كان القرآن لنا وطنًا

كان القرآن لنا وطنًا

كان القرآن لنا وطنًا


هذه قصة حقيقة -لا تمت لي بصلة
لكن فيها العبرة لمن أراد أن يؤسس بيتًا تكون عُمُده الإيمان والعزة والشرف والرحمة والسكينة.

أن ينعم الله عليك ببيت قرآني، فتلك هي النعمة، وأن يؤَسس بيتك على أعمدة العلم والدعوة، ونشر الخير والبر، فذلك هو الأساس المتين، وقبل ذلك وبعده أن تُرزق زوجة صالحة، تحمل القرآن، وتنشر أريجَ العلم والآداب والأخلاق، فذلك - وربي- لهو الفضل المبين...

عقد عليها زوجها وهو في الجامعة ، وهي كانت في الصف الثالث الثانوي ، وكانت أول طالبة ترتدي النقاب في مدينتها فتم طردها من الدراسة لما رفضت خلعه ، فاتجهت إلى القرآن وعلومه، .سافروا مع ابنهما البكري بعدها إلى المدينة المنورة، فأخذ زوجها على نفسه تعليمها، وحصلا على إجازة فى القرآن الكريم برواية حفص، يقول زوجها : بدأنا ندرس في الحرم النبوي الشريف، فدرست أنا على يد الشيخ عطية محمد سالم (بلوغ المرام) في الفقه، ودرستُ التفسير على يد الشيخ علي الغامدي، و في العقيدة الأصول الثلاثة على يد الشيخ عبد الرحمن الشمساني، وأخذت فيها الإجازة، ثم درسنا (معارج القبول)

كنت أتناول جوانبَ العلومِ الإسلامية جانبًا تلو الآخر من بدايته إلى الأعلى بالتدريج قدر الإمكان؛ فمثلًا في مجال السيرة بدأنا معًا ب (نور اليقين) للخضري بك ، ثم تهذيب السيرة لابن هشام، والسيرة النبوية للغزالي وزاد المعاد وهذا الحبيب يا محب، والسيرة النبوية لأحمد فريد ، والمنهج الحركي للسيرة للغضبان ، والسيرة للصلابي ..والرحيق المختوم للمباركفوري،

وفى مجال الفقه بدأنا بأبي بكر الجزائري فى كتابه ( منهاج المسلم) ثم درسنا (فقه السنة) ومعه (تمام المنة) ثم (المجموع) للنووي و(المغني) لابن قدامة ثم استمعنا تسجيل بشرح الموطأ للإمام مالك بصوت الشيخ عطية قاضي القضاة بالمدينة المنورة رحمه الله ..

وفى الرقائق قرأْنَا معظم الرقائق بداية من (مختصر منهاج القاصدين) و (إحياء علوم الدين ) لأبي حامد تحقيق العراقي ، ثم الكتب الحديثة...وهكذا في كل مجال ، كل يوم بعد انتهاء العمل والدراسة في المسجد النبوي ، أعود وأدرس لها ما تعلمته كنت لها مدرسة، وكانت لي وطنًا ..

ثم عدنا بعد عدة سنوات من مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واستقربنا المقام فى قاهرة المعز،.
ما سمعت زوجتي بأي امرأة تحسن القراءات العشر إلا ودرستْ على يديها مهما بعد المكان، ومهما كان المقابل المادي، لذلك كنت أقود لها سيارتي القديمة المتهالكة إلى أي مكان، وانتظرها فى الشارع في حرارة الشمس الحارقة أو برودة الشتاء القارس حتى تنتهي، ثم نعود فى بهجة، وفرح ورضا ، فإذا تعطلت السيارة تركناها ؛ لنستقل المواصلات العامة، ثم نعود إلى سيارتنا ، فنجدها تعمل !

هكذا كان المكان البعيد متعة، والقريب لحظة والمزدحم مشاكسة .

حتى حصلت على إجازات في القراءات العشر الكبري ولله الحمد والمنة .

يواصل الزوج قائلا :
أذكرُ مرة أننا خرجنا في رحلة مع أصدقاء لنا إلى الإسكندرية في إجازة نصف العام ومن أول لحظة في الرحلة والأمطار كانت شديدة جدًا والبحر هائج يزمجر والأطفال يداعبون الموج الذي يلفح وجوههم متخطيًا الكتل الخرسانية، كنّا في غاية الفرح والسرور حتى قال الذين شاركونا الرحلة : إن أجمل ما فيها هذه الأسرة التي كانت سعيدة بهذا الجو القاسي.

وهناك فى جنوب البحر المتوسط، وفي شمال جمهورية مصر العربية ، كان والداي يسكنان في بيتي وبعدما رحلا عن الدنيا تولت هي إدارة البيت فحولته لدار تحفيظ ومقر لجمعية خيرية و كلفت من يقوم برعايته، وكنا هنا في القاهرة ما سمع مسجد بإمكانياتها وفضلها إلا استضافها تدرس الناس، لم تترك مكانًا في محيطنا إلا وأفاضت عليه من علمها وأدبها وأخلاقها..

كنت أقود بها السيارة إلي مدينتها في الشمال ؛ لتلقي دروسها في مسجد أخيها رحمه الله ، تعلم الطالبات والدارسات من المحافظات القريبة من الإسكندرية والبحيرة ورشيد ودمياط وكفر الشيخ ؛ وفي القاهرة أختارت المناطق العشوائية اجتهدت بعمل دروس، وحلقات تحفيظ ، ومحو أمية وتدريب النساء علي الاعمال والحرف ...

و في الصيف قامت بعمل فكرة عظيمة ، وهي عمل معسكر لختم القرآن كاملًا فترة الصيف فى المسجد بدون رسوم ، وكانت تتكلف بوجبتي الفطار والغداء من الساعة الثامنة صباحًا حتى الخامسة مساءً، لك أن تتخيل زوجة مع خادمة المسجد والخادمة بالبيت يجهزون الوجبات من بعد الفجر لأكثر من مائة طفلٍ ..

كانت تدخر من قوتها وقوت أولادها ولم تتلقَ أي مساعدة من أحد ..و بفضل الله كانت تزف كل صيف أشبالًا و زهرات إلى مائدة و قائمة الحافظين والحافظات لكتاب الله ..

لكن كان هناك نوعية جديدة من الناس تعلقوا " بها " يأتين إلى البيت !! نساء من أوروبا وشرق آسيا – كانت تستضيفهن في بيتها الواسع مساحةً وحبًا وعفة وكرمًا و جمالًا .. حتى جاءتنا فكرة أن نقوم بإنشاء دار لتحفيظ القرآن الكريم بعد عام ٢٠١٣م ، وعدم القدرة على الأداء في المساجد وقامت بعمل دار التحفيظ واستوعبت هذه الدار عددًا كبيرًا ، ولما كانت النساء الأجنبيات يأتين ومعهن أطفالهن، فأنشأت حضانة لهؤلاء الأطفال، قامت بتدريس القرآن وعلومه، واللغة العربية وعلومها، والعلوم الشرعية معًا.

من عدة سنوات سافرت " وأولادها إلى الطرف الآخر - شمال البحر الأحمر المتوسط - وإن كانت الظروف اضطرتها أن تغلق بيتها فى جنوب البحر المتوسط فقد فتحت بيت نوافذه تعانق عنان السماء وتستجلب البركة و الرحمات تداوي تشققات الأرض وظمأ القلوب ..

هناك فى بيت بسيط ما زالت تدرس القرآن وعلومه ، واللغة العربية، والعلوم الشرعية لجميع أنحاء العالم ،
ولما بدأت كورونا تفتك بالأخضر واليابس وسدت جميع المنافذ فلم تستطع التواصل حتى أن بعضَ الطلاب المرتبطات بها عاطفيًا ووجدانيا سافرنَ لها من ألمانيا وإنجلترا وفرنسا وروسيا ...هل تستقبلهن ؟ أم أن الحظر يفرض نفسه؟ فتفهم الجميع الأمر وكانت لقاءات عابرة قصيرة، ثم وداع على أمل اللقاء بعد رفع بلاء كورونا عن العالم ..

ولكن ذلك لم يطل فبدأت تواصل عملها عن طريق الزووم واليوتيوب وها هي تنشأ صفحة لدار التحفيظ على اليوتيوب..

الحقيقة من أجل أن تكون من أصحاب هذا الكتاب العظيم لا ينفع ما نقوم به كل يوم من قراءة سريعة لبعض الآيات أو الأجزاء ..الأمر معها مختلف هي تعيش بهذا الكتاب ومع هذا الكتاب ومن أجل هذا الكتاب ففتح الله عليها بركة وسعادة و رزقها بأولاد كلهم حفظوا كتاب الله ، وتربوا تربية صحيحة والفضل يرجع بعد الله لها ...

يقول زوجها :
ما أغضبتنى يومًا وما غضبت منها لأمر دنيوي، فإن غضبت منها وكنت أنا المخطئ لا تنام حتى تصالحني

اختلفت مرة معها بشدة طوال الثلاثين عام زواج .. فكانت مثال وقدوة في آداب الاختلاف وروح الدين من كرم وعفو وتسامح وأصالة .. إنّها أخلاقُ القرآن قولا واحدًا.

بقلم علي السيار
عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية