الصوم وعبادة السر

الصوم وعبادة السر
الفئة: رمضانيات

الصوم وعبادة السر


عبادة السر


عبادة السر هي العبادة التي تكون خالصة لله تعالى وحده ، بعيدة كل البعـد عـن الرياء والسمعة ، وهذا ما يعلمنا إياه الصوم ، فهو يربي النفوس علـى التقـوى والإخلاص ، وحسن المراقبة والخشية من الله تعالى وحده ، قال تعالى : ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقونَ﴾ [البقرة: ١٨٣]

لذا فقد جعل الله تعالى أجر الصوم منه وحده فلا يطلع عليه ملك فيكتبه ولا حاسب غير الله فيحسبه ، عن أبي هريرة ، وأبي سعيد ، قالا : قال رسول الله ﷺ : «إن الله عز وجل يقول إن الصوم لي وأنا أجزى به إن للصائم فرحتين إذا أفطر فرح وإذا لقي الله فرح والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيـب عند الله من ريح المسك».أخرجه أحمد ٢٣٢/٢ ( ٧١٧٤ ) و " مسلم " ١٥٨/٣ .
قال المناوي : « أجزي به صاحبه جزاء كثيراً ، وأتولى الجزاء عليه بنفسي فلا أكله إلى ملك مقرب ولا غيره لأنه سر بيني وبين عبدي ، لأنه لما كـف نـفـسـه عـن شهواتها جوزي بتولي الله سبحانه إحسانه » . "فيض القدير " ( ٣٥٠/٤ ) .

وفي طيب ريح خلوف الصائم عند الله عز وجل معنيان : أحدهما : أن الصيام لما كان سراً بين العبد وبين ربه في الـدنيا أظهـره الله فـي الآخرة علانية للخلق ليشتهر بذلك أهل الصيام ويعرفون بصيامهم بين الناس جزاء لإخفائهم صيامهم في الدنيا . قال مكحول : يروح على أهل الجنة برائحة فيقولون : ربنا ما وجدنا ريحاً منذ دخلنا الجنة أطيب من هذا الريح فيقال : هذه رائحة أفواه الصوام .


فالعبادات كلها تستطيع إثباتها والتدليل عليها خلا الصوم ، فلو أقسمت علـى أن فلانا قد صلى ، فقلنا لك : ما الدليل على ذلك ؟. قلت : كان بجواري في الـصف ، ساعتها نقول لك : صدقت ، ولو أقسمت على أن فلاناً قد دفع الزكاة مـن مـالـه للفقراء والمحتاجين ، فقلنا لك : وكيف عرفت ؟ . فقلت : رأيته بعيني ، لقلنا لـك : "صدقت ، ولو قلت : إن فلانا قد حج إلى بيت الله الحرام وأدى المناسك ، فطالبناك بالدليل ، فقلت : كان معي ، لقلنا لك : صدقت .. وهكذا في سائر العبادات أما إذا أقسمت على أن فلاناً قد صام فقلنا لك : ما دليلك ؟ . صعب عليـك إثبـات ذلك ، فمن أدراك أنه صائم ؟ . لذا كان الصوم لله وحده لا يعرف أمره ولا سره إلا من أطلع على أسرار النفوس وخبايا الصدور.

فعن صفوان ، عن أبي سعيد ، عن النبي ﷺ قال :« من صام يوما في سبيل الله ، عز وجل باعد الله وجهه من جهنم سبعين عامـا ». أخرجه أحمد والنسائي . فعلى الرغم أن الله تعالى قال في محكم تنزيله : ﴿قُل إِنَّ صَلاتي وَنُسُكي وَمَحيايَ وَمَماتي لِلَّهِ رَبِّ العالَمينَ۝لا شَريكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرتُ وَأَنا أَوَّلُ المُسلِمينَ﴾ [الأنعام: ١٦٢-١٦٣].

لا يطلع على الصوم إلا الله


إلا أن الصوم له خصوصية عبادة السر التي لا يطلع عليها إلا رب العزة تبـارك وتعالى . فالله تعالى يريد من عباده أن يجعلوا عبادتهم ونسكهم خالصة له تعالى وحده حتى تقبل ، في الحديث المرسل عن ابن عباس ، قال : قال رجل يا رسول الله ، إني أقف الموقف أريد وجه الله ، وأريد أن يرى موطني ، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت: ﴿قُل إِنَّما أَنا بَشَرٌ مِثلُكُم يوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُم إِلهٌ واحِدٌ فَمَن كانَ يَرجو لِقاءَ رَبِّهِ فَليَعمَل عَمَلًا صالِحًا وَلا يُشرِك بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠] البيهقي : شعب الإيمان.

الرياء شرك


وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال : « أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضى بينهم وكل أمـة جائيـة فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل الله ورجل كثيـر المـال فيقول الله للقارئ ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي قال بلى يا رب . قـال فمـاذا عملت فيما علمت قال كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار . فيقول الله له كـذبت .وتقول له الملائكة كذبت ويقول الله له بل أردت أن يقال إن فلانا قارئ فقد قيـل ذاك . ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد قال بلى يا رب . قال فماذا عملت فيما أتيتك قال كنت أصل الرحم وأتـصدق . فيقول الله له كذبت وتقول له الملائكة كذبت ويقول الله تعالى بل أردت أن يقـال فلان جواد فقد قيل ذاك . ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له فـي مـاذا قتلت فيقول أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت . فيقول الله تعالى له كذبت وتقول له الملائكة كذبت ويقول الله بل أردت أن يقال فلان جرىء فقد قيـل ذاك . ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال يا أبا هريـرة أولئـك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة» . أخرجه البخاري في خلق أفعال العبـاد و " التـرمذي و النــسائي فـي الكبـرى و ابـن خزيمة

وعن عمر بن الخطاب ، أنه خرج يوما إلى مسجد رسـول الله ﷺ ، فوجد معاذ بن جبل قاعدا عند قبر النبي ﷺ يبكي ، فقال : ما يبكيك ؟ قال : يبكيني شيء سمعته من رسول الله ﷺ ، سمعت رسول الله ﷺ يقول : « إن يسير الرياء شـرك ، وإن مـن عادى الله وليا ، فقد بارز الله بالمحاربة ، إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفيـاء ، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا ، وإن حضروا لم يدعوا ولم يعرفوا ، قلوبهم مـصابيح الهدى ، يخرجون من كل غبراء مظلمـة » . أخرجـه ابـن ماجة والحاكم، والبيهقي أيضا في " شعب الإيمان والألباني

وفي الصحيح من حديث ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ: «لأعلمن أقواما من أمتي يوم القيامة يأتون بحسنات كأمثال الجبال بيـضا ، يجعلها الله هباء منثورا » . قال ثوبان : صفهم لنا أن لا نكون منهم يـا رسـول الله ! قال : « أما إنهم إخوانكم ، ومن جلدتكم ، ويأخذون من الليل كما تأخـذون ، لكـنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها » .أخرجه ابن ماجه

يروى أن مسلمة بن عبد الملك كان في جملة من الجند يحاصرون إحـدى قـلاع الروم ، وكانت محصنة والدخول إليها صعباً إلا من نقب فيها تخرج منه أوسـاخ المدينة ، فوقف مسلمة ينادي في الجند : من يدخل النقب ويزيح الـصخرة التـي تحبس الباب ويبكر حتى ندخل فقام رجل قد غطى وجهه بثوبه وقال إنـا يـا أميـر الجند ودخل النقب وفتح الباب ودخل الجند القلعة فاتحين .. وبعدها وقف مـسلمة بين الجند ينادي عن صاحب النقد حتى يكرمه على ما فعل ، وكان يردد من الـذي فتح لنا الباب فما يجيبه احد ! فقال أقسمت على صاحب النقب أن يأتيني فـي أي ساعة من ليل أو نهار . فطرق باب مسلمة طارق ليلاً ، فيلقاه مسلمة مستبـشراً أنت صاحب النقب فقال الطارق هو يشترط ثلاثة شروط حتى تراه . قال مـسلمة وما هي . قال : ألا ترفع اسمه لدى الخليفة ولا تأمر له بجائزة ولا تنظر له بعين من التمييز ، قال مسلمة افعل له ذلك . فقال الطارق أنا صاحب النقب وانـصرف وترك جيش مسلمة ذاهبا إلى سد الثغور في أماكن أخرى " ( ابـن منـظـور : مختـصر تاریخ دمشق ۳۷۳/۷ ) .

الصوم يربينا على عبادة السر


لذا فإن الصوم يربينا ويعلمنا على أفضل العبادات : عبادة السر ، يقول ابن القـيم – معلقاً على عبارة أمير المؤمنين : « ومن تزين بما ليس فيه شانه الله »: «لما كان المتزين بما ليس فيه ضد المخلص ، فإنه يظهر للناس أمراً وهو في البـاطن بخلافه ، عامله الله بنقيض قصده ، فإن المعاقبة بنقيض القصد ثابتة شرعاً وقدراً ، ولما كان المخلص يعجل له من ثواب إخلاصه الحلاوة والمحبة والمهابـة فـي قلوب الناس ، عجل للمتزين بما ليس فيه من عقوبته ، أن شانه الله بين الناس ، ؛ لأنه شان باطنه عند الله ، وهذا موجب أسماء الرب الحسنى وصفاته العليـا » ( و إعلام الموقعين : ۱۸۰/۳ ) .

ورضي الله عن عمر الفاروق القائل : « فمن خلصت نيته في الحق ، ولـو علـى نفسه ، كفاه الله ما بينه وبين الناس ، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله » .


قال ابن أبي عون :" صام داوود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهلـه ،، كـان يحمل معه غذاءه فيتصدق به في الطريق" ، قال ابن الجوزي :" فيظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت ويظن أهله أنه قد أكل في السوق" .التذكرة الحمدونية ٥١/١

فكما أن هؤلاء قد أخلصوا الله تعالى في صومهم فإنهم أيضا يجب أن يخلصوا لـه في سائر عبادتهم ، فيخلصون له في صلاتهم ويجعلونها له سبحانه وحده ، لـذا كانت صلاة الليل من أفضل الصلوات لأنها تكون سراً بين العبد وربه ، وقال تعالى في وصف المؤمنين المتقين : ﴿إِنَّ المُتَّقينَ في جَنّاتٍ وَعُيونٍ۝آخِذينَ ما آتاهُم رَبُّهُم إِنَّهُم كانوا قَبلَ ذلِكَ مُحسِنينَ۝كانوا قَليلًا مِنَ اللَّيلِ ما يَهجَعونَ۝وَبِالأَسحارِ هُم يَستَغفِرونَ۝وَفي أَموالِهِم حَقٌّ لِلسّائِلِ وَالمَحرومِ﴾ [الذاريات: ١٥-١٩]

عن سهل بن سعد أإن النبيﷺ قال : « أتاني جبريل ، فقال : يا محمد عش ما شئت فإنك ميت أحبب من شئت ، فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزي به ، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل عزه اسـتغناؤه عـن النـاس ». أخرجه الطبرانـي فـي " الأوسط " ( ٢/٦١/1 وأبـو نـعـيـم فـي " الحطيـة " ( ٣ / ٣٥٣ ) و الحاكم ( ٤ / ٣٣٤ – ٣٢٥ ) و قال : " صحيح الإسناد " ! و وافقه الذهبي ! الألباني في " السلسلة الصحيحة " ٥٠٥/٣ .

عن زيد بن ظبيان ، يرفعه إلى أبي ذر ، عن النبي ﷺ ، قـال : « ثلاثة يحبهم الله ، وثلاثة يبغضهم الله ، فأما الذين ؛ يحبهم الله ، فرجل أتى قومـا فسألهم بالله ، ولم يسألهم بقرابة بينه وبينهم ، فمنعوه ، فتخلف رجـل بأعقـابهم فأعطاه سيرا ، لا يعلم بعطيته إلا الله والذي أعطاه ، وقوم ساروا ليلتهم حتـى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به ، نزلوا فوضعوا رؤوسهم ، فقام أحدهم يتملقني ويتلو آياتي ، ورجل كان في سرية ، فلقي العدو فهزموا ، وأقبل بصدره حتى يقتل ، أو يفتح له . والثلاثة الذين يبغضهم الله : الشيخ الزاني ، والفقيـر المختـال ، والغني الظلوم » . أخرجه " أحمد " ١٥٣/٥ ( ٣١٦٨٣ ) و " الترمذي " ٣٥٦٨ و " النسائي " وأخرجـه أحمـد ٤٥١/٥ ( ٢٤١٩٢ ) و " ابـن ماجـة " ١٣٣٤ والترمذي " ٢٤٨٥ الألبـانـي : الصحيحة 113/3 .

أحاديث وأقوال السلف التي تبين أهمية العبادة في السر


عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ﷺ : « رحم الله رجلا قام من الليل فصلى ، وأيقظ امرأته فصلت ، فإن أبت نضح في وجهها الماء ، ورحـم الله امرأة قامت من الليل فصلت ، وأيقظت زوجها فصلى ، فإن أبي نضحت في وجهه الماء» . أخرجه أحمد ٢٥٠/٢ ( ٧٤٠٤ ) و ( ( أبـو داود ) ) ۱۳۰۸ و ( ( ابـن ماجة ) ) .

عن محمود بن لييد ، قال : خرج النبي ﷺ، فقال : «أيها الناس ، إياكم وشرك السرائر ، قالوا : يا رسول الله ، وما شرك السرائر ؟ قال : يقـوم الرجل فيصلي ، فيزين صلاته ، جاهدا ، لما يرى من نظر الناس إليه ، فذلك شرك السرائر» . ابن خزيمة ٣٧ ، صحيح الترغيب والترهيب ۸/1 .

كان عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول : «لأن أصلي في جوف الليل ركعـة أحب إلي من أن أصلي بالنهار عشر ركعات ».


قال الشاعر :
لله قوم أخلصوا في حبـه
فأختصهم ورضا بهم خداماً
قوم إذا هجم الظلام عليهم
قاموا فكانوا سجدا و قياما
يتلذذون بذكره في لعليهم
و نهارهم لا يفترون صياما
فسيفرحون بورد حوض محمد
و سيسكنون من الجنان خياما
و سيغنمون عراسا بعراس
و يبوؤون من الجنان مكانا
و تقر أعينهم بـما أخفى لهم
و سيسمعون من الجليل سلاما

عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله ﷺ :« كم من أشـعث . أغبر ، ذي طمرين ، لا يؤبه له ، لو أقسم على الله لأبره ، منهم البراء بن مالك» . أخرجه الترمذي ( ٣٨٥٤ ) الألباني : رقم : ٤٥٧٣ في صحيح الجامع .

كان بشر الحافي يقول :« اللهم إنك تعلم أن الذل أحب إلي من العز ، وأن الفقر أحب إلي من الغنى ، وأن الموت أحب إلي من االبقاء». وعنه ، قال : «قد يكون الرجل مرائياً بعد موته ، يحب أن يكثر الخلق في جنازته . لا تجد حلاوة العبادة حتى تجعل بينـك وبين الشهوات سدا» . السير 416/19
.
وكما أخلصوا في صلاتهم وجعلوها سرا بينهم وبـين ربهـم فـإنهم – كـذلك – يخلصون في صدقاتهم ويجعلونها خالصة له تعالى وحده ، قال تعـالى : ﴿الَّذينَ يُنفِقونَ أَموالَهُم بِاللَّيلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُم أَجرُهُم عِندَ رَبِّهِم وَلا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنونَ﴾ [البقرة: ٢٧٤]

وقال تعالى :﴿وَما يَستَوِي الأَحياءُ وَلَا الأَمواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسمِعُ مَن يَشاءُ وَما أَنتَ بِمُسمِعٍ مَن فِي القُبورِ۝إِن أَنتَ إِلّا نَذيرٌ۝إِنّا أَرسَلناكَ بِالحَقِّ بَشيرًا وَنَذيرًا وَإِن مِن أُمَّةٍ إِلّا خَلا فيها نَذيرٌ۝وَإِن يُكَذِّبوكَ فَقَد كَذَّبَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم جاءَتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالكِتابِ المُنيرِ۝ثُمَّ أَخَذتُ الَّذينَ كَفَروا فَكَيفَ كانَ نَكيرِ۝أَلَم تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخرَجنا بِهِ ثَمَراتٍ مُختَلِفًا أَلوانُها وَمِنَ الجِبالِ جُدَدٌ بيضٌ وَحُمرٌ مُختَلِفٌ أَلوانُها وَغَرابيبُ سودٌ۝وَمِنَ النّاسِ وَالدَّوابِّ وَالأَنعامِ مُختَلِفٌ أَلوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخشَى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ غَفورٌ۝إِنَّ الَّذينَ يَتلونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقوا مِمّا رَزَقناهُم سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرجونَ تِجارَةً لَن تَبورَ۝لِيُوَفِّيَهُم أُجورَهُم وَيَزيدَهُم مِن فَضلِهِ إِنَّهُ غَفورٌ شَكورٌ﴾ [فاطر: ٢٢-٣٠]

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : عن النبي ﷺ قال : «صدقة السر تطفئ غضب الرب ، وصلة الرحم تزيد في العمر ، وفعل المعـروف يقي مصارع السوء ». شعب الإيمان ( ٣٤٤٢ ) صحيح الجامع ( ٣٧٦٠ ) .

وعن أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ قال : « سـبعة يظلهـم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل ، ورجل ذكر الله في خلاء ففاضت عيناه ، ورجل كان قلبه معلقـا فـي المسجد ، ورجلان تحابا في الله ، ورجل دعته امرأة ذات منـصب وجمـال إلـى نفسها فقال : إنى أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لم تعلم شماله ما صنعت يمينه ». أخرجه : البخاري ١٣٨/٣ ( ١٤٣٣ ) ، ومسلم ۹۳/۳ ( ۱۰۳۱ ) ( ۹۱ ) .

وهذا علي بن الحسين زين العابدين يحمل الصدقات والطعام لـيـلا علـى ظهـره ، ويوصل ذلك إلى بيوت الأرامل والفقراء في المدينة ، ولا يعلمون من وضـعها ، وكان لا يستعين بخادم ولا عبد أو غيره .. لئلا يطلع عليه أحـد .. وبقـي كـذلك سنوات طويلة ، وما كان الفقراء والأرامل يعلمون كيف جاءهم هذا الطعام .. فلما مات وجدوا على ظهره آثاراً من السواد ، فعلموا أن ذلك بسبب ما كان يحمله على ظهره ، فما انقطعت صدقة السر في المدينة حتى مات زين العابدين وعـن ابـن عائشة قال : «سمعت أهل المدينة يقولون : ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين !!» . الحلية ١٣٦/٣ ، صفة الصفوة ٩٦/٣ .

ولا يكون الإخلاص في الصوم والصلاة والصدقة بل في سائر أعمالهم ، عن قيس بن أبي حازم قال سمعت الزبير بن العوام يقول أيكم استطاع أن يكون له خبيئة من عمل صالح فليفعل . الزهد لابن المبارك ٣٩٣ . قال الخريبي : كانوا يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا تعلم بـه زوجته ولا غيرها . " تهذيب الكمال " : ٦٧٨ .

أبو بكر الصديق وعبادة السر


كان أبوبكر رضي الله عنه إذا صلى الفجر خرج إلى الصحراء ، فـاحتبس فيهـا شيئا يسيرا ، ثم عاد إلى المدينة . فعجب عمر رضي الله عنه من خروجه فتبعـه يوما خفية بعدما صلى الفجر فإذا أبوبكر يخرج من المدينة ، ويأتي علـى خيمـة قديمة في الصحراء فاختبأ له عمر خلف صخرة ، فلبث أبوبكر في الخيمـة شـيئا يسيرا ثم خرج فخرج عمر من وراء صخرته ودخل الخيمة فإذا فيها امرأة ضعيفة عمياء وعندها صبية صغار ، فسألها عمر : من هذا الذي يـأتيكم ، فقالـت : لا أعرفه ، هذا رجل من المسلمين يأتينا كل صباح منذ كذا وكذا ، قال : فماذا يفعل ؟ قالت : يكنس بيتنا ، ويعجن عجيننا ويحلب داجننا ثم يخرج . فخرج عمـر وهـو يقول : لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر ، لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبـا بكر . تاريخ دمشق لابن عساكر ۳۴۲/۳٠ .

السلف الصالح وحسن الإخلاص في العبادة


و أن يوم المحشر سأل عبد ربه : يا رب أين فلان وفلان لم أرهم ؟ قـال جـل وعلا هؤلاء عبدوني سرا فأدخلتهم جنتي سرا . ولقد ضرب السلف الصالح رضوان الله عليهم أروع الأمثلة في حسن الإخـلاص في العبادة لله رب العالمين ، من ذلك ما روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنـه كان يصلي في بيته فإذا شعر بأحد قطع صلاة النافلة ونام على فراشه – كأنه نائم – فيدخل عليه الداخل ويقول : هذا لا يفتر من النوم ؟! غالب وقتـه علـى فراشـه نائم ؟! وما علموا أنه يصلي ويخفي ذلك عليهم قال الأعمش : كنت عند إبراهيم النخعي وهو يقرأ في المصحف ، فاستأذن . رجل فغطى المصحف وقال : لا يراني هذا أني أقرأ فيه كل ساعة .

وللإمام الماوردي قصة في الإخلاص في تصنيف الكتب ، فقد ألف المؤلفات فـي التفسير والفقه وغير ذلك ولم يظهر شيء في حياته ، ولما دنت وفاته قال لشخص يثق به : الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي وإنما إذا عاينت الموت ووقعت في النزع فاجعل يدك في يدي فإن قبضت عليها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء فاعمد إليها وألقها في دجلة بالليل وإذا بسطت يدي فاعلم أنها قبلت مني وأني ظفرت بما أرجوه من النية الخالصة ، فلما حضرته الوفاة بسط يده ، فأظهرت كتبه بعد ذلك . ودخل عبد الله بن محيريز دكاناً يريد أن يشتري ثوباً ، فقـال رجـل قـد عرفـه لصاحب المحل : هذا ابن محيريز فأحسن بيعه ، فغضب ابن محيريز وطرح الثـوب وقال " إنما نشتري بأموالنا ، لسنا نشتري بديننا " .

وروی صاحب طبقات الحنابلة : أن عبد الغني المقدسي المحدث الـشهير ، كـان مسجونا في بيت المقدس في فلسطين ، فقام من الليل صادقاً مع الله مخلصاً ، فأخـذ يصلي ، ومعه في السجن قوم من اليهود والنصارى ، فأخذ يبكي حتى الصباح ، فلما أصبح الصباح ورأى أولئك النفر هذا الصادق العابد المخلص ، ذهبوا إلى السجان ، وقالوا : أطلقنا فإنا قد أسلمنا ، ودخلنا في دين هذا الرجـل ، قـال : ولـم ؟ أدعـاكم للإسلام ؟ قالوا : ما دعانا للإسلام ، ولكن بتنا معه في ليلة ذكرنا بيوم القيامة .. ! . ورأى ابن عمر رجلا يصلي ويتابع فقال له : ما هذا ؟ قال : إني لم أصل البارحـة ، فقال ابن عمر : أتريد أن تخبرني الآن ! إنما هما ركعتان . ووقف رجل يصلي في المسجد ، فسجد وجعل يبكي بكاء شديداً ، فجاء إليه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه فقال : " أنـت .. أنت .. لو كان هذا في بيتك " . ، كان الإمام أحمد يقول : " أحب أن أكون بشعب في مكة حتى لا أعرف ، قد بليـت بالشهرة ، إنني أتمنى الموت صباحاً ومساء " . قال الشافعي : " وددت أن الناس تعلموا هذا العلم على ألا ينسب إلي منه شيء " . روي عن ابن الجوزي عن الحسن أنه قال : كنت مع ابن المبـارك فأتينـا علـى سقاية والناس يشربون منها ، فدنا منها ليشرب ولم يعرفه الناس ، فزحموه ودفعوه ،فلما خرج قال لي : ما العيش إلا هكذا ، يعني حيث لم نعـرف ولـم نـوقر . انظر : خمسون قصة من إخلاص السلف : أرشيف ملتقى المحدثين ( الموسوعة الشاملة ٤٠٣/٢ )

فتعلم من الصوم حسن الإخلاص لله تعالى ، وحسن المراقبة له وحده ، وتعلم منه أن تدفن حسناتك كما تدفن سيئاتك اللهم اجعلنا ممن يقولون فيعملون ، ويعملون فيخلصون ، ويخلصون فيقبلـون ، ويقبلون فيفوزون .

لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100

إقرأ المزيد :




الفئة: رمضانيات
عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية