الرضا بالقضاء والقدر

الرضا بالقضاء والقدر

الإيمان بالقضاء والقدر


القدر سرّ الله في خلقه


القدر سرّ الله في خلقه، لم يطّلع عليه ملَك مقرب، ولا نبي مرسل، وهو علم الله -تبارك وتعالى- بكل شيء، وبكل ما أراد إيجاده، أو وقوعه من الخلائق، والأحداث، والأشياء، وتقدير ذلك وكتابته في اللوح المحفوظ.

إن الله -تبارك وتعالى- قدَّر أقدارًا، وخلق الخلق بقدَر، وقسم الآجال بقدر، وقسم الأرزاق والعافية بقدر، وأمر ونهى، وأحل وحرم، قال -سبحانه-: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49]، وقال -سبحانه-: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ [القمر: 52، 53]، والقدر هو تقدير الله للكائنات، وهو سر مكتوم لا يعلمه إلا الله، ثم من شاء من خلقه، ولا نعلمه إلا بعد وقوعه خيرًا كان أم شرًّا.

الإيمان بالقضاء والقدر في القرآن والسنة


إن الله -عزَّ وجلَّ- خالق كل شيء وربه ومليكه، والعبد مأمور بطاعة الله ورسوله، ومنهي عن معصية الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، فإن أطاع كان ذلك نعمة من الله يُثاب عليها، وإن عصى ربه كان مستحقًّا للذم والعقاب، وكان لله عليه الحجة البالغة، وكل ذلك كائن بقضاء الله وقدره، لكن الله -عزَّ وجلَّ- يحب الطاعة ويأمر بها، ويثيب أهلها على فعلها ويكرمهم، ويبغض المعصية وينهى عنها، ويعاقب أهلها ويذمهم، وما يصيب العبد من النعم فالله أنعم بها عليه، وما يصيبه من الشر فبذنوبه، وكل ذلك كائن بمشيئة الله وقدره، -سبحانه- جل شأنه.

وفيما يلي حديث عظيم، ووصية غالية من صحابي جليل؛ حتى نقف على أهمية الإيمان بالقضاء والقدر، عن الوليد بن عبادة قال: دخلت على عبادة -يعني أباه عبادة بن الصامت- وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه! أوصني واجتهد لي، فقال: أجلسوني، قال: يا بني، إنك لن تطعم طعم الإيمان، ولن تبلغ حق حقيقة العلم بالله -تبارك وتعالى-، حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. قال: قلت: يا أبتاه، فكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، يا بني! إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أول ما خلق الله -تبارك وتعالى- القلم، ثم قال: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة, يا بني! إن مت ولست على ذلك دخلت النار"

وذكر الله ربنا -سبحانه- القدر في كتابه الكريم، وأخبر أن كل شيء مخلوق بقدر الله العظيم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصرِ﴾ [القمر: 49- 50]، فالله تعالى خالق الكون، وخالق كل سننه وقوانينه، وهو الذي أوجد السماء والأرض، والشمس والقمر، وغيرها، وهو الذي شرع لها نظامها في الحياة، والمسافات التي تفصل بينها، وطريقة حركاتها وسكناتها ومحاور دورانها.

والله تعالى هو الذي أوجد التفاعل والتناسق فيما بينها، وخص بعضها بعوامل الحياة والبقاء بما تستمده من غيرها، وإن كان فيها عوامل الموت والفناء في ذاتها، حكمة بالغة لا يدرك بعضها إلا من تفكر في مخلوقات الله, ونظر نظرة متفكر معتبر في الكون من حوله.

معنى الإيمان بالقضاء والقدر


الإيمان بالقدر: هو التصديق الجازم بأن كل ما يقع في هذا الكون من الخير والشر فهو بقضاء الله وقدره، لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه، وهو الحكيم العليم، قال الله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد: 22، 23].

وقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان، ففي حديث جبريل الطويل لما سأله عن الإيمان قال: قَالَ "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ"

فلا بد للعبد أن يؤمن بقضاء الله وقدره، وأن يوقن بشرع الله وأمره، فإذا أحسن حمد الله، وإذا أساء استغفر الله، وآدم -صلى الله عليه وسلم- لما أذنب تاب فاجتباه ربه وهداه، وإبليس لما أذنب أصر واستكبر، واحتج بالقدر وكفر، فلعنه الله وأقصاه، فمن أذنب وتاب كان آدميًّا، ومن أذنب واحتج بالقدر كان إبليسيًّا.

والقدر نظام التوحيد؛ فمن وحد الله، وآمن بالقدر، تم توحيده، ومن وحّد الله، وكذّب بالقدر، نقض تكذيبه توحيده، نسأل الله العافية في الدين والدنيا والآخرة.

ومن الإيمان بالقدر: الإيمان بتقدم علم الله -سبحانه- وتعالى بما كان، وبما سيكون من أعمال المخلوقات كلها، وصدور جميعها عن تقدير منه وخلقٍ لها، سواء في ذلك خيرها وشرها.

ما الفرق بين القدر الكوني والقدر الشرعي؟


وتتنوع أحكام الله التي يجريها على عباده، منها: الحكم الكوني القدري الذي يجري على العبد بغير اختياره، ولا قدرة له في دفعه، ولا حيلة له في منازعته، كطوله ولونه، وكونه ذكرًا أو أنثى، والأحداث والمصائب التي تجري بغير اختياره كالرياح والأمطار، والزلازل والبراكين، والعواصف، ونحوها، وواجبه أن يتلقى ذلك بالاستسلام والرضا، وترك المخاصمة، وأن يكون العبد فيه كالميت بين يدي الغاسل، وعليه فيه عبوديات أخرى؛ كأن يشهد عزة الله في حكمه، وعدله في قضائه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

عن زَيْد بْن ثَابِتٍ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "وَلَوْ كَانَ لَكَ جَبَلُ أُحُدٍ، أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَإِنَّكَ إِنْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ" ، وأن الكتاب الأول سبق بذلك قبل بدء الخليقة، فقد جفَّ القلم بما سيلقاه كل عبد، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، ويشهد أن القدر ما أصابه، إلا لحكمة اقتضاها اسم الحكيم -جل جلاله-، وأن القدر قد أصاب مواقعه، وحلَّ في المحل الذي ينبغي له أن ينزل به، وأن ذلك موجب أسمائه وصفاته، وحكمه وعدله، فله عليه أكمل حمد وأتمه، كما له الحمد على جميع أفعاله وأوامره.

ومن الحكم الكوني القدري ما يكون للعبد فيه إرادة الدفع، واختيار المقاومة بكل ممكن، كقَدَر المرض والجوع والعطش، ولا يسالم ألبتة، بل ينازع بالحكم الكوني أيضًا، فينازع حكم الحق بالحق للحق، فيكون منازعًا للقدر، لا واقفًا مع القدر، ويفر من قدر الله إلى قدر الله كما أمر الله، ويدفع قدر الله بقدر الله، والبلاء (الطاعون) لما وقع في الشام وقرر حينها الخليفة عمر -رضي الله عنه- عدم دخولها، فلما سمع أبو عبيدة قال: "أحقًّا أنك عزمت النكوص عن الشام؟ عمر: نعم. لا أريد أقدمهم عليه ولي مندوحة عنه. قال أبو عبيدة: أفرارًا من قدَر الله يا عمر؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ نعم نَفِرّ من قدر الله إلى قدر الله".

فإذا جاء قدر الله من الجوع أو العطش، أو البرد أو الحر، أو الألم أو المرض، دُفع بقدر آخر من الأكل والشرب واللباس والدواء، وهكذا لو وقع حريق في داره، فهو بقدر الله، لكنه لا يستسلم له، بل ينازعه ويدافعه ويطفئه بالماء أو بغيره، حتى يطفئ قدر الله بقدر الله، وهكذا لو أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر ونازعه بقدر آخر، يستعمل فيه الأدوية الدافعة للمرض كما أمر الله -سبحانه-.

وموقف العبد من هذا الحكم الكوني القدري أن يحرص العبد على مدافعته ومنازعته بكل ما يمكنه من الأسباب التي نصبها الله وأمر بها، فيكون قد دفع القدر بالقدر، ونازع الحكم بالحكم، وبهذا أُمر، بل هذا حقيقة الشرع والقدر، فلو أن عدوًّا للإسلام قصده لكان هذا بقدر الله، ويجب على المسلم دفع هذا القدر بقدرٍ يحبه الله ويأمر به، وهو الجهاد في سبيل الله بيده وماله وقلبه، دفعًا لقدر الله بقدر الله.

ومن أحكام الله التي يجريها الله على عباده الحكم الديني الشرعي، وهو الدين الذي شرعه الله لعباده، فهذا يُتلقى بالتسليم والقبول والطاعة التامة، وترك المنازعة، وهذا تسليم العبودية المحضة، فلا يعارض ولا يرى إلى خلافه سبيلاً ألبتة، وهذه حقيقة القلب السليم الذي سلم من كل شبهة تعارض إيمانه وإقراره، وسلم من كل شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه، فهذا حق الحكم الديني: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 36].

ان الطاعات والمعاصي كلها واقعة بقضاء الله وقدره الكوني، وكلها عدل، والعدل وضع الشيء في موضعه، والظلم وضع الشيء في غير موضعه، كتعذيب المطيع، ومن لا ذنب له، فهذا قد نزّه الله نفسه عنه بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 40].

والله -سبحانه- وإن أضل من شاء، وقضى بالمعصية والغي على من شاء، فذلك محض العدل فيه؛ لأنه وضع الإضلال والخذلان في موضعه اللائق به، كما وضع الهداية والنصر في موضعه اللائق به، فأفعاله -سبحانه- كلها حق وعدل، وحكمة وصواب.

منزلة الرضا بالأقدار


إن الله -سبحانه- أوضح للناس السبل، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأزاح العلل، ومكَّن من أسباب الهداية والطاعة بالأسماع والأبصار والعقول، وهذا عدله، ووفق -جل وعلا- من شاء بمزيد عناية، فهذا فضله وإحسانه، وخذل من ليس بأهلٍ لتوفيقه وفضله، وخلى بينه وبين نفسه، فقطع عنه فضله، ولم يحرمه عدله, إما جزاءً منه للعبد على إعراضه عنه، وغفلته عن ذكره وشكره، فهو أهل أن يخذله ويتخلى عنه، قال -سبحانه-: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: 53].

ان بعض الناس لا يحب نعمة الهداية، ولا يعرفها، ولا يشكر ربه عليها، فلا يريد الهداية، فهذا لا يشاء الله له الهداية؛ لعلمه بعدم صلاحية محله لها، وأنه لا يستحقها، قال -سبحانه-: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنفال: 23]، فإذا قضى الله -عزَّ وجلَّ- على هذه النفوس بالضلال والمعصية، كان ذلك محض العدل، كما قضى على الحية والعقرب بأن تُقتل، وذلك محض الإحسان والعدل، وإن كان مخلوقًا على هذه الصفة لحكمةٍ يعلمها الله -سبحانه-.

وإياكم والسخط على أقدار الله تعالى، فكثير من الخلق غير راضٍ عن الله -عزَّ وجلَّ-، معترض على دينه وشرعه، وعلى قضائه وقدره، حتى قال بعضهم: "أرأيت إن منعني الله الهدى، وقضى عليَّ بالردى، أحسن إليَّ أم أساء؟"، فهذا وأمثاله على صحة سؤاله يُقال له: "إن منعك الله ما هو لك، فقد ظلم وأساء، وإن منعك ما هو له، فهو يختص برحمته من يشاء، وهو أعلم بمن يصلح لكرامته".

ومما يهون الرضا بما يقضيه الله من المصائب علمُ العبد بأن تدبير الله خير من تدبيره، والرضا بالألم لما يتوقع من جزيل الثواب المدخر، والرضا به لكونه مراد المحبوب -سبحانه-.

وعلى العبد أن يعمل عمل رجل يعلم أنه لن ينجّيه إلا عملُه مع رحمة ربه، ويتوكل على ربه توكل رجل يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، فليس لأحد أن يصعد على سطح ثم يُلقي بنفسه ثم يقول: مقدّر عليّ، ولكن نتقي ونحذر، فإن أصابنا شيء علمنا أنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، قال -سبحانه-: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 51]، ولذلك روي عن عيسى -عليه السلام- أن إبليس جاء إليه، فقال له: ألست تزعم أنه لا يصيبك إلا ما كتب الله لك؟ قال: بلى، قال: فارمِ نفسك من هذا الجبل، فإنه إن قدّر لك السلامة تسلم. فقال: "يا ملعون! إن لله -عز وجل- أن يختبر عباده، وليس للعبد أن يختبر ربه -عز وجل-".

إن كل حادثة تقع لها سببان: الأول: سبب ظاهري يحكم الناس على وَفْقه، وكثيرًا ما يظلمون. والثاني: سبب حقيقي يجري القدر الإلهي على وفقه، فإذا أُدخل مثلاً أحد الأشخاص إلى السجن بتهمة سرقة وهو في الحقيقة لم يرتكبها، ولكن قضى القدر الإلهي عليه بسجنه؛ إما لجناية له خَفِيَّة، أو تربيةً له، لعله يتوب ويستقيم.

كما إن كل شيء في هذا الكون إنما يحصل بقضاء الله وقدره خيرًا كان أو شرًّا، ومع ذلك فلسنا مأمورين بأن نرضى بكل ما قضى الله وقدّر، ولكننا مأمورون بأن نرضى بكل ما أمرَنا الله أن نرضى به كطاعة الله ورسوله، وأن نرضى بدينه وشرعه، وأن نرضى بالقضاء الذي هو صفة الله أو فعله، لا بالمقضي الذي هو مفعوله.

وإذا كانت المعاصي فعل العبد وصنعه وكسبه، إلا أنها لا تقع في الأرض إلا بإذن الله وإرادته، فلا ينبغي لنا أن نرضى بالكفر أو الفسوق أو العصيان، لأن الله لا يحب ذلك.

اختيار الله تعالى لعبده


اعلموا أن اختيار الله تعالى لعبده نوعان:
أحدهما: اختيار ديني شرعي، فالواجب على العبد، أن يقتصر على ما اختاره الله له دونما سواه، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 36].

الثاني: اختيار كوني قدري لا يسخطه الرب كالمصائب التي يبتلي الله بها الناس، فهذا لا يضرّه فراره منها إلى القدر الذي يدفعها عنه، ويكشفها كدفع قدر المرض بقدر الدواء، بل هو مأمور بذلك، وأما القدر الذي يسخطه الله، ولا يحبه ولا يرضاه، مثل قدر المعائب والمعاصي، فالعبد مأمور ببغضها، ولا يشرع الرضا بها.

هناك فرق بين مشيئة الله ومحبته؛ فقد يشاء الله -سبحانه- ما لا يحبه، كمشيئة الله لخلق إبليس وجنوده، ومشيئته العامة لجميع ما في الكون مع بغضه لبعضها.

وقد يحب -سبحانه- ما لا يشاء كونه، كمحبته إيمان الكفار، وطاعات الفجار، وعدل الظالمين، وتوبة الفاسقين، ولو شاء لوجد ذلك كله، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا علم العبد أن القضاء غير المقضي، وأنه -سبحانه- لم يأمر عباده بالرضا بكل ما خلقه وشاءه، زالت الشبهات، ولم يبقَ بين شرع الرب وقدَره تناقض.

منزلة الرضا بالأقدار


إن الرضا بالقضاء الديني الشرعي واجب، وهو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان، قال -سبحانه-: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]، وعَنْ صُهَيْبٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ؛ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ" ، فالمسلم يدور بين الصبر والشكر، يصبر على البلايا ويشكر ربه على العطايا.

وإن الرضا بالقضاء الكوني القدري الموافق لمحبة العبد وإرادته كالصحة والعافية والغنى واللذة أمرٌ لازم بمقتضى الطبيعة؛ لأنه ملائم للعبد، محبوب له، والرضا به ليس عبودية، بل العبودية في حقه مقابلته بالشكر، والاعتراف بمنّة الله، ووضع النعمة مواضعها التي يحب الله أن تُوضع فيها، وأن لا يُعصى المنعم بها، وأن يرى التقصير في جميع ذلك.

إن الرضا بالقضاء الكوني القدري الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته مما لا يلائم الإنسان، ولا يدخل تحت اختياره مستحبٌّ، كالمرض والفقر، والحر والبرد، وأذى الخلق له، ونحو ذلك من المصائب.

وإن الرضا بالقدر الجاري عليه باختياره مما يكرهه الله ويسخطه، وينهى عنه كأنواع الظلم والفسوق والعصيان محرمٌ يعاقب عليه، وهو مخالفة لله -عزَّ وجلَّ-، فالله لا يرضى بذلك ولا يحبه، وبالتالي يحرم على العبد أن يرضى به على نفسه أو غيره.

لماذا خلق الله الشر؟


إن الله -عزَّ وجلَّ- قد يكره الشيء ويبغضه في ذاته، ومع ذلك يقدر وقوعه؛ لكونه سببًا لحصول ما هو أحب إليه من غيره، فقد خلق الله -جل جلاله- إبليس، الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال، والاعتقادات والإرادات، وهو من أسباب شقاوة العبيد، ووقوع ما يغضب الرب -تبارك وتعالى-، فهو مبغوض للرب مسخوط له، لعنه الله وغضب عليه ومقته، ومع هذا فهو وسيلة إلى محابّ كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، وجودها أحب إليه من عدمها.

وإن الذي ينظر في خلق الشرور يجد لها حِكمًا كثيرة، منها: أن تظهر للعباد قدرة الرب في خلق المتضادات، فخلق -سبحانه- إبليس وهو من أخبث الذوات وشرّها، في مقابلة جبريل التي هي أشرف الذوات، وكما خلق -سبحانه- الليل والنهار، والحر والبرد، والحياة والموت، والذكر والأنثى، والماء والنار، والخير والشر ونحو ذلك، وخلق ذلك يدل على كمال قدرته وتدبيره، وعزته وسلطانه، فتبارك الله خالق هذا وهذا، ومدبر هذا وهذا، ومخرج المنافع والمضار من هذا وهذا.

إن خلق الأسباب المتقابلة، التي يقهر بعضها بعضًا، ويكسر بعضها بعضًا، هو من شأن كمال الربوبية، والقدرة النافذة، والملك الكامل، وإن كان شأن الربوبية كاملاً في نفسه ولو لم تخلق هذه الأسباب، لكن ظهور آثارها وأحكامها في عالم الشهادة تحقيق لذلك الكمال الإلهي.

ومن حِكَم خلق الشر: ظهور أسماء الله وأفعاله القهرية كالقهار والمنتقم، والعدل، وشديد العقاب، وسريع الحساب، والخافض، فإن هذه الأسماء والأفعال من كمال ذاته فلا بد من وجود متعلقها، ولو كان الخلق كلهم على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال.

ومن الحكم العالية لخلق الشر: ظهور آثار أسماء الله المتضمنة لحلمه وعفوه، ومغفرته وستره، وتجاوزه عن حقه، فلولا خلق ما يكره من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد.

ومن ذلك أيضًا: ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فهو -سبحانه- الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه، فلا يضع الثواب موضع العقاب، ولا العقاب موضع الثواب، ولا العز مكان الذل، ولا الذل مكان العز، ولا يضع العطاء موضع الحرمان، ولا الحرمان موضع العطاء، ولا الإنعام مكان الانتقام، ولا يأمر بما ينبغي النهي عنه، ولا ينهى عما ينبغي الأمر به، فهو أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم بمن يصلح لقبولها، ويشكره على وصولها، وأعلم بمن لا يصلح لذلك: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: 53]، وهو أحكم من أن يمنعها أهلها، أو أن يضعها عند غير أهلها.

فلو قُدِّر عدم الأسباب المكروهة البغيضة له لتعطلت هذه الآثار، ولم تظهر لخلقه، ولتعطلت تلك الحِكَم والمصالح المترتبة عليها، وفواتها شرّ من حصول تلك الأسباب، وهذا كالشمس والمطر والرياح، فهذه فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر والضرر.

ومن حكم خلق الشر: حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت، فإن الله يحب عبودية الجهاد، ولو كان الناس كلهم مؤمنين، لتعطلت هذه العبودية وتوابعها، من الموالاة في الله والمعاداة فيه، وعبودية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى.

ومنها: أن يتعبد لله بالاستعاذة من عدوه الشيطان وحزبه، وسؤاله أن يجيره منه، ويعصمه من كيده.

ومنها: ظهور العبودية الناتجة من مخالفة عدوه الشيطان، ومراغمته في الله، وإغاظته فيه، وهي من أحب العبودية إليه، فإنه -سبحانه- يحب من وليه أن يغيظ عدوه ويراغمه.

ومنها: أن عبيده -سبحانه- يشتد فزعهم وحذرهم إذا رأوا ما حل بعدوه حين خالف أمر ربه بطرده ولعنه، فيلزمون طاعة ربهم ولا يعصونه.

ومنها: أن نفس اتخاذه عدوًّا من أكبر أنواع العبودية وأجلّها، وهو محبوب للرب، وهم ينالون ثواب مخالفته ومعاداته من ربهم، قال تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: 6].

إن المتأمل في الطبيعة البشرية يجدها مشتملة على الخير والشر، والطيب والخبيث، وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد، فخُلِقَ الشيطانُ ليستخرج ما في طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل، وخُلقت الرسل وأُرسلت لتستخرج ما في طبيعة أهل الخير من القوة إلى الفعل، فاستخرج أحكم الحاكمين ما في قوى هؤلاء من الخير الكامن فيها، ليرتب عليه آثاره، وما في قو ى أولئك من الشر؛ ليرتب عليه آثاره، وتظهر حكمته في الفريقين.

لقد ظنت الملائكة أن وجود من يسبح بحمد الله ويقدسه ويعبده أولى من وجود من يعصيه ويخالفه، فأجابهم -سبحانه- بأنه يعلم من الحكم والمصالح في خلق هذا الإنسان ما لا تعلمه الملائكة، وأن صدور تلك المعاصي لا يعني انعدام الصلاح أو وجود ما هو خير يعقب تلك المعاصي، قال -سبحانه-: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 30].

ومن حِكَم خلق الشرّ أن كثيرًا من آيات الله وعجائب صنعه حصلت بسبب وقوع الكفر والشرك من النفوس الكافرة الظالمة، كآية الطوفان، وآية الريح، وآية إهلاك ثمود بالصيحة، وآية انقلاب النار بردًا وسلامًا على إبراهيم، وآية قلع قرى قوم لوط وقلبها عليهم، وآيات موسى مع فرعون وبني إسرائيل كفلق البحر، وانفجار عيون الماء من الحجر، وانقلاب العصا حية، ونحو ذلك، فلولا كفر الكافرين، وعناد الجاحدين، لما ظهرت هذه الآيات الباهرة، ومع ظهورها فما أقل من يؤمن بها: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء: 139، 140].

إن الآيات والعجائب والفوائد التي ترتبت على خلق ما لا يحبه الله ولا يرضاه وتقديره ومشيئته أحب إليه -سبحانه- من فواتها وتعطيلها بتعطيل أسبابها، فإن قيل: فإن كانت هذه الأسباب مرادة للرب، فهل تكون مرضية محبوبة له؟ قيل: هو -سبحانه- يحبها من جهة إفضائها إلى محبوبه، وإن كان يبغضها لذاتها.

وإن الرضا بالله يستلزم الرضا بأسمائه وصفاته، وأفعاله وأحكامه، ولا يستلزم الرضا بمفعولاته كلها، بل حقيقة العبودية أن يوافق العبد ربه في رضاه وسخطه، فيرضى منها بما يرضى به، ويسخط منها ما سخطه، فإن قيل: كيف يجتمع الرضا بالقضاء الذي يكرهه العبد من المرض والفقر والألم مع كراهته له؟ قيل: لا تنافي في ذلك، فإنه يرضى به من جهة أنه يفضي به إلى ما يحب، ويكرهه من جهة تألمه به، كالدواء الكريه الذي يعلم أن فيه شفاءه، فإنه يجتمع فيه رضاه به، وكراهته له، فإن قيل: كيف يحب الله لعبده شيئًا ولا يعينه عليه؟ قيل: لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له.

وقد يكون وقوع بعض الطاعات من العبد متضمنًا لمفسدة هي أكره إليه -سبحانه- من محبته لتلك الطاعة، أو بعبارة أخرى أن يكون ترك الطاعة أحب إلى الله من فعلها، قال -سبحانه-: ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [التوبة: 46، 47].

المخاصمون في القدر


المخاصمون في القدر فريقان: أحدهما: من يبطل أمر الله ونهيه بقضائه وقدره كما قال -سبحانه-: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: 148]، والثاني: من ينكر قضاء الله وقدره السابق، وكلا منهما خصماء لله.

ومن كذّب بالقدر، فقد كذّب بالإسلام، فإن الله -تبارك وتعالى- قدَّر أقدارًا، وخلق الخلق بقدَر، وقسم الآجال بقدر، وقسم الأرزاق والعافية بقدر، وأمر ونهى، وأحل وحرم، قال -سبحانه-: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49]، وقال -سبحانه-: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ [القمر: 52، 53]، والقدر هو تقدير الله للكائنات، وهو سر مكتوم لا يعلمه إلا الله، ومن شاء من خلقه، ولا نعلمه إلا بعد وقوعه سواء أكان خيرًا أم شرًّا.

المرجع :

لا تنس ذكر الله
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
0 / 100

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية