الهجران والتقاطع بين المسلمين

الهجران والتقاطع بين المسلمين

الهجران والتقاطع بين المسلمين


الحمْدُ للهِ الواحدِ القَهَّارِ، العَزيزِ الغَفَّارِ، مُكَوِّرِ اللَّيْلِ على النَّهَارِ، تَذْكِرَةً لأُولي القُلُوبِ والأَبصَارِ، وتَبْصرَةً لِذَوي الأَلبَابِ واَلاعتِبَارِ، الَّذي أَيقَظَ مِنْ خَلْقهِ مَنِ اصطَفاهُ فَزَهَّدَهُمْ في هذهِ الدَّارِ، وشَغَلهُمْ بمُراقبَتِهِ وَإِدَامَةِ الأَفكارِ، ومُلازَمَةِ الاتِّعَاظِ والادِّكَارِ، ووَفَّقَهُمْ للدَّأْبِ في طاعَتِهِ، والتّأهُّبِ لِدَارِ القَرارِ، والْحَذَرِ مِما يُسْخِطُهُ ويُوجِبُ دَارَ البَوَارِ.

أَحْمَدُهُ أَبلَغَ حمْدٍ وأَزكَاهُ، وَأَشمَلَهُ وأَنْمَاهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ البَرُّ الكَرِيمُ، الرؤُوفُ الرَّحيمُ، وأشهَدُ أَنَّ سَيَّدَنا مُحمّدًا عَبدُهُ ورَسُولُهُ، وحبِيبُهُ وخلِيلُهُ، الهَادِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقيمٍ، والدَّاعِي إِلَى دِينٍ قَويمٍ، صَلَوَاتُ اللهِ وسَلامُهُ عَليهِ، وَعَلَى سَائِرِ النَّبيِّينَ والمرسلين.

إِنَّ للهِ عِبَادًا فُطَنَا
طَلَّقُوا الدُّنْيَا وخَافُوا الفِتَنَا
نَظَروا فيهَا فَلَمَّا عَلِمُوا
أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحَيٍّ وَطَنَا
جَعَلُوها لُجَّةً واتَّخَذُوا
صَالِحَ الأَعمالِ فيها سُفُنا

إخوة الإيمان والإسلام، أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل في علاه، فهو القائل جل شأنه:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 - 71].

عباد الله، إن ربنا جل شأنه قد شرع لنا الدين، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب لأجْل صلاح الناس، وإصلاح ما بين الناس وربهم، وما بين الناس وبعضهم البعض.

فديننا دين الإسلام ليس كما يظن البعض أنه مجرد صلاة وصيام وعبادة وحسب، بل ديننا منهج حياة، وهذه العبادات أخي الحبيب شُرعت أيضًا لإصلاح وتهذيب النفوس، وهو بدوره ينعكس على أخلاق الناس وتعاملهم، وهذه حقيقة الدين؛ يقول ابن القيم رحمه الله: الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق، زاد عليك في الدين.

وذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة تُصلي وتصوم، لكنها تؤذي جيرانها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، هي في النار، وذُكرت عنده امرأة أخرى مقتصدة في العبادة، لكنها تحسن لجيرنها، فقال عليه الصلاة والسلام هي في الجنة.

فمن أراد التقرب من الله عز وجل، فعليه أن يعيَ ذلك جيدًا؛ حتى لا يكون من الذين قال الله فيهم: " ﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 104]، وحتى لا يكون ممن قال الله فيهم: ﴿ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ﴾ [الغاشية: 3، 4].

يتعب ويجد ويجتهد في العبادة، ثم يفاجئ يوم القيامة أن أعماله قد تبدَّدت وذهبت من أجل عمل كان يعمله أو شيء ربما لم يحسب له حسابًا أصلًا.

أحبَّتي في الله، تعالوا بنا لنتعرف على شيء من هذه الأشياء التي تُحبط العمل، وتَحُولُ بين عملك وبين أن يُرفع إلى الله عز وجل، عمل حذَّر النبي عليه الصلاة والسلام منه أشدَّ التحذير، وبيَّن أن المتلبس به على خطر عظيم إن لم يتب إلى الله، فما ذاك العمل؟

إنه "الهِجران والتقاطع"؛ روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَقَاطَعُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَلا تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَانًا، وَلا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَث»؛ متفق عَلَيْهِ.

لا يحل لمسلم:

ففيه تحريم أن تهجر أخاك فوق ثلاثة أيام، لكن يا تُرى ما عقاب ذلك الهاجر لإخوانه المقاطع لهم؟

يُجيبك على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه أَبُو داود بإسناد عَلَى شرط البخاري ومسلم؛ كما قال النووي عن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلاَثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ»؛ سلم يا رب سلم، إنه وعيد شديد لمن كان هاجرًا لإخوانه، قاطعًا لروابط الأخوة بينه وبينهم.

فهيَّا أخي، يا من بينك وبين أخيك المسلم شحناءُ، أو مشكلة معينة، سارِع بالإصلاح حسبةً لله عز وجل، أتدري أخي المسلم أن الرجل الهاجر لإخوانه لا يعرض عمله على الله حتى يصطلح مع أخيه! بل لا يغفر له حتى يتصالح مع أخيه! نعم، وهذا ليس كلامي، بل هو كلام الذي لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام، فعن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ في كلِّ اثْنَيْنِ وَخَمْيسٍ، فَيَغْفِرُ اللهُ لِكُلِّ امْرِئٍ لا يُشْرِكُ باللهِ شَيْئًا، إِلا امْرَءًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيقُولُ: اتْرُكُوا هذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا»؛ رواه مسلم.

فبادر إلى الصلح والوصل إن أردتَ المغفرة من ربك، بادِر إلى الصلح الوصل، وكن أفضل الرجلين عند الله، فعن أَبي أيوبَ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ: يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وخَيْرُهُما الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ»؛ متفق عَلَيْهِ.

انتبهوا إخوة الإسلام إلى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عن الهِجران أكثر من ثلاث ليال، فما بال من يهجر أخاه بالشهور والسنين، ولا حول ولا قوة إلا بالله من أجل دنيا زائلة أو كلمة عابرة، أو مشكلة صغيرة، يهجر الأخ أخاه وبعد المحبة تَمتلئ القلوب عداوةً وبغضًا، اسمع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقولُ: «مَنْ هَجَرَ أخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ»؛ رواه أَبُو داود بإسناد صحيح؛ أي هذا الهاجر له من الإثم عند الله كإثم قتل المهجور، لذا فالهجر كبيرة من كبائر الذنوب؛ كما ذكر ابن حجر الهيتمي، وأورد رحمه الله أحاديثَ كثيرة أكثر مما ذُكر آنفًا، فالحاصل أن الهجر والتقاطع ذنب عظيم، فيه تقطيع الأوصال بين المسلمين، وتمزيق لروابط الأخوة، وهو جالب لغضب الله عز وجل، وهو حائلٌ بين عملك وبين الله، فالتوبة منه واجبة، والإصرار عليه كبيرة، نسأل الله السلامة والعافية، فلا تغتر بعملك ولا تخدع نفسك أخي المسلم، هيَّا أصلِح ما بينك وبين إخوانك وأرحامك، فبغير ذا لن تنجوَ.

فإن قلت: كيف أتوب من هذا العمل؟

وما واجبي أنا نحو من أري من إخواني وأصدقائي الذين تهاجروا وتقاطعوا؟ كيف أصلح بينهم؟ وماذا عليَّ إن لم يرض الطرف الأخر بالصلح؟ هذا نعرفه بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقَالَ الله تَعَالَى: ﴿ إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكُمْ ﴾ [الحجرات: 10].

وروى الترمذي من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أُخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة"، قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: هي الحالقة، لا أقول: تَحلق الشعر، ولكن تَحلق الدين؛ صحَّحه الالباني في صحيح الترغيب والترهيب، فواجبنا عباد الله أن نسعى للإصلاح بين الناس، فهذا من ازكى وأفضل الأعمال إلى الله عز وجل.

هذا واجب الجميع ليس فقط من بينه وبين غيره مقاطعة، وأما أنت أخي، يا من أردت أن تُرمِّم ذلك الصدع بينك وبين أخيك، فالأمر يسير، وقد بيَّنه لنا المعصوم صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه أبو داود عن أَبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا فَوقَ ثَلاَثٍ، فإنْ مَرَّتْ بِهِ ثَلاَثٌ، فَلْيَلْقَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإنْ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ فَقَدِ اشْتَرَكَا في الأجْرِ، وَإنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ بِالإثْمِ، وَخَرَجَ المُسَلِّمُ مِنَ الهِجْرَةِ».

فما عليك إلا أن تذهب لأخيك مبتسمًا بشوش الوجه - وتذكَّر أن هذا لله عز وجل، وطلبٌ لرضاه - وتُسلم عليه، وبذلك فقد خرجت من الهجران، وابتعدت بنفسك عن غضب الرحمن، لا تتردد ولا يَخذلنَّك الشيطان، فيَثنيك عن مرادك، يأتي الشيطان ليقول لك: قد أخطأ في حقك، وقد فعَل وفعل، فلا يستحق أن تذهب له، لا تُهين نفسك...إلخ.

فاعلَم يرحمك الله أنك قد تنال المنزلة العظيمة، وتنال رضا ربك جل علاه بهذا العمل اليسير، فلا يصدنَّك صادٌّ ولا يثني عزيمتك أحد، فالله حسبك وهو مرادك، فتوكل عليه واحتسب.

فإن فاء صاحبك ورجَع فبها ونعمت، فاحمد الله عز وجل، وإن لم يرجع ولم يُقبل، فلا عليك، فقد أدَّيت ما عليك أمام ربك ولا وزر عليك.

ومما ينبغي الإشارة إليه أن المصلحين لا بد أن يردوا الحقوق لأصحابها، ولا يظلموا أحدًا على حساب الآخر؛ حتى يكون الصلح مثمرًا، ويحصل التراضي، ولا يبقى معه شيء في الصدور.

يا رب حببنا إلى بعضنا
فيك، وجنبنا الريَا والبطر
وهَب لنا النور الذي نهتدي
بضوئه في مظلمات الحفر

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: هي في النار، قال: يا رسول الله، فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصلاتها، وأنها تتصدق بالأثوار من الأقط، ولا تؤذي جيرانها، قال: هي في الجنة؛ رواه أحمد والبزار، وابن حبان في صحيحه، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد؛ ا .هـ من صحيح الترغيب والترهيب.

لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية