وتعمُّدُ مُخالفتِهم، وقد بلغَ الأمرُ غايتَه حين تبَرَّأ - صلى الله عليه وسلم - من أعمالِ المشركين في خطبتِه يومَ عرفة، وأخبرَ أن كل شيءٍ من أمرِ الجاهلية فهو موضوعٌ تحتَ قدمَيه.
والشعائِرُ التي بَانَ تعمُّدُه المخالفةَ فيها كثيرة، من أهمِّها: التلبِيَة، وقد كان المشركون يُضمِّنُونها الشركَ بالله، ويقولون فيها: "إلا شريكًا هو لك، تملِكُه وما مَلَك"، فأخلَصَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فيها التوحيد، ونبَذَ الشركَ وتبرّأ منه.
منها: وقُوفه مع الناسِ بعرفة، ومُخالفتُه لكفار قريشٍ الذين كانوا يقِفُون في مُزدلِفة، ويقولون: لا نُفيضُ إلا من الحرَم.
ومنها: إفاضَتُه من عرفةَ بعد مَغِيبِ الشمس، ومن مُزدلِفَة بعد طلوعِ الشمس، مُخالِفًا المشركينَ في ذلك.
لقد قرَّرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُخالفتَه للمشركين بقوله: «هَديُنا مخالفٌ لِهَديِهِم»، ولم يكن ذلك مُجردَ دعوَى ولا شِعار؛ بل كان يُخالفهم في كلِّ شيءٍ من هَديِهم، ويُحذِّرُ من التشبُّه بهم في أقوالِهم وأفعالِهم.
ومن صُورِ أحوالِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مع ربِّه في الحجِّ: كثرةُ تَضرُّعه ومُناجَاتِه، وإلحَاحِه في الدُّعاء، مُتلبِّسًا بالخشوع والسَّكِينة؛ فقد دعَا ربَّه في الطواف، وعند الوقوف على الصَّفَا والمروة، وأطالَ في الدعاءِ يومَ عرفة وهو على نَاقَتِه، رافعًا يدَيه إلى صدرِه، كاستطعامِ المِسكين، منذ أن استقرَّ في مقامِه الذي وقف فيه بعد الصلاة، إلى أن غَربَت الشمس.
وفي مُزدلِفة في المشعَر الحرام، منذ أن صلَّى الفجرَ، إلى أن أسفَرَ جِدًّا، قبل أن تطلُع الشمس.
وفي أيامِ التشريق، بعد رَميِ الجَمرَتين الأُولَيَين كان يستقبِلُ القِبلةَ ويقوم طويلاً يدعُو ويرفعُ يدَيه.
أما دعاءُ الثناءِ والذِّكر، فلم يُفارِقه - صلى الله عليه وسلم - منذ أن دَخَلَ في النُّسُك إلى أن عاد إلى المدينة.
وكان - عليه الصلاة والسلامُ - حاضرَ القلب، غير مُتشاغِلٍ بشيءٍ عن نُسُكِه، خاضِعًا لربِّه فيه، ذليلاً مُنكسِرًا بين يدَيه، كما كان - صلى الله عليه وسلم - خاشِعَ الجوارِح، يسيرُ سَيرًا ليِّنًا بسَكينةٍ ووَقار، ويؤدِّي مناسكَه بتُؤدةٍ واطمئنان، وحثَّ أصحابَه على ذلك فقال: «عليكم بالسَّكِينَةِ؛ فإنَّ البرَّ ليس بالإيضَاعِ»، والإيضاعُ: السيرُ السَّريع.
فأين غابَ هذا الهديُ النبويُّ عمَّن يُؤذُون إخوانَهم في الحجِّ، وخاصَّةً في أماكنِ الازدِحام، بالتدافُعِ والضربِ، والشِّجارِ والشَّتم، والصِّياحِ والبَذِيءِ من الكلام، وعدمِ مُراعاةِ حالِ الضُّعفاء من الناس.
الحث على اغتنام عشر ذي الحجة
إن من كَرمِ الله وإحسانِه، وعظيمِ فضلِه وامتِنانه: أن جعلَ لنا مواسِمَ نستكثرُ فيها من العملِ الصالح، ونتزوَّدُ فيها من القُرُبات. فحرِيٌّ بنا أن نغتَنِم ما بقِيَ من هذه العشر، وأن نُريَ الله من أنفسِنا خيرًا، ولا نَزهدَ في قليل من الخير أن نأتِيَه.
لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100