علو الهمة

علو الهمة

علو الهمة


الحمد لله العظيم المتعال، ذو الإفضال والإنعام، الكريم المنان، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

عباد الله، علو الهمة خلقٌ رفيع وغاية نبيلة، تعشَقه النفوس الكريمة، وتهفو إليه الفِطَر القويمة، وعلو الهمة من الأسس الأخلاقية الفاضلة وإليه يرجع جمعٌ من الأخلاق؛ كالجِد في الأمور، والترفع عن الصغائر والدنايا، وكالطموح إلى المعالي، والإسلام يحث على هذا الخلق النبيل، فقال تعالى: ﴿ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: ١٣٣]، وقال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: ٣٥].

وإن صاحب الهمة العالية يستصغر ما دون النهاية من معالي الأمور، وطلب المراتب السامية، واستحقار ما يجود به الإنسان عند العطية، والاستخفاف بأوساط الأمور، وطلب الغايات، والتهاون بما يملِكه، وبذل ما يمكنه لمن يسأله من غير امتنان ولا اعتداد به.

وإن في طليعة أصحاب الهمم العالية هم الأنبياءُ والمرسلون، وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل، وعلى رأسهم خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تجلَّت هِمَّتهم العالية في مثابرتهم وجهادهم ودعوتهم إلى الله عز وجل، كما أوضحه الله عز وجل في قصصهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقال تعالى: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: ٢٣].

وصف الله سبحانه وتعالى المؤمنين بوصف الرجال الذين هم أصحاب الهمم العالية، فصدقوا ما عاهدوا الله، فأوفوا بالعهود وأتِموا المطلوب، وأكملوا ما أوجبه الله عليهم، فَمِنْهُم من قَضَى نَحْبَهُ أي: إرادته ومطلوبه، وما عليه من الحق، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلًا.

وقال سبحانه: ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ ﴾ [النور: ٣٧].

فهؤلاء الرجال هم أصحاب الهمم العالية، ليسوا ممن يؤثر على ربه دنيا، ذات لذات فانية، ولا تجارة ومكاسبها، ولا مناصب زائلة، لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ، وهذا يشمل كل كسب يقصد به العوض، فهؤلاء الرجال وإن اتَّجروا وباعوا واشتروا، فإن ذلك لا محذور فيه، لكنه لا تلهيهم تلك بأن يقدموها ويؤثروها على ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ، وما أوجبه الله عليهم، بل جعلوا طاعة الله وعبادته غاية مرادهم، ونهاية مقصدهم، فما حال بينهم وبينها رفَضوه.

• وقال الله سبحانه وتعالى بعد أن ذكر عددًا من الأنبياء ومواقفهم، ودعوتهم لقومهم: ﴿ أُوْلَئِكَ الذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: ٩٠].

عن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يحب معالي الأمور، وأشرافها، ويكره سَفسافها»؛ (صححه الألباني).

قال المناوي: (وهي الأخلاق الشرعية والخصال الدينية لا الأمور الدنيوية، فإن العلو فيها نزول (ويكره) في رواية البيهقي، ويبغض (سَفسافها)؛ أي: حقيرها ورديئها، فمن اتَّصف من عبيده بالأخلاق الزكية أحبَّه، ومن تحلَّى بالأوصاف الرديئة كرهه، وشرفُ النفس صونها عن الرذائل والدنايا والمطامع القاطعة لأعناق الرجال، فيربأ بنفسِه أن يلقيها في ذلك.

• وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله» (رواه البخاري).

وقال صلى الله عليه وسلم: «احرِص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تَعجِز»؛ (رواه مسلم).

وعامة نصوص الترغيب والترهيب في الوحيين الشريفين، إنما ترمي إلى توليد قوة دافعة تحرك قلب المؤمن، وتوجِّهه إلى إقامة الطاعات، وتجنب المعاصي والمخالفات، وإلى بعث الهمة وتحريكها، واستحثاثها للتنافس في الخيرات.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارقَ، ورتِّل، كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها» (صححه الألباني).

روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (لا تصغرنَّ هِمتكم، فإني لم أر أقعد عن المكرمات من صِغر الهِمم).

وقال ابن الجوزي: (من علامة كمال العقل علو الهمة، والراضي بالدون دني).

• قال ابن القيم: (فمن علَت هِمَّته، وخشَعت نفسه، اتَّصف بكل خلقٍ جميل، ومن دنت هِمَّته وطغت نفسه، اتَّصف بكل خلق رذيل).

قلت ما سمعت، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، هادي عباده للطريق القويم والصراط المستقيم، وصلِّ اللهم وسلم على خير الخلق أجمعين، وقائدهم على الصراط المستقيم، أما بعد:

أيها المؤمنون، إن لعلوم الهمة موانعَ تمنع من اكتسابها؛ منها:

الذنوب والمعاصي، والخوف والهم والحزن، فهي آفات قلبية وعوائقُ نفسية توهن الهمة، وتُضعف الإرادة، وتقود إلى الخور والفتور، وفتنة الفقر أو الغنى، كلاهما قد يشغل القلب عن غايته والوصول إلى هدفه، واليأس والتشاؤم، ومجالسة القاعدين، فإنَّ مجالسَ البطالون والقاعدون توهن العزائم وتُضعف الهمم بما يَعلَقُ في القلب من أقوالهم من الشُّبَه، وما يحصل بمجالستهم من ضياع للوقت، وإشغال بتوافه الأمور، ومن موانع الهمة أيضًا الإكثار من الطعام والنوم والكلام، والانشغال الكثير بالدنيا.

وإن الارتقاءَ بالهمة والعلو بها عن السفاسف يحتاج إلى جهد ومجاهدة وصبر ومصابرة، وهناك بعض الأسباب التي لها أثرٌ كبير في كبر الهمة وارتفاعها:

منها العلم، والذكر، والدعاء، وتذكر اليوم الآخر، وطبيعة الإنسان، وأثر الوالدين، ودورهما في التربية الصحيحة، والنشأة في مجتمع مليء بالقمم، وتقديم النوابغ، ورعاية المواهب وغيرها.

لا تنس ذكر الله
سبحان الله وبحمده
0 / 100

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية