نعمة الأولاد

نعمة الأولاد

نعمة الأولاد


أما بعد أيها الأحباب الكرام، فتواصلًا واستمرارًا واستكمالًا لسلسلة الخطب عن نعم الله التي لا تحصى، نعيش اليوم سويًّا مع نعمة جديدة من نعمِ الباري سبحانه وتعالى علينا، ونعمة اليوم من أفضل نعم الله على العبد، سألها الأنبياءُ والصالحون، وقرَّت بها عيون المتقين في الدنيا والآخرة،

من أُوتي هذه النعمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، ومن حُرمها فهو المحروم حقًّا، وإن كان عنده كُل المال، نعمة اليوم يا كرام من النعم التي خص الله بها فئةً من الناس وحرمها فئةً أخرى ابتلاءً منه سبحانه، وتمحيصًا لعباده واختبارًا لخلقه، ذكرها الله سبحانه وتعالى في القرآن في أكثر من موضع، وقرنها بنعمة المال، وجعل من هاتين النعمتين زينة الحياهِ الدنيا، إنها نعمة (الأولاد): ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46].

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]، الأولاد نعمةٌ إلهيةٌ، وهبةٌ ربانيه، الأولادُ زينةُ الحياة الدنيا وزهرتها، يُخففونَ عن آبائهم متاعب الحياة وهمومها، الأولاد وجودهم في البيت كالأزهار في الحدائق، يسر الفؤاد مشاهدتهم، وتَقر العين برؤيتهم، وتبتهجُ الأرواح بقربهم، الأولاد بسمةُ الأمل، وأريجُ النفس وريحانُ القلب، أولادنا هم أكبادنا التي تمشي على الأرض، وقد أحسن من قال:

إنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم
لامتنعتْ عيني عن الغمض

أحبتي الكرام، نعمةُ الأولاد متعةٌ حقيقيةٌ ورزقٌ حسن، تصلحُ به الأرض ويُسرُّ به القلب وتقر به العين في الدنيا: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74].

نعم ما أجمل ثم ما أجمل نعمة الأولاد، وما أروع تصرفاتهم وهم في عمرِ الصبا، تجد في ابتساماتهم البراءة، وفي تعاملاتهم البساطة، لا يحقدون ولا يحسُدون، وإن أصابهم مكروه لا يتذمرون.

يعيشون اليوم بيومه بل الساعة بساعتها، لا يأخذهم التفكير ولا التخطيط لغد، ولا يفكرون كيف سيكون؟ وماذا سيعملون؟ أحاسيسهم مرهفة، وأحاديثهم مشوقة، وتعاملاتهم محبة، إنْ أسأت إليهم اليوم ففي الغد ينسون، وبكلمة أو كلمتين تستطيع أن تمحو تلك الإساءة، قلوبهم بيضاء، وسرائرهم نقية، ومعادنهم صافية.

إنهم شجرةُ نقاء وارفة الظلال، وأغصان عفوية تحمل ثمار القبول والمتعة، إنهم ربيعٌ وزهر وأكاليل ياسمين، إنهم قصيدةُ أمل، وحياةُ الروح، وروح الحياة، إنهم أنفاسٌ عذبة، وسحائب ماطرة، وأريج عبق، وما أجمل أن نَكتسب منهم نحن الكبار فنَّ التعامل، ونأخذ منهم نقاء القلب، وصفاء النفس لنعيش الحياة بقلوبٍ متسامحة، ونفوسٍ راضية، لا غل ولا حسد ولا ضغينة ولا حقد: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾ [الحجر: 47].

أيها الأحباب الكرام:

نعمة الأولاد من افضل نعمِ الله على العبد بعد نعمة الاسلام، يختص الله بها من يشاءُ من عباده ولو كان فقيرًا، ويمنعها عمن يشاء من خلقه ولو كان غنيًّا، وإذا أردت أن تعرف عظيم منَّة الله عليك بهذه النعمة، فانظر الى من حُرمَها كيف يتلوى؟ وكيف يتألم؟ وكيف يحترق؟ وكيف يشتهي؟ وكيف يتمنى أن يُرزَقَ ولدًا يملأ عليه حياته، ويملأ عليه دنياه فرحًا وسرورًا وأنسًا، وبهجةً وأمنًا وأمانا، بل انظر إلى أولئك الذين يدفعون أموالهم، ويُضحون بأوقاتهم متنقلين من مستشفى إلى آخر، ومن مركز صحي إلى آخر، ومن دكتور متخصص في العقم إلى آخر، بل ربما يُضطرون للسفر إلى الخارج من أجل أن يحظون بعلاجٍ يساعد في رزقهم ولدًا واحدًا أو بنتًا!

وأنت يا من لم تُقدِّر هذه النعمة وتشكر الله كثيرًا عليها، أنت أعطاك ووهبك الله الأولاد دون مقابل، ومن غير عناء، وبلا سفر أو تنقلاتٍ ودون ذهابٍ أو إياب.

غيرك ممن حُرمَ الأولاد يضرب أخماسًا بأسداس، ومن عامٍ إلى عامٍ آخر وهو في آناتٍ وآهات وتناهيد، وصرخات وأحزان: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ﴾ [الشورى: 49]، وتأمَّل معي هنا هذا النص الصريح "يهبُ"، فالله سبحانه وتعالى سمى الأولاد "هبة"، ولم يسمهم رزقًا؛ لأن الرزق قد تكفل الله به للجميع،

أما الهبة، فهو يهبها لمن يشاء، ووقت ما شاء وكيفما شاء، ولأنه يفعل ما يشاء، ولذلكم: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 49، 50].

اليوم نجد من ليس له ولد أو بنت يقول: "أتمنى ولدًا أو بنتًا"، فإذا ما رزقه الله ببنتٍ اعترض على حكم الله، وقال: ماذا أفعل بالبنت! أريد ولدًا يحملُ اسمي ويرثني، أريد الذكر! فإذا ما رُزق بالذكر قال: يا رب أريد اثنين وثلاثة وأربعة، وهكذا..."، وما علموا حِكمةَ الله تبارك وتعالى في تقديم كلمة "إناثًا" في قوله: "يهب لمن يشاء إناثًا"؛ لأنه كان في الجاهلية إذا رزق الرجل بالبنت ظلَّ وجهُهُ مسودًا، وكانوا يتخافتون ويسخرون من بعضهم إذا رُزق أحدهم وبشِّر بالأنثى: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [النحل: 58، 59].

فكانوا يدفنون الإناث أحياءً والله يقول: ﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ﴾ [التكوير: 8، 9]، بمعنى لماذا تقتلونها؟ لماذا تفضِّلون الذكور على الإناث؟ لماذا الاعتراض على حكم الله واختيار الله؟

عباد الله، أتعرفون أبا حمزة؟ ومن يكون؟! أبو حمزة رجل من السابقين كانت له زوجةٌ صالحة أنجبت له بنتًا وراء بنت، حتى أصبحت ذريته من البنات، فترك بيتها وأصبح يبيت عند جيرانه، فقالت زوجته تناديه بكل أدبٍ واحترام وبكلماتٍ رائعة مهذبةٍ وبدُرر ذهبية ثمينة، فقالت:

ما لأبي حمزة لا يأتينا؟
يظل في البيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنينا
تالله ما ذلك في أيدينا
وإنما نأخذ ما أعطينا
ونحن كالأرض لزارعينا
ننبت ما قد زرعوه فينا

﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 223]، لماذا ترضى بقضاء الله بالولد، وتجزع وتسخط بالبنت، والأكبر من ذلك أنك لا ترضى بقضاء الله في العقم، ولذلك قال الله: ﴿ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ﴾ [الشورى: 50]، ولذلكم الكل يتمنى الولد، لكن هل مع تمنِّيك للولد تتمنى كذلك أن يكون هذا الولد صالحًا؟ فهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام تمنَّى الولد، وهذا سيدنا زكريا عليه السلام تمنى الولد: ﴿ كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ﴾ [مريم: 1 - 5]، لم يقل ذكرًا ولم يقل ولدًا وإنما: ﴿ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾ [مريم: 5، 6]؛ أي: أريده ولدًا صالحًا، ولدًا مؤمنًا، ولدًا يعرف ربه ويعرف دينه ويُقدِّر أبوَّتي!

وما أجمل وما أروع هؤلاء الآباء الذين يطلبون من ربهم هذه الصفات في أولادهم، فيدعون ربهم أن يرزق أولادهم بها، وكم هناك من يتمنى الولد لكن ليس لأجلِ أن يخدم دينه، وينفع أمته، ويستقيم على شرع ربه، إنما تحولت الدعوات بالأولاد لأجل الشهرة والسمعة والميراث، فأصبحت النية سيئة، وصار المنبت سيئًا والولد لم يأت بعدُ.

ولذلكم الأصل فيمن يتمنى الولد أن يتمناه ليكون عونًا له إلى طاعة الله، عونًا له في خدمة دين الله، عونًا له ليصل به إلى رضوان الله، عونًا له ليكون خير خلف لخيرِ سلف: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ [يس: 12].

وأروع أثر لك أيها الأب هو الولد الصالح، الولد المؤمن، الولد الذي سيدعو لك بعد مفارقتك للحياة الدنيا، الولد الذي سيعمل جاهدًا لأن يسعدك في قبرك، ويسعدك يوم الوقوف بين يدي ربك جل وعلا، الولد الذي يحمل ذكرك، ويحمل تربيتك، ويحمل اسمك في اليوم الذي سيقول عنه الناس: ما شاء الله تبارك الله، هذا فلان بن فلان رحمة الله عليه، هذا الشبل فعلًا من ذاك الأسد، ملتزمٌ كوالده، ومحترمٌ كأبيه، أخلاقه مهذبة وخلقه مستقيم، لين الجانب، رحب الصدر، طيب القلب كريم النفس، انظروا إليه، ماذا تجدون؟ الصدق، الأمانة، الأدب، الاحترام، الأخلاق الالتزام، الإيمان، المثابرة، الحنان، الرحمة، التواضع، الصلاح، الاستقامة.

أقول قولي هذا واستغفروا الله لي ولكم من كل ذنب ويا فوز المستغفرين.

الخطبة الثانية :

أما بعد أيها الكرام، فنحن نقف اليوم مع نعمة من نعمة الله الغالية والنفيسة علينا، أنادي اليوم كل الآباء والأمهات وأولياء الأمور، وأقول لهم: يا أيها الآباء والأمهات، الله الله في هذه النعمة التي بين أيديكم، الله الله في أولادكم، الله الله في أبنائكم وفلذات أكبادكم، وجِّهوهم الوجهة الصحيحة، وقودوهم إلى الله وإلى محبة شرع الله ودين الله، اغرسوا في نفوسهم حبَّ الله وحبَّ رسوله وصحابته.

انقشوا في قلوبهم وأرواحهم ما تُحبوه من الخير، ولا زلت أجسادهم وأفئدتهم مطواعة ولينة وبيضاء، تقوى على تقبل ما تعطونهم.

لقِّنوهم دروس عملية، فالدرس العملي أبلغ الدروس، وبها سينشأ على تعظيم الله.

ضَع المال في يديه وقل له: أعطه لذلك المسكين وتصدَّق به على ذلكم الفقير؛ ليُحب الله ويحبَّ الآخرين، ويحب الخير وينشأ على الإنفاق والبذل ورحمة المحتاجين.

• علِّمه الاستغفار ودرِّبه عليه عمليًّا؛ حتى لا ينساك من الاستغفار غدًا، وحتى لا ينساك من الدعاء غدًا، وأنت في بطنِ اللحد مغيب.

وما أروع هذا الدعاء الذي سينطلق من لسانه قائلًا: " ﴿ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24]، واسمع للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي يقول: إنَّ الرجلَ لتُرفعُ درجتُه في الجنةِ، فيقول: أنَّى لي هذا؟ فيقال: باستغفارِ ولدِك لك؛ (حسنه الألباني)، ربنا هب من لدنك ذريَّة طيبة إنك سميع الدعاء.

﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

لا تنس ذكر الله
سبحان الله والحمدلله ولا إله إلّا الله والله أكبر
0 / 100

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية