الكذب

الكذب

ذم الكذب


إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء: 1].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الناس، إن الصورة المشرقة لأي مجتمع من مجتمعات البشرية هي سمو أخلاقه، واستقامة سلوكه، وإن البشرية منذ نشأتها لم تزل متعارفة على تعظيم محاسن الأخلاق ومحبة أهلها، وتحقير مساوئ الأخلاق وذم أصحابها. وإن الأنبياء والحكماء والعقلاء والمصلحين في كل أمة لم يقصروا في إرساء أبنية الخلق القويم وهدم أكواخ الخلق الأثيم. والإنسان مدني بطبعه اجتماعي بفطرته، لا يأنس إلا بالعيش مع الآخرين، وبهذا الاجتماع والحياة المشتركة يحصل الابتلاء، وتظهر معادن الرجال في امتثال محاسن الأخلاق في الأقوال والأفعال.

عباد الله، إنه لم يتفق الأنام على اختلاف أديانهم وبيئاتهم كاتفاقهم على ذم الكذب ومدح الصدق، ففي كل زمان يُرى الكذب خلقاً مبتذلاً، والاتصاف به سمة دنيئة لا تليق بالإنسان العاقل.

لقد كان العرب في جاهليتهم يأنف الرجل منهم أن يقال عنه: كذاب. وقال أبو سفيان رضي الله عنه -قبل إسلامه في قصة دخوله على هرقل-: (فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عنه).

عباد الله، إن خلق الكذب بوابة لمساوئ الأخلاق، وجسر إلى رذائل الأعمال وتغيير الفطر المستقيمة، وانحراف العادات القويمة، قال النبي صلى الله عليه و سلم: ( إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقاً وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ).

هذا الخلق الدنيء قد ينشأ عن المعتقدات المنحرفة، فمن كان اعتقاده مبنياً على الكذب ويعده قربة يتقرب بها إلى الله تعالى فلا يبالي بالتحلي بالكذب ومعرفة ذلك عنه وشهرته به.

أو ينشأ عن الأفكار المائلة، فمن كان فكره منحرفاً يحاول إقناع الناس بما عنده بما يستطيع من الوسائل، ولن يسلم من ركوب مطية الكذب حتى يصل إلى هدفه.

أو ينشأ عن النفوس التي مردت على الخلق السيئ. فمن كانت نفسه معتادة على الأخلاق السيئة والبعد عن الاستقامة والهدى فإنه لن ينأى عن سلوك طريق الكذب حتى يحقق لنفسه المصالح ويدفع عنها المضار.

أيها الأحبة الكرام، إن للتربية والنشأة الأولى للإنسان أثرها في هذا الخلق، فمن نشأ على حب الصدق وبغض الكذب قل أن يكون كذاباً في كبره، ومن تربى على سماع الكذب ومحبته وممارسته قل أن يكون صادقاً عندما يكبر؛ ولذلك قال لقمان لابنه: "يا بني، احذر الكذب؛ فإنه شهي كلحم العصفور، من أكل شيئاً منه لم يصبر عنه". وقال بعض الحكماء: " من استحلى رضاع الكذب عسر فطامه".

ولأجل هذا كان من الأهمية الكبيرة تربية الأطفال على ملازمة الصدق وتجنب الكذب، وذلك بتعود الوالدين على الصدق أمام الأطفال وبعدهم عن الكذب، وتعويدهم على هذه الحال.

وعن عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال: (دعتني أمي يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا فقالت: ها تعال أعطك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمراً فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنك لو لم تعطه شيئًا كتبت عليك كذبة).

عباد الله، إن خلق الكذب يورث فساد الدين والدنيا، ويدمر صاحبه ويهلك المجتمع الذي يعيش فيه.

فالكذب يذهب المروءة والبهاء، ويغرس لصاحبه الصغار والازدراء، ويذهب قيمة الإنسان من بين الناس، ويجعله مهاناً ذليلاً مفضوحاً بكذبه في الدنيا والآخرة، وعند الله وعند خلقه، ويكفيه ذمًّا أن النفاق صورة من صوره، وأن أهله ممن تنالهم لعنة الله تعالى.

يقول تعالى عن المنافقين: ﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 10].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر).

وقال تعالى: ﴿ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ [آل عمران: 61].

أيها المسلمون، إن الكذب ليس في مرتبة واحدة في الذم، بل على مراتب، فالكذب على الله بأنه أمر بكذا ولم يأمر، أو نهى عن كذا ولم ينه، أو أباح كذا ولم يبح فهذا أشنع الكذب وأشده.

قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ﴾ [النحل: 116].

وقال: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 32].

والكذب على رسول الله ليس كالكذب على أحد من الناس، كأن يقال: إنه قال كذا ولم يقل، أو فعل كذا ولم يفعل، أو شرع كذا ولم يشرع.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن كذباً علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).

فليحذر المسلم أن يتقول على الله تعالى أو على رسوله صلى الله عليه وسلم أو على دين الإسلام ما لم يكن كذلك.

قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الأنعام: 21].

عباد الله، إن الكذب في الأصل يولد في القلب، ثم يظهر على اللسان وينتقل بعد ذلك في الجوارح. حتى ينتج كذب الأقوال وكذب الأفعال، وعلى هذا فليس الكذب مقصوراً على قول اللسان فحسب. فأهل النفاق والرياء كذابون في أفعالهم وعباداتهم؛ لأن ظاهرها العمل لله، وباطنها العمل للخلق. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله عز وجل - إذا جزى الناس بأعمالهم -: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء).

معشر المسلمين، من صور الكذب المشاهدة: نقض العهود وإخلاف الوعود؛ لأن الإنسان الصادق إذا عاهد وفَّى وإذا وعد أنجز ما وعد، إلا أن يحول بينه وبين ذلك حائل خارج عن إرادته. قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1].

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) [متفق عليه].

ومن صور الكذب:

شهادة الزور، وهي قلب الحقائق رغبة في مطلوب أو رهبة من مخوف، خاصة في المنازعات.

قال تعالى: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ [الحج: 30].

ومن صور الكذب:

الكذب في الشهادات، وإعطاؤها لمن لا يستحقها، وهذه خيانة عظيمة للدين ولدنيا الناس، فكم سيفسد صاحب الشهادة المزورة في المجتمع، فكم من مريض مات لأن معالجه لم يكن طبيباً متخصصاً في مرضه، أو لكونه غير طبيب ابتداءً.

ومن صور الكذب:

الظهور بمظاهر العلماء والتحدث باسمهم ممن ليس عالماً حقًّا؛ ولذلك أصبحنا نرى من يحل الحرام، أو يحرم الحلال.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) [متفق عليه].

ومن صور الكذب:

إقامة الحفلات والمسرحيات التي مبناها على الكذب والغرض منها إضحاك الناس والترويح على الجمهور كما يقولون.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب ويل له ويل له) [رواه أبو داود والترمذي وأحمد، وهو حسن].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) [رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وهو صحيح].

أيها المسلمون، لقد كان الكذب في الأزمنة السابقة لعصرنا شيئاً مقبوحاً وأمراً مشيناً، أما في عصرنا فقد لبس الكذب لبوس الصدق وغدا حقًّا بعدما كان باطلاً، ومعروفاً بعد ما كان منكراً، وذكاء ومروءة وكياسة بعدما كان لؤماً، وحسن تصرف وحصافة بعدما كان جهلاً، حتى لقد أضحى أهله يشار إليهم بالبنان، فسبحان الله! هذا الذي جرى بسبب انقلاب الموازين، ومن تابع ما يعرض حوله سيجد أن الكذب فيه يغزل غزلاً ويصنع صناعة ثم يقدم للجمهور على أنه الحقيقة والصدق وما سواها الباطل والكذب، إلا ما قل، فكم غيرت هذه الوسائل من مفاهيم صحيحة، وقُلبت من سلوكيات مستقيمة.

وإذا ذهب الإنسان إلى الأسواق سيرى أن الكذب قد أقام فيها وخرج من نسله المشؤوم: الغش والتدليس واليمين الغموس، والحيلة والخداع وذهاب البركة ومحق الأرباح.

فنسأل الله أن يصلح الأحوال.

قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

أيها المسلمون، إن مطابقة القول للعمل، والظاهر للباطن، والخبر للواقع، هي حقيقة الصدق، صدق في الأقوال وصدق في الأفعال وصدق في الأحوال، وصدق في الظاهر وصدق في الباطن، فلا كذب ولا رياء ولا نفاق ولا خداع.

فالصدق بهذا المفهوم العام هو الذي يجب أن يكون عليه المسلم، فالأصل في المسلم الصدق، وأما الكذب فهو خلق طارئ على الفطرة السليمة والعقل المستقيم والخلق الحميد والدين الصحيح.

إن الصادقين -حينما يخالطون الكافرين- يمثلون الوجه المشرق للمسلمين، وأما الكذبة فهم الوجه المشوه الذين أساؤوا للمسلمين باتصافهم بهذا الخلق الذميم. وتعجب عندما تجد من أولئك الكافرين من هو أصدق منطقاً من بعض المسلمين.

عباد الله، إن أهل الصدق يعيشون في طمأنينة وراحة، فليس عندهم قلق الكاذبين وخوفهم واضطرابهم، عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: ( حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة) [رواه الترمذي، وهو حسن].

وأهل الصدق هم أهل الربح وبركة العيش، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدق البيعان وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا فعسى أن يربحا ربحاً ويمحقا بركة بيعهما، اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب) [متفق عليه].

أيها الأحبة، إن سيرة رسول الله عليه الصلاة والسلام لتفوح بطيب صدقه مع ربه ومع نفسه ومع أمته، إذ كان هو الصادق المصدوق الذي أثنى عليه بالصدق المفارقُ والموافق.

فهذه السيرة العطرة نبراس هدى للسائرين إلى الله يقتبسون من أنوارها ما يصلون به إلى الله تعالى في أمن ونجاة.

فيا أيها المسلمون، الصدقَ الصدقَ في جميع الأقوال والأفعال والأحوال، والحذر من الكذب في الظاهر والباطن؛ فإن الصدق منجاة، والكذب هلكة، فيا سعد من عاش صادقاً، ومات صادقاً ولقي الله صادقاً.

هذا وصلوا وسلموا على الهادي البشير...

اللّهمّ صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد
0 / 100

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية