الناس الطيبة
الحمد لله رب العالمين عالم الخفيات وفاطر السماوات، يُدبر الأمر يُفصل الآيات تُسبح بحمده الأرض والسماوات، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، غِنى كل فقير، وقوة كل ضعيف، ومَفزع كلِّ ملهوف، مَن تكلَّم سمِع نُطقه، ومن سكت علمَ سرَّه، ومن عاش فعليه رزقُه، ومن مات فإليه منقلبه، من أقبل إليه تلقاه من بعيد، ومن أعرض عنه ناداه من قريب، ومَن ترك من أجله شيئًا، أعطاه فوق المزيد، ومن أراد رضاه أراد ما يريد.
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وقائدنا محمد المصطفى والرسول المجتبى صلى الله عليه وعلى آله ومن اقتفى، أما بعد:
فيا أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل القائل: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ [البقرة: 281]، اتقوا يومًا الوقوف فيه طويل والحساب فيه ثقيل.
عباد الله، وقفنا وعشنا مع المعادن الطيبة، تأملنا في صفاتهم وأحوالهم، فحياتهم طيبة وأعمالهم طيبة وعيشتهم طيبة.
ما الذي طيَّبهم؟ ما الذي طهَّرهم؟ إنها الإعمال الصالحة؛ قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].
نعم عباد الله، إنها الأعمال الصالحة التي طيبت حياتهم، بين أيدينا ثمانية مطهرات ومكفرات :
- الصلاة فهي أعظم المطهرات للإنسان من الذنوب؛ قال تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].
- الوضوء فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أَنَّ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: «أَلا أَدُلُّكُمْ عَلى مَا يمْحُو اللَّهُ بِهِ الخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلى يا رسولَ اللَّهِ. قَالَ: «إِسْباغُ الْوُضُوءِ عَلى المَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الخُطَا إِلى المَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بعْد الصَّلاةِ، فَذلِكُمُ الرِّباطُ، فَذلكُمُ الرِّباطُ»؛ [رواه مسلم].
واعلموا عباد الله أنه لا يحافظ على الوضوء إلا المؤمن؛ جاء في صحيح مسلم عن عثمان رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من توضأ فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده حتى تخرُج من تحت أظفاره». - من المطهرات والمُطيبات الزكاة، فقد جعلها الله كذلك؛ قال تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103].
- الصيام، فالحكمة من الصيام هي التقوى التي هي الطهارة من كل الشرور؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
- من المطهرات الحج والعمرة، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفُث ولم يفسُق، رجع كيوم ولدته أمه».
وقال صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبثَ الحديد والذهب والفضة»؛ [صحيح الجامع]. - من المطهرات والمكفِّرات ذكر الله وتلاوة القرآن، وحضور مجالس العلم والتسبيح والتهليل، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء، قيل: وما جلاؤها يا رسول الله، قال: ذكر الموت وتلاوة القرآن».
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ للقلوب صدأ قيل فما جلاؤها يا رسول الله، قال: جلاؤها الاستغفار»؛ [معجم الطبراني الأوسط]. - من المُطهرات والمُكفرات الدعاء، وأفضله وأرجاه دعاء القرآن، ثم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فمن دعاء القران: ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23].
﴿ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴾ [الفرقان: 66].
ومن دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم أصلِح لي ديني الذي هو عصمةُ أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادةً لي في كلِّ خيرٍ، واجعل الموت راحةً لي من كل شرٍّ»؛ [أخرجه مسلم].
«اللهم اغسِل قلبي بماء الثلج والبرد، ونقِّ قلبي من الخطايا كما نقَّيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعِد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب». - وأخيرًا من المطهرات والمكفرات الرضا بالقضاء، والصبر عند البلاء، فكل هذا مما يكفر الله به الخطايا ويرفع الدرجات.
قال صلى الله عليه وسلم: «ما يُصيب المسلم من وصَب ولا نصَب حتى الشوكة يشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه»؛ [متفق عليه].
عباد الله، من أسماء الله الحسنى «العدل»، فالله يجازي الناس بأعمالهم، فالجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان.
فالمعادن الطيبة عاشوا عيشة طيبة، وعمِلوا أعمالًا طيبة، وغرسوا في حياتهم ثمارًا طيبة، فالله يجازيهم بأحسن ما كانوا يعملون.
قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46].
﴿ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ [الإسراء: 7].
فرحلة المؤمنين إلى الله رحلة طيبة.
عند الموت يتوفاهم الله طيبين؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 32].
قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ *فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ﴾ [الواقعة: 89].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه وعلى آله وأصحابه وجميع إخوانه.وبعد عباد الله، أهل الإيمان، المعادن الطيبة، عند الموت يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأس المؤمن، فيقول: يا أيتها النفس الطيبة، اخرُجي إلى مغفرة من اللـه ورضوان، فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة مِن في السِّقَاء فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه به في الدنيا.
أما في القبر، فيثبتهم الله تعالى، ويفتح لكل واحدٍ منهم نافذة إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجلٌ حسنُ الوجه حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشِر بالذي يسَّرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، أنا صلاتك، أنا صيامك، أنا صدقتك، أنا فعلك للخيرات، ويوم القيامة هم وفد الرحمن؛ قال تعالى: ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ﴾ [مريم: 85].
وهم يوم القيامة تحت ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله؛ كما جاء في الحديث.
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي».
وأخيرًا الطيبون ختامهم ومآلهم ونهايتهم دار الطيبين الجنة؛ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلًا، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضًا».
أما وجوههم، فيظهر عليها علامات البشر والبهجة والفرح والسرور؛ قال تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23].
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ﴾ [عبس: 38، 39].
﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ﴾ [المطففين: 22 - 25].
أمَّا استقبالهم، فتستقبلهم الملائكة بالترحيب والتهاني وتتلقاهم بالسلام والتحية، وتشهد لهم بطيب أنفسهم وأعمالهم؛ قال تعالى: ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ [الزمر: 73].
أما أزواجهم، فأزواجٌ طيبة مطهرة من كل سوء، وهنَّ الحور العين مع أزواجهم المؤمنات؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 15].
أما لباسهم، فيكسوهم الله في الجنة أطيب الثياب والحلي والأساور؛ قال تعالى: ﴿ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ﴾ [الكهف: 31].
أما طعامهم، فقد قال تعالى: ﴿ وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ﴾ [الطور: 22].
وقال تعالى: ﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ﴾ [الإنسان: 21]، ومع هذا كله فالجنة ليس فيها لغوٌ ولا تأثيم ولا جزع، ولا غل ولا حسد؛ قال تعالى: ﴿ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا ﴾ [الواقعة: 25].
إنها الحياة الطيبة التي لا ينغِّصها مرضٌ ولا خصومة؛ قال تعالى: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾ [الحجر: 47].
عبد الله، وبعد هذا التطواف مع معادن الناس في القرآن والسنة، أقول لك أخي الحبيب:
لعل معدنك من أطيب المعادن، لكن الذي يُخفي طيب معدنك هو غفلتك وعدم اهتمامك بنفسك، أو أنك تعيش في بيئة سيئة، أو تجالس صحبة سيئة، والجوهرة مهما كانت ثمينة وجميلة وهي موضوعة في مكان خبيث، فلن تصفو ولن يظهر جمالُها ولو غسلناها بأطنان من الماء، إلا إذا أخرجناها من ذلك المكان الخبيث إلى مكان طيب.
فإن كنت حريصًا يا عبد الله على طيب معدنك، فعليك بالآتي:
اللهم تبْ علينا توبة صادقة نصوحًا، اللهم اغفر لنا وارحَمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، سبحانك اللهم وبحمدك، نستغفرك ونتوب إليك، أشهد أن لا إله إلا أنت، وصلِّ الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
لا تنس ذكر الله
سبحان الله
0 / 100
إقرأ المزيد :
الفئة: خطب إسلامية