خطبة عن حسن الظن
الخطبة الأولى
إخوة الإسلام، إن شريعةَ الله تعالى كلَّها خيرٌ وبركةٌ علينا، ومن شرائع هذه الشريعة واجباتُ الأخوة في الدين، والتي أُسِّسَتْ في على الأخوة والمودة، والتراحم والتعاطف والتعاون والنصح.
فكل ما يحقق الأخوة، ويزيد في المحبة بين المسلمين فإن الإسلام قد جاء به، وحضت عليه شريعته، ورُتب عليه من المثوبة بحسبه.
وكل ما يعكر صفو الأخوة بين المسلمين، ويؤدي إلى الاختلاف والفرقة، والتقاطع والتدابر، نهى عنه الإسلام، وسدّ الطرق المفضية إليه، ولذلك حذر الإسلام من الظن؛ وهو التهمة التي تقع في القلب على آخر بلا دليل، وقد أُمر المسلمُ أن يحسن الظن بإخوانه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وأن يجعل حسن الظن بالآخرين بوابةً يلج من خلالها إلى التعامل معهم، وعنواناً له في معايشته مع المجتمع؛ وذلك يؤدي به الراحة النفسيّة والهدوء والسكينة القلبية، لأنه فرَّغ قلبه من التشويش الذي يدفعه إلى مراقبة الناس، والتعامل معهم بالظنون الكاذبة.
إن حسن الظن بالآخرين نعمة عظيمة يُنعِم الله بها على من شاء من عباده، وهي من الخصال الجميلة التي يَنعَم بها السعداء؛ لأنها تنأى بهم عن المنغصات؛ أما الذي يُعامِلُ الناسَ بسوء الظن فإنه تجتمع فيه الأحقاد والضغائن التي تَذْهَب برونق حياته؛ فتشوّش قلبه وتنغِّص سعادتَه.
وقد أمر الله تعالى باجتنابِ كثيرٍ من الظن؛ احترازاً من الوقوع في الإثم، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ [الحجرات: 12]. وروى الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إياكم والظنَّ! فإنَّ الظنَّ أكذب الحديث).
كم هو جميل أن نجعل حسن الظن أساسَ التعامل مع الآخرين!! وكذلك كان سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين أحرصَ الناس على هذا الفهم؛ نظراً لما تمتعوا به من حسن الديانة ولما تميزوا به من البصيرة الثاقبة التي جلَّت لهم الحقائق وأبعدت عنهم الأوهام.
لما خاض الناس في حادثة الإفك واتهموا أمَّنا عائشة بالفاحشة؛ وقد تولى كِبْر ذلك رأسُ المنافقين عبدُ الله بنُ أبيّ بنِ سلول؛ جاءت أمُّ أيوب لأبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - فقالت: يا أبا أيوب: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟! قال: نعم؛ وذلك الكذب؛ أكنت فاعلةً ذلك يا أمَّ أيوب؟! قالت: لا والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك. فأنزل الله بأبي أيوب وصاحبته مادحاً لهم: ﴿ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ [النور: 12].
إخوة الإيمان، كذلك يجب على المسلم أن يجتنب الحكم على قلوب الناس، بأنهم ما فعلوا كذا وكذا إلا من أجل كذا وكذا، كمن يتهم غيرَه أنه ما تصدّق إلا رياءً؛ فإن هذا من سوء الظن؛ وهو طبعٌ دنيء، وخلقٌ سيئ، ومن ضعف الدين؛ لأن مَرَدّ النيات إلى عالِمها سبحانه، ولا يجوز الحكم على قلوب الناس بإبطال أعمالهم أو اتهامهم بسوءٍ عملاً بالظن الكاذب دون بينة ولا برهان، والعاقل من اشتغل بعيوب نفسه عن تلمّس عورات الناس وتتبُّعِ عثراتهم، واجتهد بإصلاح حاله.
على أنه لربما يؤخذ بالظن في بعض الأحوال إن دلَّت القرائن على سوء عمل صاحبه، ولذلك قال تعالى: ﴿ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ [الحجرات: 12] ؛ وهذا يعني أن بعض الظن ليس إثماً، وهو ما دلت عليه قرائن الأحوال، كأن تعرف أن هذا المرء كذاب؛ أو أنه يريد الإيقاع بين المسلمين، وظهر لك جلياً ما يدل على حاله؛ فالواجب أن تحذَر منه، وتخافه على إخوانك، ومِن ذلك لو أن رجلاً عُرِف عنه أنه يستدين ولا يوفي ما عليه لغرمائه؛ فلو ظننت به ظن السوء فهذا قد قادك إليه قرينة حاله فلا إثم عليك، وهكذا كل من عُلِم من حاله الشر، قال سفيان الثوري: (من العجب أن يُظنَّ بأهل الشر الخير).
نسأل الله أن يرزقنا سلامة الصدور، وأن يعيذنا من المهالك والشرور؛ وأن يهدينا لصالح الأعمال والأخلاق.
الخطبة الثانية
عباد الله، إذا اعتُبرت الظنون، واستمع إلى مُصدِّريها؛ فَشَت الشائعات، وانتشرت الغيبةُ والنميمة، وأُخذ البريئون بمجرد الظنون والأوهام؛ فتتولد بذلك الأحقاد والضغائن، والانتقام والثارات، وحينئذ لا يأمن الناس على أنفسهم!.
جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد داخلته الريبة في امرأته، وأحاطت به ظنون السوء فيها؛ لأنها ولدت غلاماً أسود على غير لونه ولونها، فأزال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما في قلبه من ظن وريبة بسؤاله عن لون إبله، فقال: ألوانها حمر. قال: (هل فيها من أورق؟ (يعني: الذي فيه سواد غير خالص) قال: نعم، قال: (فأنى ذلك؟) قال: لعله نَزَعهَ عرق، قال: (فلعل ابنك هذا نَزَعَه عرق) رواه الشيخان.
إن الواجب على المسلم أن لا يظن بإخوانه إلا خيراً، فإن وقع في قلبه شيءٌ من الظن حرم عليه العمل بموجب ظنه هذا، فلا يتجسس ولا يتكلم في عرض أخيه، فإذا لم يعمل بموجب ظنه، وأمسك عن العمل والكلام فإن ما وقع في قلبه معفي عنه؛ لعجزه عن دفعه، فالقلوب لا يملكها إلا الله تعالى، قال سفيان الثوري -رحمه الله تعالى: (الظنُّ ظنَّان: ظنٌّ فيه إثم، وظنٌ ليس فيه إثم؛ فأمّا الظن الذي فيه إثم فالذي يتكلم به، وأما الظنُّ الذي ليس فيه إثم فالذي لا يتكلم به).
وعلى هذا فالواجب على المسلم أن يُدافعَ ما يقعُ في قلبه من ظنون على إخوانه، ويغالبَها، ولا يتكلمْ بها، ويطهرَ قلبه منها؛ حتى يكون قلبُه سليماً على إخوانه المسلمين.
وإن كان ظنك بأخيك ناشئاً عن كلام نقل إليك فالواجب عدم تصديق الناقل بلا بينة، وناقل الكلام بين الناس نمام أو مغتاب، فهو فاسق لا يُقبل قوله، ويجب نصحه، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6].
وإن وقع الظنُّ بسبب فعلٍ قام به أخوك المسلم أو كلمةٍ محتملةٍ قالها فلا تحملْ ذلك على السوء ابتداءً وأنت تجد لها في الخير مخرجاً؛ لأن الأصل سلامةُ المسلم، فلا يُعدَل عن الأصل إلا بيقين أو غلبةِ ظنٍ، وهو ما لا تفيدُه كلمةٌ أو فعل محتمِل.
قال عمر - رضي الله عنه -: (لا يحل لامرئ مسلم سمع من أخيه كلمة أن يظن بها سوءاً وهو يجد لها في شيء من الخير مصدراً ).
إخوة الإيمان، وكما نُهي المسلمُ عن الظن الباطل بأخيه المسلم، فهو منهيٌ كذلك عن الأعمال والأقوال التي تجعله محل التهمة، وتورد ظنون السوء فيه. لما ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - مع زوجه صفية ليوصلَها إلى بيتها حينما زارته في معتكفه؛ رآه رجلان من الأنصار فأسرعا فقال - عليه الصلاة والسلام -: (على رسلكما، إنها صفيةُ بنتُ حييّ. فقالا: سبحان الله يا رسول الله!،وكَبُرَ عليهما، فقال - عليه الصلاة والسلام -: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم،وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً) رواه الشيخان.
ولذلك أُمر المسلم إذا سافر في رمضان وأفطر أن لا يجاهر بفطره أمام الناس لئلا يُظنَّ به سوءاً، وكذلك إذا صلَّى فريضته ووجد الناس يصلون فإنه يصلي معهم مرة أخرى وتكون له نافلة.
أمّا مَن كان مجاهراً بالمعاصي، مظهراً لفسقه، معلناً منكراته، فالأصل فيه التهمة؛ لقلة دينه ومجاهرته، إلا أن يتوب إلى الله.
أيها الإخوة: في زمن الفتن تكثر الأقاويل، وتسري الإشاعات في الناس، وتروج سوقُ أهلِ الريب والظنون الفاسدة، ويُظن بأهل الخير والصلاح ما ليس فيهم؛ فتُلاك أعراضُهم، ويقع الناسُ في غيبتِهم!. وإن كان في بعضهم ما يُلصق به فليس من النصيحة التشهيرُ والتعييرُ، وتناقل العثرات، وتسليط الضوء على الزلات.
ألا فاتقوا الله - أيها المسلمون - وظنوا بإخوانكم خيراً، لاسيما من تربطكم بهم قرابة أو رحم أو جوار، وإياكم ووساوسَ الشيطان وخطَراتِه وخُطُواتِهِ!
أسأل الله تعالى أن يحفظنا والمسلمين من وساوس الشيطان، ومن شرِّ القيل والقال، وأن يجعل قلوبنا سليمة على إخواننا المسلمين، إنه سميع مجيب.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق؛ لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنَّا سيئها؛ لا يصرف عنَّا سيئها إلا أنت.
لا تنس ذكر الله
سبحان الله والحمدلله ولا إله إلا الله والله أكبر
0 / 100
إقرأ المزيد :
الفئة: خطب إسلامية