فلسفة المصائب

فلسفة المصائب

فلسفة المصائب


اللهم لك الحمدُ، بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ذا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، رَبَّ الارْبَابِ، وَإِلَهَ كُلِّ مَأَلُوهٍ، وَخَالِقَ كُلِّ مَخْلُوقٍ، وَوَارِثَ كُلِّ شَيءٍ: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ ﴾ [الشورى: 11]، وَلا يَعْزُبُ عَنْهُ عِلْمُ شَيءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ مُحِيطٌ.

لك الحمد يَا ذَا الْمُلْكِ الْمُتأبِّدِ بالدوام ِوالْخُلُودِ، الْمُمْتَنِعِ بِغَيْرِ سلطانٍ ولا جُنُود، وَالْعِزِّ الْبَاقِي عَلَى مَرِّ العصور والدُّهُور، عَزَّ سُلْطَانُكَ عِزًّا لا حَدَّ لَهُ بِأَوَّلِيَّة وَلاَ مُنْتَهَى لَهُ بِآخِرِيَّة، وَاسْتَعْلَى مُلْكُكَ عُلُوًّا سَقَطَتِ الأغيارُ دُونَ بُلُوغِ أَمَدِهِ، وَلاَ يَبْلُغُ أَدْنَى مَا اسْتَأثَرْتَ بِـهِ مِنْ ذَلِكَ أَقْصَى نَعْتِ النَّـاعِتِين، وأبعد وصف الواصفين.

اَلْحَمْدُ لِلَّهِ لاَ أَبْغِي بِهِ بَدَلاَ
حَمْدًا يُبَلِّغُ مِنْ رِضْوَانِهِ الأَمَلاَ
ثُمَّ الصَّلاَةُ عَلَى خَيْرِ الْوَرَى وَعَلَى
سَادَاتِنَا الأنبيا وَصَحْبِهِ الْفُضَلاَ
وَآلِهِ الْغُرِّ وَالصَّحْبِ الْكِرَامِ وَمَنْ
إِيَّاهُمُ فِي سَبِيلِ الْمَكْرُمَاتِ تَلاَ
وَنسْأَلُ اللهَ مِنْ أَثْوَابِ رَحْمَتِهِ
ستْرًا جَمِيلًا عَلَى الزَّلاَّتِ مُشْتَمِلاَ

بادئ ذي بدءٍ:

أوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله سبحانه في السر والعلن، والمنشط والمكره، فما خاب من اتقاه، ولا أفلح مَن قلاه، وما فاز إلا من توكل عليه ورجاه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال:11].

فمن اتقى الله وقَاه، ومن لاذ بحماه حماه، ومن أقرضه جازاه، واعلموا رحمكم الله أن تقوى الله خَلَفٌ من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف، وتقوى الله خُلقٌ راق، ودرعٌ واق، وفيها يكون التنافُسُ والسِّباق.

واعلموا يا رحمكم الله أن الدُّنيا دارُ بلاءٍ وابتلاء، وامتحانٍ واختبار، مشحونةٌ بالمتاعب، مملوءةٌ بالمصائب، مشوبةٌ بالرزايا، محفوفةٌ بالبلايا، طافحة بالأحزان، مشبَّعة بالأكدار، مُزِجت أفراحُها بأتراح، وحلاوتُها بالمرارة، وراحتُها بالتعب، فلا يدوم لها حالٌ، ولا يطمئن لها بال، طبيعتُها مكَّارة، وأيامُها غرَّارة.

أَحْلَامُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ
إِنَّ اللَّبِيبَ بِمِثْلِهَا لَا يُخْدَعُ
ترجو البقاءَ بدارٍ لا ثباتَ لها
فهلْ سمعْتَ بظلٍّ غيرِ منْتَقِلِ
يا خاطبَ الدُّنيا إلى نَفسِها
تنحّ عن خِطْبتها تَسْلَمِ
إنّ التي تَخْطُبُ غَرَّارةٌ
قريبَةُ العُرسِ من المأتَم

إنَّ في هذه الدنيا مصائب ورزايا ومحنًا وبلايا، آلامًا تضيق بها النفوس، ومزعجاتٍ تورث الخوف والجزع، لَكَمْ ترى من شاكٍ، وكم تسمع من باك!

وكم من ملوكٍ وجبابرةٍ فتحوا البلاد، وسادوا العباد، وأظهروا السطوة والنفوذ، حتى ذُعِرت منهم النفوس، ووجلت منهم القلوب، ثم طوتهم الأرض بعد حين، فافترشوا التراب، والتحفوا الثَّرى، فأصبحوا خبرًا بعد عين، وأثرًا بعد ذات، وكلُّ إنسان سيسلك الطريق الذي سلكوه، وسيدرك الحال الذي أدركوه، ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [التكاثر: 1 - 4].

يا خاطِبَ الدّنيا الدّنِيّةَ إنّها
شرَكُ الرّدى وقَرارَةُ الأكدارِ
دارٌ متى ما أضْحكتْ في يومِها
أبْكَتْ غدًا بُعْدًا لها منْ دارِ
بينا يرى الإنسان فيها مخبرًا
حتى يُرى خبرًا من الأخبار
طُبعتْ على كدرٍ وأنت تريدها
صفوًا من الأقذاء والأكدارِ
ومُكلِّفُ الأيَّام ضد طباعها
مُتطلبٌ في الماء جذوة نار

﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24].

الدُّنْيَا أَمَد، وَالْآخِرَةُ أَبَد: ﴿ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ﴾ [غافر: 39]، ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُور ﴾ [الحديد: 20].

كم من واثقٍ فيها فجعَتَهْ! وكم من مطمئنٍّ إليها صرعَتَهْ! وكم من محتالٍ فيها خدعَتَهْ! وكم من مختالٍ فيها أذلَّته! حلوُها مُر، وعذبها أُجاج، وُجُودها إلى عدم، وسرورها إلى حزن، وكثرتها إلى قلة، وعافيتها إلى سقم، وغناها إلى فقر.

أهلُها منها في خوفٍ دائمٍ، إما نِعَمٌ يخشون زوالها، وإما بلايا يخافون وقوعَها، وإما منايا حَتْمٌ وقوعُها، وكلُّ ما فوق التراب صائرٌ إلى تراب، فما يُظن في الدنيا أنه شراب فهو سراب، وعمارتها - وإن حسُنت صورتُها - خراب، والعجب كل العجب مِمَّن يدُه في سلة الأفاعي كيف ينكر اللدغ واللسع؟!

وأعجبُ منه من يطلب ممن طُبع على الضَّر النفع.

إنها على ذا وُضِعتْ، لا تخلو من بلية ولا تصفو من مِحنة ورزية، لا ينتظر الصحيح فيها إلا السقم، والكبير إلا الهرم، والموجود إلا العدم، على ذا مضى الناس، اجتماعٌ وفرقة، وميتٌ ومولود، وبِشْرٌ وأحزان:


المَرْءُ رَهْنُ مَصَائِبٍ لا تَنْقَضِي
حَتى يُوَارَى جِسْمُهُ في رَمْسِهِ
فَمُؤجَّلٌ يَلقَى الرّدى في أهلِهِ
وَمُعَجلٌ يَلقَى الرّدى في نَفسِهِ

﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ [الأنعام: 62].

تلك هي الدنيا، تُضحك وتُبكي، وتجمع وتشتِّت، شدةٌ ورخاءٌ، وسراءٌ وضراءٌ، دارُ غرورٍ لمن اغترَّ بها، وهي عبرةٌ لمن اعتبر بها، ودار صدقٍ لمن صدَق فيها، وميدان عملٍ لمن جدَّ وعمِل، ومحطةُ تزوُّدٍ لمن خاف ووجل: ﴿ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد:23].

تكثرُ فيها المصائب، وتطغى فيها المعايب، وتتنوع فيها الابتلاءات، وتتعدد المتباينات، ويبتلى أهلها بالمتضادات، وتتلوَّن فيها الفتن، وتتباين المحن، وتتداخل الإحن: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الانبياء: 35]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسَّقَم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية والهدى والضلال[1].

الابتلاء سنة ربانية ماضية، وهي من مقتضيات حكمة الله سبحانه وعدله، متمثِّلًا وقعُه بجلاء، في الفقر والغنى، والصحة والمرض، والخوف والأمن، والنقص والكثرة، وفي كل ما نحب ونكره، لا نخرج من دائرة الابتلاء، ﴿ وَبَلَوْنَـاهُمْ بِالْحَسَنَـاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأعراف:168].
ما المالُ والأيَّامُ ما الدُّنيا وما
تلك الكنوزُ من الجواهرِ والذَّهَبْ
ما المجدُ والقصرُ المنيفُ وما المنى
ما هذه الأكداسُ مِن أغلى النشبْ
لا شيء كُلُّ نفيسةٍ مرغوبةٍ
تفنى تفنى ويبقى اللهُ أكرم من وَهَبْ

فالعاقل الحصيف يجب عليه حتمًا أن يوقن أن الأشياء كلَّها قد فُرِغ منها، وأن الله سبحانه قدَّر صغيرَها وكبيرَها، وعلِم ما كان وما سيكون، وأن لو كان كيف يكون، ﴿ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَـالُكُمْ ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَـابِ مِن شَيْء ﴾ [الأنعام:38].

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»[2].

فالمقادير عباد الله كائنةٌ لا محالة، وما لا يكون فلا حيلة للخلق في تكوينه، وإذا ما قُدر على المرء حالُ شدة، وتكنَّفته الأمور، فيجب عليه حينئذ أن يأتزر بإزار له طرفان: أحدهما الصبر، والآخر الرضا، ليستوفيَ كامل الأجر، وكم من شدة قد صعُبت، وتعذَّر زوالُها على العالم بأسره، ثم فُرِّج عنها في لمحة طرف.

دع المقاديرَ تجري في أعَنَّتها
ولا تبيتنَّ إلا خاليَ البالِ
ما بين غَمضةِ عَين وانتباهتها
يغيِّر الله من حالٍ إلى حالِ

قيل للحسن: يا أبا سعيد، من أين أُتي هذا الخلق؟ قال: من قلة الرِّضا عن الله؟ قيل: ومن أين أُتى قلةُ الرضا عن الله؟ قال: من قلة المعرفة بالله.

والعارفون بالله أكثرُ الناس أمنًا، وأعظمهم سكينة، وأعمهم طُمأنينة، ﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 46].

الإيمانُ بالله عباد الله والتوكل عليه، والصبر الجميل، هو النور العاصم من التخبط، والروض الباسم في غسق الدجى، والدرع الواقي من اليأس والقنوط، خصوصًا إذا بارت الحيل، وضاقت السبل، وانتهت الآمال، وتقطعت الحبال، وادْلَهمَّت الخطوب، واستحكمت الأزمات، وترادفت الضوائق، وخيَّمت صروف النوازل، واستوطنت بوائق الدهر.

إن مسَّنا الضر أو ضاقت بنا الحِيَلُ
فلنْ يخيبَ لنا في ربِّنا أملُ
وإن أناخت بنا البلوى فإن لنا
ربَّا يُحَوِّلُها عنّا فتنتقلُ
اللهُ في كلِّ خَطبٍ حسبنا وكفى
إليه نرفعُ شكوانا ونبتهلُ
من ذا نلوذُ به في كشف كربتنا؟
ومن عليه سوى الرحمن نتكلُ

إن مَن آمَن بالله وعرَف حقيقة دنياه، وطَّن نفسه على احتمال المكاره، وواجَه الأعباء مهما ثقُلت، وحسُن ظنه بربه، وأمَّل فيه جميل العواقب وكريم العوائد، كل ذلك بقلبٍ لا تشوبه ريبةٌ، ونفسٍ لا تزعزعها كربةٌ، مستيقنًا أن بوادر الصفو لا بد آتيةٌ، ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ﴾ [آل عمران: 186].

إن أثقال الحياة وشواغلها لا يطيق حملها الضعاف المهازيل، ولا ينهض بأعبائها إلا العمالقة الصبَّارون أولو العزم من الناس، أصحاب الهمم العالية.

والبلايا مكفراتٌ للذنوب: و«مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ».

عباد الله، اسمعوا واحفظوا واعملوا بقول نبيكم محمدٍ صلى الله عليه وسلم: «مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ وَحَزَنٌ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحًا»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ؟ قَالَ: «أَجَلْ، لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ»[5].

عباد الله، اعلموا رحمكم الله أن من علم حكمة الله في تصريف الأمور وجريانِ الأقدار، لن يجد اليأسُ إلى قلبه سبيلًا، مهما قست الحوادث، وتوالت النكبات، فالإنسان إلى ربه راجع، والمؤمن بإيمانه مستمسك، ولأقدار الله مسلِّم، وعلى سَننه ومراده جارٍ، ويعلم أَن كل شيء عند مولاه بمقدار.

ثمانيةٌ لا بد منها على الفتى
ولا بد أن تجري عليه الثمانية
سرورٌ وهمٌّ واجتماعٌ وفرقةٌ
ويُسْرٌ وعسرٌ ثم سُقمٌ وعافية

وقد قيل: لولا مصائب الدنيا مع الاحتساب؛ لوردنا القيامة مفاليس.

فسبحان مَن يرحَم ببلائه، ويَبتلي بنعمائه، ويُمحِّص بعطائه، كما قيل:

قد ينعمُ الله بالبلوى وإن عظُمت
            ويبتلي اللهُ بعضَ القوم بالنعم

قال الفضيل: إن الله ليتعاهد عبدَه المؤمنَ بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالخير.

وقال الحسن البصري رحمه الله: لا تكرهوا البلايا الواقعةَ، والنقماتِ الحادثةَ، فَلَرُبَّ أمرٍ تكرهُه فيه نجاتُك، ولَرُبَّ أمرٍ تؤثرُه فيه عطبُك؛ أي: هلاكُك.

وقال الفضل بن سهل: إن في العلل لنعَمًا لا ينبغي للعاقل أن يجهلَها.

قال شيخ الإسلام: مصيبةٌ تُقبل بها على الله خيرٌ لك من نعمة تنسيك ذكرَ الله، ﴿ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ ﴾ [الشورى: 48][10].

عباد الله، كم مغبوطٍ بنعمةٍ هي داؤه، ومحرومٍ من دواء حرمانه هو شفاؤه، كم من خيرٍ منشور، وشر مستور، ورُب محبوبٍ في مكروه، ومكروه في محبوب، ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216].
لا تَكْرَهِ المَكْرُوْهَ عِنْدَ نُزُولِهِ
إِنَّ المَكارِهَ لَم تَزَل مُتَبايِنَة
كَم نِعمَةٍ لَم تَستَقِلّ بِشُكرِها
لِلّهِ في طَيِّ المَكارِهِ كامِنَة

ومن مأثور الحِكَم: إن المصائب كثيرًا ما تكون رحمةً في لباس عذاب.

وقيل: في المصائبِ جلالةٌ أجثو أمامها خاضعًا.

وقيل: الجزع عند المصيبة مصيبةٌ أخرى.

ربَّ أمرٍ تتقيهِ
جرَّ أمرًا ترتجيهِ
خفيَ المحبوبُ منهُ
وبدا المكروهُ فيهِ
فاتركِ الدَّهرَ وسلِّمْ
هُ إلى عدلٍ يليهِ

وقيل: توقع المصيبة، أشدُ هولًا من وقوعها.

وقيل: كل شيء يبدو صغيرًا ثم يكبر، إلا المصيبة، فإنها تبدو كبيرةً ثم تصغر.
وأحلم في المنام بكل خيرٍ
فأٌصبح لا أراه ولا يراني
ولو أبصرت شرًا في منامي
لقيت الشر من قبل الأذانِ

يقول المثل الصيني: لن تستطيع أن تمنع طيور الهـم أن تُحلِّق فوق رأسك، ولكنَّك تستطيع أن تمنعها من أن تعشِّش في رأسك.

رُبَّ هجرٍ يكون من خوفِ هجرٍ
             وفراقٍ يكون خوف فراقٍ

عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ شُرَيْحًا قَالَ: «إِنيِّ لأُصَابُ بِالمُصِيبَةِ فَأَحْمَدُ اللهَ عَلَيْهَا أَرْبَعَ مَرَّات؛ أَحْمَدُ إِذْ لَمْ يَكُن أَعْظَمَ مِنهَا، وَأَحْمَدُ إِذْ رَزَقَني الصَّبْرَ عَلَيْهَا، وَأَحْمَدُ إِذْ وَفَّقَني لِلاِسْتِرْجَاعِ لِمَا أَرْجُو مِنَ الثَّوَاب، وَأَحْمَدُ إِذْ لَمْ يَجْعَلْهَا في دِيني».

مَرحَبًا بِالخَطبِ يَبلُوني إِذا
             كانَتِ العَلياءُ فيهِ السَّبَبا

وفي سنن الترمذي: قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَا يَزَالُ البَلاَءُ بالمُؤمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ في نفسِهِ ووَلَدِهِ وَمَالِهِ، حَتَّى يَلْقَى الله تَعَالَى وَمَا عَلَيهِ خَطِيئَةٌ».

وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ, مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْط».

عبادَ الله، إنَّ من أعظم ما يهوِّن المصيبة: الإيمانَ بالقدر خيرِه وشرِّه، حلوِه ومرِّه، ﴿ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التغابن: 11]، قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويُسلِّم.

لا الأمرُ أمري ولا التدبيرُ تدبيري
ولا الشؤونُ التي تجري بتقديري
لي خالقٌ رازقٌ ما شاء يفعلُ بي
أحاط بي علمُه من قبل تصويري

وليعلمِ العبدُ أن ما أصابه لم يكن ليخطئَه، وما أخطأه لم يكن ليصيبَه؛ قال الله: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُم ﴾ [الحديد: 22، 23].

قلت ما سمعتم، وأستغفر الله.

الخطبة الثانية :

الحمد الله، نحمدُه على النعمِ الغامرة، حمدًا يُعيد قِفارَ القلوبِ عامرة، ونقرُّ له بالتوحيد على عقيدة ظاهرة، وأصلي وأسلِّم على عبده ورسوله محمدٍ صلاةً تجلب لنا صلاةً إلى صلاةٍ إلى عاشرة، وعلى آله أولي المناقب الفاخرة، وصحبه ذوي الفضائل المتكاثرة.

فاتقوا الله رحِمكم الله وراقِبوه، واعلموا أنكم ملاقوه، واستيقظوا من الغفلة والسِّنَة، واستمعوا القول واتَّبعوا أحسنه، واعلموا رحمكم الله أن العزَّ بطاعة الله مربوط، والذُّلُّ للمعصية قرين، واستعِيذوا بالله من شرك يهدِم التوحيدَ، وبدعة تقضي على السُّنَّة، وهوى يَمنع الإخلاصَ، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تشغل عن الذِّكْر، ﴿ وَإِن الذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ﴾ [المؤمنون: 74].

عباد الله، إن سفينة النجاة في مثل هذه الابتلاءات، هي الإيمان بالله، والصبر على مجاري الأقدار، والاعتبار والاصطبار مطيةٌ لا تكبو، وسيف لا يخبو، وهما بإذن الله جندٌ لا يُهْزَم، وحصنٌ لا يُهْدَم، سترٌ عند الكروب، وعون على الخطوب؛ يقول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ، لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ، أَوْ فِي مَالِهِ، أَوْ فِي وَلَدِهِ، ثُمَّ صَبَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى».

مات ولدٌ لعبدالله بن مطرِّف، فقال: والله لو أنَّ الدنيا وما فيها لي، فأخذها الله عز وجل مني، ثم وعدني عليها شربةً من ماء لرأيتُها لتلك الشربة أهلًا، فكيف بالصلاة والرحمة والهدى؟!.

﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ﴾ [البقرة: 155، 156].

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: نِعْمَ الْعِدْلاَنِ وَنِعْمَ الْعِلاَوَةُ ﴿ أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 157][18].

إذا ما لقيت الله عنِّي راضيًا
           فإنَّ شفاء النفس فيما هنالكَ

أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أَتَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِصَبِيٍّ لَهَا، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ ادْعُ اللهَ لَهُ، فَلَقَدْ دَفَنْتُ ثَلَاثَةً قبله، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «دَفَنْتِ ثَلَاثَةً؟!» مستعظمًا أمرَها، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: «لَقَدِ احْتَظَرْتِ بِحِظَارٍ شَدِيدٍ مِنَ النَّارِ»!

وروى الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ».

ومِن أسباب تخفيف وطأة الابتلاء عند وقوعه يا عباد الله: عدمُ كَثرة الحديث حولَه، ويمكن أن يُستفادَ ذلك من قوله سبحانه في قصة مريم: ﴿فَكُلي وَاشرَبي وَقَرّي عَينًا فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَدًا فَقولي إِنّي نَذَرتُ لِلرَّحمنِ صَومًا فَلَن أُكَلِّمَ اليَومَ إِنسِيًّا﴾ [مريم: ٢٦]

عباد الله، شرُّ ما مُنيت به النفوسُ يأسٌ يُميت القلوب، وقنوط تُظلم به الدنيا، وتتحطم معه الآمال؛ فالكيِّس من دان نفسه، وعمِل لِما بعد الموت، والحازم من بادر بالعمل قبل حلول الفوت، والمسلم من استسلم للقضاء والقدر، والمؤمن من تيقَّن بصبره الثواب على المصيبة والضرر، وإنَّ العبد إذا اتَّجه إلى ربه بتوحيدٍ خالص، وعزيمةٍ صادقة، وتوبةٍ نصوح، موقنًا برحمته، واجتهد في الصالحات - دخلَت الطُّمأنينة إلى قلبه، وانفتحت أبواب الأمل في وجهه، واستقام على الطريقة، واستتر بسترِ الله.

بِمَن يستغيثُ العبدُ إلّا بربِّه
ومَن للفتى عند الشدائدِ والكَرْبِ؟
ومَن مالكُ الدنيا ومالكُ أهلِها
ومَن كاشفُ البلوى على البُعْدِ والقُرْبِ؟
ومَن يدفعُ الغمَّاءَ وقتَ نزولِها
وهل ذاك إلَّا مِن فِعالِكَ يا ربِّ؟!

دعاء


  • اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوْذُ بِك أنْ نَفْتَقِر فِي غِنَاك، أو نَضِلَّ في هُدَاك، أو نَذِلَّ لِسِواك.

  • اللهم إنا نبات نعمتك، فلا تجعلنا حصاد نقمتك.

  • اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذُ بِكَ من زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وتحوُّلِ عافيتكَ، وفُجَاءةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ.

  • اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ منَ الجُوع؛ فَإِنَهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأعُودُ بِكَ مِنَ الخِيَانَةِ فَإِنَّهَا بِئْسَتِ البِطَانَةُ.

لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية