محتويات المقال
الغفلة وطول الأمل
طول الأمل وحب الدنيا من أسوأ الأدواء
ماذا بعد الصحة إلا السقم؟! وماذا بعد البقاء إلا الفناء؟! وماذا بعد الشباب إلا الهرم؟! وماذا بعد الحياة إلا الممات؟!.
اعْلموا أَن طول الأمل دَاء عضال، وَمرض مزمن، وَمَتى تمكن من الْقلب فسد مزاجه، وَاشْتَدَّ سقمه، وَلم يُفَارِقهُ دَاء، وَلَا نجع فِيهِ دَوَاء، بل أعيا الْأَطِبَّاء، ويئس من بُرئه الْحُكَمَاء وَالْعُلَمَاء. وقد وردت كثير من النصوص الشرعية تحذر من طول الأمل، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الحجر: 3]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال قلب الكبير شابًّا في اثنتين: في حب الدنيا، وطول الأمل"
وقد رسم النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه على الأرض؛ يعلمهم ويشرح لهم خطورة طول الأمل في صورة محسوسة، فعَن عبد الله بن مَسْعُود -رَضِي الله عَنهُ- قال: خط لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطًّا مربعًا، وخطاً وسط الخط المربع، وخطوطًا إلى جانب الخط الذي وسط الخط المربع، وخطًّا خارجًا من الخط المربع، فقال: "أتدرون ما هذا"؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: "هذا الإنسان الخط الأوسط، وهذه الخطوط إلى جنبه الأعراض تنهشه، أو تنهسه من كل مكان، فإن أخطأه هذا أصابه هذا، والخط المربع الأجل المحيط، والخط الخارج الأمل" ، يُرِيد -عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- أَن يشير إلى أن الْإِنْسَان قد أحَاط بِهِ أَجله، وَأَنه دائر بِهِ فَحَيْثُمَا توجه لقِيه، وَأَن فتن الدُّنْيَا ومحنها تعترضه، وتنهشه، وتتلقاه، وتستقبله، وَهُوَ مَعَ ذَلِك بعيد الأمل، مَصْرُوف النّظر إِلَيْهِ.
وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن طول الأمل سبب لهلاك الأمم، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "صَلاَحُ أَوَّل هَذِهِ الأَمَّةِ باِلزُّهْدِ وَالْيَقِينِ، وَيَهلِكُ آخِرُهَا باِلْبُخلِ وَالأَمَلِ"
حال السلف في قصر الأمل
وفي مشهد عجيب يزرع النبي -عليه الصلاة والسلام- في أصحابه قصر الأمل والاستعداد للآخرة، فعَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَنه قَالَ: بَيْنَمَا نَحن نصلح خُصًّا لنا إِذْ مر بِنَا رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "مَا هَذَا؟" فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله قد وهى؛ فَنحْن نصلحه، فَقَالَ:"مَا أرى الْأَمر إِلَّا أعجل من ذَلِك" فسبحان الله. "الخُصّ" عبارة عن بَيت من قصب. -وعَلَيْهِ السَّلَام- فيُرِيد تَعْجِيل الْأَمر، وتقريبه، وَخَوف بغتته، والحذر من فجأته؛ لا أنه يحرّم ذلك.
وكذا كان حال السلف في قصر الأمل، فقد قيل للربيع بن خَيْثَم -رَحمَه الله تَعَالَى- كَيفَ أَصبَحت ؟ فَقَالَ: "كَيفَ يصبح رجل إِذا أصبح لَا يدْرِي أَنه يُمْسِي! وَإِذا أَمْسَى لَا يدْرِي أَنه يصبح"، وهذا امتثال منه -رَحمَه الله- لحديث عبد الله بن عمر بن الْخطاب -رَضِي الله عَنْهُمَا- قَالَ: أَخذ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي وَقَالَ: "كن فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيب، أَو عَابِر سَبِيل، وعد نَفسك من أهل الْقُبُور؛ فَإِذا أَصبَحت فَلَا تحدث نَفسك بالمساء، وَإِذا أمسيت فَلَا تحدث نَفسك بالصباح، وَخذ من حياتك لموتك، وَمن غناك لفقرك، وَمن صحتك لسقمك، فَإنَّك لَا تَدْرِي يَا عبد الله مَا اسْمك غَدًا"
اختلاف النَّاس فِي قصر الأمل وَطوله
والنَّاس فِي قصر الأمل وَطوله مُخْتَلفُونَ، وَفِي درجاته متفاوتون، فَمنهمْ من يؤمل أَن يعِيش أقْصَى مَا يعيشه إِنْسَان، مِمَّن شَاهد أَو سمع بِهِ فِي زَمَانه، وَلَو كَانَ الِاخْتِيَار إِلَيْهِ لما مَاتَ أبدًا، حبًّا مِنْهُ للدنيا، وكَلَفًا بهَا، وتلذذًا بِالْبَقَاءِ فِيهَا، وهيهات لَيْسَ للْإنْسَان مَا تمنى، وَلَا أَن يدْرك كل مَا فِيهِ تعنى، وَغَايَة هَذَا؛ أَن يتَمَنَّى طول الْعُمر، وَيَوَد أَن لَو يبْقى الأحقاب الْكَثِيرَة من الدَّهْر، قَالَ الله تَعَالَى فِي قوم كَانُوا كَذَلِك: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [البقرة: 96].
وَمِنْهُم من يؤمل أَن يعِيش سِتِّينَ سنة، وَسبعين سنة، وَأكْثر من ذَلِك، وَمِنْهُم من يؤمل أَن يعِيش فَوق ذَلِك، وَدون ذَلِك، حَتَّى إِن مِنْهُم من لَا يُجَاوز أمله يَوْمه، وَرُبمَا كَانَ أمله أقصر من ذَلِك، بل مِنْهُم من يكون الْمَوْت نصب عَيْنَيْهِ.
وَكَانَ بعض الصَّالِحين يَقُول: "مَا أحسبني إِلَّا رجلا قد أقعد ليُقْتل، وجرد السَّيْف عَلَيْهِ، ومدت عُنُقه، فَهُوَ ينْتَظر أَن يضْرب؛ فَيلقى رَأسه بَين يَدَيْهِ؛ فشتان مَا بَين الرجلَيْن". وَآخر قد مد فِي عمره، وَطول فِي أمله؛ فازداد فِي كسله، وَدخل الوهن فِي عمله، وَرجل آخر قد جعل التَّقْوَى بضاعته، وَالْعِبَادَة صناعته، وَلم يتَجَاوَز بأمله سَاعَته، بل جعل الْمَوْت نصب عَيْنَيْهِ، ومثالا قَائِما بَين يَدَيْهِ، وسيفا مُصْلِتًا عَلَيْهِ، فَهُوَ مرتقب لَهُ، مستعد لنزوله قد مَلأ قلبه وجلاً، وعمره عملاً، وعد يَوْمًا وَاحِدًا يعيشه بَقَاء ومهلاً وغنيمة تملأ نَفسه سُرُورًا؛ لازدياده فِيهِ من الْخَيْر، وادخاره فِيهِ من الْأجر، واكتسابه عِنْد الله -عز وجل- من جميل الذّكر.
فَانْظُر -رَحِمك الله تَعَالَى- أَي الرجلَيْن تُرِيدُ أَن تكون؟ وَأي العملين تُرِيدُ أَن تعْمل؟ وَبِأَيِّ الرداءين تُرِيدُ أَن تشْتَمل؟ وبأيهما تُرِيدُ أَن تتزين وتتجمل؟ فلست تلبس هُنَاكَ إِلَّا مَا لبسته هُنَا، وَلَا تحْشر هُنَاكَ إِلَّا فِيمَا كنت فِيهِ هُنَا، إِن صَلَاحًا فصلاح، وَإِن فجورًا ففجور، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ تَأْوِيل الْخَبَر الْمَرْوِيّ عَن النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- أَنه قَال: "يبْعَث الْمَيِّت فِي ثِيَابه الَّتِي مَاتَ فِيهَا" .
مساوئ طول الأمل وعواقبه
إن طول الأمل حجاب على قَلْبك، يمنعك من رُؤْيَة الْمَوْت ومشاهدته، فَانْظُر -رَحِمك الله- نظر من رفع عنه حجاب الغفلة، وبادِر قبل أَن يُبَادر بك، وَينزل عَلَيْك، وَينفذ حكم الله فِيك؛ فتطوى صحيفَة عَمَلك، وَيخْتم على مَا فِي يَديك، وَيُقَال لَك اجن مَا غرست، واحصد مَا زرعت، وأقرأ كتابك الَّذِي كتبت، كفى بِنَفْسِك الْيَوْم عَلَيْك حسيبًا، وبربك تبَارك وَتَعَالَى شَهِيدًا ورقيبًا.
وطول الأمل له مساوئ وعواقب وخيمة، إذ الأمل يكسّل عَن الْعَمَل، وَيُورث التَّرَاخِي والتواني، ويعقب التشاغل والتقاعس، ويخلد إِلَى الأَرْض، ويميل إِلَى الْهوى، وَهَذَا أَمر مشاهد بالعيان فَلَا يحْتَاج إِلَى بَيَان، كَمَا أَن قصره يبْعَث على الْعَمَل، وَيحمل على الْمُبَادرَة، ويحث على الْمُسَابقَة.
متى تكون الغفلة والأمل نعمتين؟
وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- العبد المؤمن أن يغتنم ويربح من أنفاسه وحياته، ولا يغفل فعَن ابْن عَبَّاس-رَضِي الله عَنْهُمَا- عَن النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- أَنه قَالَ لرجل وَهُوَ يعظه: "اغتنم خمْسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"
وأشار إلى خطورة نعمتي الصحة والفراغ، وأن العبد كثيرًا ما يفرط فيهما، فعَن ابْن عَبَّاس أَيْضا عَن النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "نعمتان مغبون فيهمَا كثير من النَّاس: الصِّحَّة، والفراغ"
ونبه -صلى الله عليه وسلم- إلى أن الخائف والطائع يسلك سبيل المحسنين؛ لينجو مما يخاف وينال ما يطمع، فعَن أبي هُرَيْرَة -رَضِي الله عَنهُ- عَن النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- أَنه قَالَ: "من خَافَ أدْلج، وَمن أدْلج بلغ الْمنزل، أَلا إِن سلْعَة الله غَالِيَة، أَلا إِن سلْعَة الله الْجنَّة"
تحذير النبي أصحابه من الغفلة
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحذر أصحابه من الغفلة ويخوفهم من الساعة في خطب الجمعة، فعن جَابر بن عبد الله قال: كَانَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- إِذا خطب رفع صَوته واحمرت عَيناهُ كَأَنَّهُ مُنْذر جَيش يَقُول: "صبحكم ومساكم، وَيَقُول: "بعثت أَنا والساعة كهاتين، ويقرن بَين أصبعيه السبابَة وَالْوُسْطَى" ، يُرِيد -عَلَيْهِ السَّلَام- تقريب الْأَمر، وَسُرْعَة نُزُوله، وكل آتٍ قريب، وكل مَا هُوَ كَائِن سَيكون.
وقبل ذلك وأعظم أن جعل القرآن يوم الساعة وموعد الآخرة غدا؛ تحطيما للأمل وقطع للتسويف، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر: 18].
ولعل بعض الناس يسأل فيقول: لَو أَنِّي قصّرت أملي كَمَا طلب مني، وَقصّر ذَلِك أمله، وَذَاكَ أمله، وَقصر النَّاس آمالهم، وَتركُوا صناعاتهم وَأَسْبَاب معيشتهم لفسدت الأَرْض، وَهلك النَّاس، وَفَسَد هَذَا الْعَالم.
فَأَقُول نعم صدقت! لَو قصر النَّاس آمالهم بِحَيْثُ يتركون صناعاتهم، وَالنَّظَر فِي معيشتهم، وَعمارَة دنياهم، وَأَجْمعُوا على ذَلِك، لَكَانَ مَا قلت، وَلَكنهُمْ لَا يَفْعَلُونَ! وَلَيْسَ بتقصيرك أَنْت أملك يقصر النَّاس آمالهم، وَلَا بزهدك أَنْت فِي الدُّنْيَا يزهد النَّاس كلهم فِيهَا، فَلَا تبك يَا هَذَا! وَلَا تشغل نَفسك بِهِ، وَلَا يمنعك ذَلِك من تَقْصِير أملك، وَلَا من زهدك وَإِصْلَاح عَمَلك، وَعَلَيْك بِنَفْسِك فعنها تُسْأَل، وبالواجب عَلَيْهَا تطلب، وَلَيْسَ تقصيرك أملك بِالَّذِي يمنعك أَن تطلب رزقك، وَأن وتسعى لإصلاح نَفسك، وتقوم على معيشتك وأهلك، وجَمِيع منافعك، بل تقدر أَن تجمع بَينهمَا، وَذَلِكَ بأَن تنظر معونة الله -عز وجل- لَك وتثبيته إياك.
وقد كَانَ الصالحون من سلف الأمة يقل فَرَحهمْ بالدنيا، وسعيهم لَهَا، واغتباطهم بهَا، وَكَانُوا يتركون تشييد الْبُنيان، وزخرفته، وتنجيده، وَيدعونَ التأنق فِي ملابسهم ومراكبهم، ويجتزئون من الدُّنْيَا بِمَا أمكن، وَيَأْخُذُونَ مِنْهَا مَا تيَسّر، ويقتصرون على مَا يبلغ؛ فتقل تبعتهم، ويهون حسابهم، وَيخرجُونَ من الدُّنْيَا خفافا، يقدرُونَ على قطع عقبات الْآخِرَة، وسلوك طرقها الضيقة، وسبلها الشاقة، ويسهل عَلَيْهِم الْأَمر هُنَالك.
وَأما قصر الأمل حَتَّى تتْرك الصناعات وَأَسْبَاب الْمَعيشَة، فَإِنَّمَا يَصح فِي بعض الْأَشْخَاص، وَفِي الْقَلِيل من النَّاس بمؤنته، وَيبقى أُولَئِكَ مَعَ آمالهم وَالنَّظَر فِي أَعْمَالهم، فَإِن الأمل رَحْمَة من الله تَعَالَى: تنتظم بِهِ أَسبَاب المعاش، وتستحكم بِهِ أُمُور النَّاس، ويتقوى بِهِ الصَّانِع على صناعته، وَالْعَابِد على عِبَادَته، وَإِنَّمَا يذم من الأمل مَا امْتَدَّ وَطَالَ، حَتَّى أنسى الْعَاقِبَة والمآل، وثبط عَن صَالح الْأَعْمَال، قال الحسن: "الغفلة والأمل: نعمتان عظيمتان على ابن آدم ولولاهما ما مشى المسلمون في الطرق"، يريد لو كانوا من التيقظ، وقصر الأمل، وخوف الموت بحيث لا ينظرون إلى معاشهم وما يكون سبباً لحياتهم لهلكوا ونحوه، قال مطرف بن عبد الله: "لو علمت متى أجلي لخشيت ذهاب عقلي". ولكن الله -سبحانه- من على عباده بالغفلة عن الموت ولولا الغفلة ما تهنوا بعيش ولا قامت بينهم الأسواق.
متى تستعد للموت؟
وَاعْلَم أَن تَقْصِير الأمل مَعَ حب الدُّنْيَا مُتَعَذر، وانتظار الْمَوْت مَعَ الانكباب عَلَيْهَا غير متيسر، فَإِن حب الدُّنْيَا هُوَ سَبَب طول الأمل فِيهَا، والانكباب عَلَيْهَا يمْنَع من الفكرة فِي الْخُرُوج مِنْهَا، والْجهل بغوائلها وعواقبها يحمل على الْإِرَادَة لَهَا والازدياد مِنْهَا؛ لِأَن من أحب شَيْئًا أحب البقاء مَعَه والازدياد مِنْهُ، وَمن كَانَ مشغوفًا بالدنيا محبًّا لَهَا حَرِيصًا عَلَيْهَا قد خدعته بزخرفها وأمالته برونقها وسحرته بزينتها كَيفَ يُرِيد مفارقتها!!.
وهكذا يختلق المبررات ويضع المسوغات, فَإِن كَانَ شَابًّا قَالَ: أَنا صَغِير، وَالْأَيَّام بَين يَدي، وَأَيْنَ حَتَّى أبلغ سِتِّينَ سنة أَو سبعين سنة، وَأَنا مُحْتَاج إِلَى الزَّوْجَة، وَالزَّوْجَة تحْتَاج إِلَى كَذَا وَكَذَا، وَإِذا كَانَت الزَّوْجَة كَانَ الْوَلَد وَكَانَت الْبِنْت، وَاحْتَاجَ الْوَلَد إِلَى كَذَا وَكَذَا واحتاجت الْبِنْت أَيْضا إِلَى كَذَا وَكَذَا، وَهَذَا كُله إِنَّمَا يكون بِالْمَالِ، وَإِن لم يكن لي مَال لم أصل إِلَى مَرْغُوب، وَلم أظفر بمطلوب، وَإِن قعدت عَن الطّلب احتجت إِلَى النَّاس، فَإِذا احتجت إِلَى النَّاس احتقرت، واستخف بِي، وَجَهل قدري، وَترى فلَانًا قد اكْتسب، وَجمع، وَتزَوج، وتمتع، وظفر بالمراد، وَوصل إِلَى مَا أَرَادَ، وَفُلَان كَذَلِك، وَلَا يَقُول ترى فلَانا كَانَ شَابًّا مثلي، وَأَرَادَ مَا أردْت، وسعى فِيمَا سعيت، فَمَاتَ قبل أَن يصل إِلَى إِرَادَته! واختطف قبل أَن يحصل على مطلبه!.
فتراه يسْعَى، ويرغب، ويحرص، وَيطْلب، ويكد آنَاء اللَّيْل، وآناء النَّهَار، وَلَا يقر بِهِ قَرَار! وَلَا تضمه فِي أَكثر الْأَوْقَات دَار! وَكلما فرغ من شغل أَخذ فِي آخر مِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ، بل لَا يفرغ من شغل إِلَّا وَقد عرضت لَهُ أشغال، وَلَا يصل إِلَى أمل إِلَّا انْبَعَثَ لَهُ آمال، فيمني نَفسه بالأماني الْبَاطِلَة، ويحدثها بالأحاديث الكاذبة.
فَإِن وصل إِلَى حَظّ من المَال، وَنصِيب وافر من الْكسْب -مِمَّا يُمكن أَن يعِيش بِهِ عمره كُله أَو طعن فِي السن- وَقيل لَهُ يَا فلَان أرح نَفسك، ودع جسمك، فَهَذَا الَّذِي عنْدك يَكْفِيك! قَالَ: يَا أخي لَا تقل هَذَا! اللَّيْل وَالنَّهَار بَين يَدي وَلَا يكفيهما قَلِيل، وَلنْ يدوما على أحد إِلَّا أذهبا مَا فِي يَده! وأخذا مَا كَانَ عِنْده! وَلَا يُدْرَى مَا يكو ؟ والآفات كَثِيرَة! والأمراض متوقعة! وَالْحَاجة إِلَى النَّاس صعبة! لَا سِيمَا مَعَ الْكبر، وَلَا سِيمَا إِن كَانَ الْأَهْل وَالْولد، فيقيم الْعذر لنَفسِهِ، وَيطْلب لَهَا الْحجَّة، وَيُوجد لَهَا الدَّلِيل، ويصحح لَهَا بِزَعْمِهِ التَّأْوِيل.
فَإِن ذُكِّر بِالْمَوْتِ أَو حدث بِمَوْت إِنْسَان قَالَ: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون! وَالله إِنِّي لفي غَفلَة! وَالله إِنِّي لفي غرور! وَالله إِن هَذِه لمصيبة! لَا يدْرِي الْإِنْسَان مَتى يخترم؟! وَلَا مَتى يختطف؟! وَلَا مَتى تفجؤه الْمنية؟! وَتحل بِهِ هَذِه الرزية؟! هَكَذَا قولا بِلَا فعل! وكلاما بِلَا نِيَّة! فَإِن جَاءَ من سفر تجهز لغَيْره، وَإِن فرغ من بُنيان دَاره نظر فِيمَا يصلح لَهَا، وَإِن جمع مَاله نظر فِي تفريقه فِي الْوَجْه الَّذِي ينمّيه وَيزِيد فِيهِ, وهكذا دوامة لا تنتهي.
وَإِن كَانَ مِمَّن يُصَلِّي فِي الْمَسْجِد، وَيكثر التعاهد لَهُ، قَلَّ مَا يَخْلُو فِيهِ مَعَ ربه! ويتنصل من ذَنبه إِنَّمَا هُوَ فِي الحَدِيث مَعَ فلَان، والضحك مَعَ علان، وَالسُّؤَال عَن أَحْوَال الإخوان، وَمَا جرى فِي الْبلدَانِ، وَمَا وقع فِي الْقَدِيم من الْأَزْمَان، وَرُبمَا أخرجه ذَلِك إِلَى الْغَيْبَة، وَكثير من الْبُهْتَان.
يحدث النَّاس عَن الْأَمْوَات، وَلَا يحدث نَفسه أَنه يَمُوت، ويشيع جنائزهم وَلَا يتخيل أَن جنَازَته تشيع، َيقدر لنَفسِهِ الْعَيْش الطَّوِيل، وَلَا يقدر لَهَا الْمَوْت الْقَرِيب، قد غلب عَلَيْهِ السَّهْو، وأطبقه الْجَهْل، وسدت عَلَيْهِ الْغَفْلَة طرق الْإِنَابَة، وصرفته عَن أَسبَاب الفكرة ،كم رأى من إِنْسَان قد أعد ثوبا ليلبسه فَكَانَ كَفنه؟! وَكم رأى مِمَّن يَبْنِي دَارًا ليسكنها فَكَانَت قَبره؟! وَكم رأى من آخر كَانَ يحب الْوَلَد، ويشتهيه، ويتضرع إِلَى الله -عز وجل- ويرغب إِلَيْهِ فِيه؟! فَلَمَّا أعْطِيه، وَمن عَلَيْهِ به، جمع عَلَيْهِ الرِّجَال، وَأنْفق عَلَيْهِ الْأَمْوَال، وَقَالَ: الْعَقِيقَة سنة، وَالنَّفقَة فِيهَا حَسَنَة.
وَلَعَلَّ الْوَلَد يَمُوت بعد ذَلِك بأيام، أَو بأشهر أَو بأعوام، أَو يعِيش فَيرى فِيهِ من الْأَمْرَاض والأسقام، وأنواع الِابْتِلَاء والامتحان، مَا يود مَعَه أَنه هُوَ لم يكن فَكيف وَلَده! هَذَا أَمر مشَاهد فِي العيان مَوْجُود بالبرهان، وَلَعَلَّه إِن شبَّ، وَبلغ فِيهِ الأمل، ورأي لَهُ من الْعُمر ذَاك الَّذِي كَانَ أمل، صَار لَهُ أعدى الْأَعْدَاء، وَكَانَ مِنْهُ أبعد الْبعدَاء ،كَمَا قد سمع بِجَمَاعَة قَتلهمْ أَوْلَادهم ليستعجلوا ميراثهم، أَو ليصير لَهُم الْملك بعدهمْ.
وصَاحب الصَّنْعَة والضعيف في الحرفة، إِنَّمَا هُوَ فِي كد وعناء، وتعب وشقاء، وَنصب وبلاء، وكده وجهده، لذته وأمنيته أَن يكسو ظَهره، ويشبع بَطْنه، أَو يقوم على عِيَال، أَو يَغْدُو على أَطْفَال، مَعَ شكايته لرَبه، وتسخطه لحكمه، وتبرمه على قَضَائِهِ، وَقلة صبره على بلائه، وَلَا يحدث نَفسه بِمَوْت، وَلَا يخْطر بِبَالِهِ زَوَال، وَلَعَلَّه إِن ذكر الْمَوْت إِنَّمَا يذكرهُ متمنيا لَهُ؛ ليريحه من ذَلِك الْعَذَاب العاجل الَّذِي عذب بِهِ، وَذَلِكَ الْبلَاء النَّازِل الَّذِي نزل عَلَيْهِ، قد شغله مَا لَقِي فِي الْحَال عَن النّظر فِي الْمَآل، وَعَن التزود من صَالح الْأَعْمَال، فَلَا هُوَ من أَبنَاء الدُّنْيَا المنعمين، وَلَا من طلابها المدركين، ولا مع الصابرين الراضين الحامدين الشَّاكِرِينَ.
وَلَا يزَال كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ على حَاله مواظبًا، وَلما هُوَ فِيهِ ملازمًا، حَتَّى يَمُوت على مَا هُوَ عَلَيْهِ، ثمَّ يبْقى فِي البرزخ على مَا كَانَ عَلَيْهِ، ثمَّ يبْعَث على مَا بَقِي عَلَيْهِ فِي البرزخ، أَو تتغمده الرَّحْمَة، وتغشاه الْمِنَّة؛ فيستنقذه ربه تَعَالَى من هَذِه الغمرات، وَيَأْخُذ بِيَدِهِ من هَذِه الهلكات، وَيجْعَل لَهُ نورًا يمشي بِهِ فِي الظُّلُمَات، على مَا يُرْجَى من منته وفضله لَا رب غَيره وَلَا معبود سواهُ.
كثيرًا ما يغتر بعض الناس بنعم الله عليه، وستر الله له، ورُبمَا كَانَ الرجل منعمًا من أول عمره إِلَى آخِره، فيولد فِي نعْمَة، ويتربى فِي نعْمَة، وينشأ فِي نعْمَة تمد عَلَيْهِ ظلالها، وتطول من خَلفه أذيالها، ويجدد عَلَيْهِ فِي كل حِين إسعادها وإقبالها، قد صَار لوَالِديهِ دينا وَدُنْيا؛ فَلهُ يقومان، وَله يقعدان، وَله يهتمان، وَله يجمعان، وبعينيه ينْظرَانِ، وبأذنيه يسمعان، ثمَّ يموتان ويسلمان لَهُ تِلْكَ النِّعْمَة بكمالها، ويتركانها لَهُ على حَالهَا، لم يسمع لَهُ فِيهَا أَنِين! وَلَا عرق لَهُ فِيهَا جبين!.
فَيبقى هُوَ على مَا كَانَ عَلَيْهِ، يمد فِي تِلْكَ النِّعْمَة يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ، وَيفتح لَهَا عَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ، فَمَا شَاءَ من لَذَّة نَالَ فِي الْحَال، وَأُخْرَى تنْتَظر فِي الْمَآل، كلما نَالَ لَذَّة سعى فِي الْأُخْرَى، وَكلما وصل إِلَى مَطْلُوب نظر فِي غَيره، لم يصحب إِلَّا شكله، وَلَا يسمع إِلَّا قَوْله، وَلَا رأى إِلَّا عمله وَفعله، فَإِن ذكر بِالتَّوْبَةِ أَو خوف بِالْمَوْتِ قَالَ: دَعْنَا من هَذَا! وَحدثنَا فِي غير هَذَا! هَذِه سنوات الصِّبَا، وَأَيَّام الشَّبَاب، ومنازل اللَّذَّات، ومرتع الأحباب.
وَأما أَكثر الشَّبَاب فَيَقُول: إِذا كَبرت تُبت! وَلَا يرى هَذَا البائس أَنه قد شيع إِلَى الْآخِرَة من كَانَ أصغر مِنْهُ سنا، قد غرته الشبيبة، وخدعته الصِّحَّة، يَقُول: أَنا صَحِيح وَمَتى أمرض؟! وَمَتى أَمُوت؟! وَلَا يرى الْمِسْكِين أَن الْمَوْت فِي الشَّبَاب أَكثر، وَأَن الَّذِي يَمُوت فِي الْهَرم قَلِيل، وَأَن الْإِنْسَان يَمُوت بَغْتَة، وَإِن لم يمت بَغْتَة مرض بَغْتَة ثمَّ مَاتَ! كَمَا يرْوى أَن الْحسن قيل لَهُ: "إِن فلَانا مَاتَ بَغْتَ" فَقَالَ: "مَا تَعَجُبِكم من ذَلِك؟! إِنَّه لَو لم يمت بَغْتَة لمَرض بَغْتَة؛ ثمَّ مَاتَ!".
أما يعلم هَذَا الْمِسْكِين الْمَغْرُور أن الأَرْض كلهَا مَكَان للْمَوْت، وَأَن الزَّمَان كُله وَقت للْمَوْت، لَا يخْتَص من الأَرْض بمَكَان دون مَكَان، وَلَا من الزَّمَان بِوَقْت دون وَقت، فَلَا يزَال هَذَا الْمَغْرُور منكبا على شَهْوَته، مثابرا على لذاته، غافلا عَن يَوْم صرعته، حَتَّى يُؤْخَذ بِمَا تَأَخّر وَمَا تقدم، ويلقى صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ والفم إِلَى حَيْثُ أَلْقَت رَحلهَا أم قشعم!.
فَانْظُر -رَحِمك الله- كَيفَ يقصر مَعَ هَذِه الْأَحْوَال أمل؟! أَو يَسْتَقِيم مَعهَا عمل؟! أَو كَيفَ يطْمع مَعَ هَذِه الْمَوَانِع أَن يخرج حب الدُّنْيَا من الْقلب؟! أَو يقطع علائقها عَن النَّفس؟! أَو يخْطر بالخاطر ذكر الْمَوْت؟! كلا! حب الدُّنْيَا فِي الْقلب أرسخ، وإخراجها مِنْهُ أصعب، وَالنَّفس إِلَيْهَا أميل، وَهِي بهَا أشغف، وَفِي طلبَهَا أهلك وأتلف، وَعَن طَرِيق الرشد أبعد وأصرف.
وَإِن حب الدُّنْيَا لَهو الدَّاء العضال؛ الَّذِي أهلك الرِّجَال، وأفسد كثيرًا من الْأَعْمَال، إِلَّا أَن تَأتي الْعِنَايَة الإلهية، تصرف الْإِنْسَان إِلَى النّظر الصَّحِيح، وتحمله على الطَّرِيق الْمُسْتَقيم، فَيرى بِعَين الْحَقِيقَة وصحيح البصيرة أَنه لَا بُد من الْمَوْت، وَإِن طَال المدى، وَأَنه يدْفن تَحت أطباق الثرى، وَيَرْمِي بِهِ فِي ظلمات الأَرْض، ويسلط الدُّود على جسده، والهوام على بدنه، فتأخذه من قرنه إِلَى قدمه، وَقد عجز الطَّبِيب، وأسلمه الْقَرِيب، وَتَركه الْوَلِيّ والحبيب، وَعرض عَلَيْهِ عَذَاب السعير، وَأَتَاهُ مُنكر وَنَكِير، وَلم يجد هُنَالك أنيسا إِلَّا عمله، وَلَا صاحبا إِلَّا فعله الَّذِي فعله.
إن العبد إِن نَالَ لَذَّة تجرع بعْدهَا غُصَّة، وَإِن أَتَتْهُ فرحة غَشيته فِي أَثَرهَا ترحة، بل رُبمَا كَانَت الترحات أَكثر من الفرحات، والداهية أَكثر من الْعَافِيَة، وَكلما عظم ملكه عظمت همته، وامتد أمله وَأَرَادَ مَا لَا يُمكن، وَطلب مَا لا يجد، وَقد يَأْتِيهِ النكد من حَيْثُ لَا يظنّ، وَيدخل مَعَه الْهم من حَيْثُ لَا يحْتَسب.
أكثر من الصلاة على النبي يكفيك الله ما أهمك من دنياك وآخرتك
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
0
إقرأ المزيد :
الفئة: مواضيع دينية منوعة