خطبة عن مصعب بن عمير
الخطبة الأولى
معاشر المؤمنين والمؤمنات، كلما تقدم الزمان، احتاج الناس إلى نماذجَ بشرية مشرقة تحيي فيهم روح الأمل، وتبعث فيهم شعلة الحماس، وتوقد فيهم جذوة العزيمة، وتغرس فيهم قِيَمَ الخير والفضيلة؛ فتستعيد الأجيال اللاحقة منها سرَّ نهضتها وتميزها، ولتستنير بها في سيرها إلى الله سبحانه، ولقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خيرَ نماذج هذه الأمة ممن يُقتدى بهم.واليوم بإذن الله نحن على موعدٍ نُحلِّق فيه معًا في بساتين الصادقين الأوائل اليانعة؛ لنرى ونعلم كيف صدقوا مع الله فأعزهم الله وأعز بهم الإسلام في كل مكان، ومَن نتشرف به في جمعة اليوم، ومن نستأنس بالحديث عنه في نصف الساعة هذه - شخصيةٌ فذَّة وصحابيٌّ جليل كلما تعمق القارئ في ترجمته، ازداد له هيبةً وامتلأ إعجابًا وإكبارًا له.
إنه أحد الصحابة الذين كان لهم شرف وضع البُنى الأساسية لمجد الإسلام وعزته ومكانته ورفعته في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأنصار: أوسِهم وخزرِجهم.
إنه أحد السابقين الأولين إلى الإسلام؛ فلقد أسلم رضي الله عنه وأرضاه قديمًا والنبي في دار الأرقم، وأقصد بحديثي استلهامَ روحِ البطولات الرائدة لدى سلفنا الصالح؛ ليصبحَ الحديث عنهم عنوانًا طيبًا صالحًا لبَعْثِ الحياة فيهم من جديد، وتجديد الأمل، واستعذاب المنى، وتفجير الطاقات والقُوَى، وإحداث التغيرات الفورية في جيل الإسلام وأمة الحاضر للاتجاه نحو الأفضل، والعمل من أجْلِ غَدٍ مشرق ومستقبل باسمٍ مليءٍ بالأمجاد، لا مجالَ فيه لمتخاذلٍ أو متقاعسٍ.
نعم أحبابي الكرام، ليس الكلام الشائق المفصل عن حياة أيِّ صحابي مجردَ قصة عابرة تُقَصُّ للترفيه، أو ترجمة عابرة للتسلية وشَغْلِ الوقت كأغلب قصص وروايات وثقافات السوق الرائجة - وإنما الهدف من سرد وذكر قصص هؤلاء الأبطال هو تبيين موطن العبرة وموضع العظة، ومعرفة طريق الأمل والنور، ودعوة الناس للسير في طريقهم واقتفاء أثرهم والتشبه بهم ومحبتهم، وتربية الأجيال والناشئة على الاقتداء بهم وحبِّهم.
وضَيْفُ جمعتِنا اليوم هو ذاك الفتى الصادق المتألق، والشاب النبيل الأنيق، والبدري القرشي العبدري مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه.
وهو مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار بن قصي القرشي.
ولا أزعم أني سأقدم إليكم اليوم هذا الصحابي العملاق بكل مواقفه وشمول حياته، إنما سأشير على استحياء إلى بعض سمات تفوقه، وإلى بعض الإضاءات من سيرته وحياته رضي الله عنه وأرضاه.
- مصعب الذي باع الدنيا بالآخرة، وآثر النعيمَ المقيم على النعيم الزائل.
ينبغي أن يكون قدوة لكل شاب مُتْرَفٍ يتقلب في نعمة الله تعالى وأراد الرجوع إلى الله. - مصعب كلما تعمق القارئ في سيرته وفي حياته، ازداد له حبًّا وتقديرًا، وامتلأ قلبه إعجابًا وإكبارًا ومعزةً له.
- مصعب بن عمير ذلكم الشاب التقيُّ الداعية المجاهد الذي نوَّر الله قلبَه فأسلم طائعًا، وهاجر معلمًا وداعيًا، ومات مجاهدًا شهيدًا.
كان في صغره وقبل إسلامه شابًّا غنيًّا منعَّمًا يلبَس أحسنَ الثياب وأغلاها، ويتعطر بأجمل العطور وأبهاها، حتى كان أهل مكة يعرفونه بعطره الذي يفوح منه دائمًا.
أما أبواه فكانا من أغنى أغنياء مكة، وكانا يحبان مصعبًا حبًّا عظيمًا ولا يرُدَّانِ له طلبًا، بل رغباته وطلباته وأمنياته كلها مستجابة، وكلها محققة ومُنفَّذة.
لكنَّ مصعبًا لم يمنعه ذلك النعيم من أن يدخل في دين الله، فآثر ما عند الله، آثر الآخرة ليحظى بنعيمها؛ يقول كُتَّاب السيرة:
خرج مصعب من النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثِرًا الشظفَ والفاقة، وأصبح الفتى المتأنق المُعطَّر لا يُرى إلا مرتديًا أخشن الثياب، ودخل الإسلام مباشرةً.
وكان يعلم أنه سيُسلب النعيم الذي هو فيه، وسوف يتبدل حاله من السَّعَةِ إلى الضيق، ومن الراحة إلى التعب، ومن الغِنى إلى الفقر، ولكنه مع ذلك آثر الآخرة على الدنيا، ودخل في دين الله طاعةً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل كما يقول بعض المترفين اليوم من شبابنا: إن هذا الدين كَبْتٌ وحَبْسٌ للمشاعر.
مصعب لم يدفعْهُ جمالُه ولا منصبه أن يجمع حوله الشباب الضائعَ المائع المتهتك المتكسِّر البعيد عن الرجولة لينشغل بالتفاهات، بل سمِع دعوة الحق فاستجاب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم في وقتٍ كان المسلمون يعانون من أذى المشركين وتسلطهم.
فأسرع رضي الله عنه وأرضاه للقاء النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وهناك أعلن إسلامه.
أسلم مصعب الفتى، وحينها تعلم أمَّه خناس بنت مالك بخبر إسلامه التى كانت تحبه حبًّا شديدًا، فحاولت أن تثنيَه عن الإسلام فلم يستجب لها.
حبسته لكي يعدلَ عن قراره فلم يرضَخْ لحبسها.
هددته بكل أنواع التهديد فلم يكثرث لوعيدها.
حرمته من كل نعيمٍ كانت تغدق به عليه؛ لكي يتراجع عمَّا أقدم عليه، لكنه كان أشد إباءً من ذي قبل.
كررت المحاولات معه ولسان حالها ومقالها: أنت تعلم أن الحياة لا تصفو إلا باللهو، ولكن مصعبًا كان يعلم أن ما حُرم منه في هذه الدنيا فما عند الله خير وأبقى، فليس عنده أي تنازل أمام أمِّه، وليس لديه خيار آخر غير الإسلام.
ولم يزدَدْ إلا ثباتًا ورسوخًا وكأن لسان حاله يقول: ماضٍ وأعرف دربي وهدفي، ولن أترك ديني مهما حلَّ بي من ضيق وشدة.
أي إيمان هذا الذي خالط بشاشةَ هذا القلب الذي لم يمر عليه سوى وقت قصير من إسلامه؟
أي ثبات هذا؟ وأي صدق هذا؟ وأي شجاعة هذه؟
ولما اشتد الإيذاء بالمسلمين، هاجر إلى أرض الحبشة، ثم عاد منها إلى مكة، ثم هاجر إلى المدينة، ومع مرور السنين يختاره ويعتمده النبي صلى الله عليه وسلم أولَ سفير في الإسلام إلى يثرب؛ ليُعلِّم الناس القرآن ويصليَ بهم.
فقدَّر مصعبٌ المسؤولية التي أُنيطت به، وحمل لواءَ الدعوة إلى الله عقيدةً وسلوكًا وجهادًا، واستطاع بإخلاصه ودماثة خلقه، وصفاء نفسه، ونقاء سريرته، ورجاحة عقله، وبيان حكمته - أن يجمع بين أهل يثرب ويوحِّد بينهم، ويحبِّب إليهم دين الله وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يجمعهم على الإسلام، حتى إن قبيلةً من أكبر قبائل يثرب - وهي قبيلة بني عبدالأشهل - قد أسلمت جميعها على يده بقيادة رئيسها سعد بن معاذ.
بل ما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلا مسلمًا ومسلمة إلا رجلًا واحدًا هو (الأصيرم)، وتأخر إسلامه إلى يوم أُحُد.
وقبل حلول موسم الحج، عاد مصعب إلى مكة يحمل إلى رسول الله بشائرَ النصر والفوز، ويقص عليه خبر قبائل يثرب وما فيها من مواهب الخير، وما لها من قوة ومنعة لنصرة لهذا الدين، فسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم لذلك سرورًا كثيرًا.
فهل لشبابنا أن يتخذوه قدوة لهم، ويكونوا مِثله على الأقل في مجال الدعوة إلى الله والعبادة والعمل الصالح، بدل أن يتذاكروا بطولات ومغامرات التائهين؟
اللهم إنا أحببنا صحابة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم أصدقَ الحب وأعمقه، وإنك تعلم أننا ما أحببناهم إلا فيك يا أرحم الراحمين.
أقول ما سمعتم واستغفروا الله لي ولكم، فيا فوز المستغفرين ويا نجاة التائبين.
الخطبة الثانية
ثم أما بعد:أيها الكرام، وتمضي الأيام والأعوام وتأتي غزوة أحد، وحينها يختار الرسول صلى الله عليه وسلم مصعبًا ليحمل لواء المسلمين، وتقع المعركة، وكان النصر بدايةً للمسلمين، ولكن سرعان ما تحوَّل النصر إلى هزيمة؛ بسبب مخالفة الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزولهم من فوق الجبل يجمعون الغنائم، وبدأ الاضطراب في صفوف المسلمين وبدأت صفوفهم تتمزق، فركَّز الأعداء على الوصول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذوا يتعقبونه، فأدرك عندها مصعب هذا الخطر، ومضى يقاتل وهمُّه أن يلفت أنظار الأعداء إليه؛ ليشغلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتجمع الأعداء حول مصعب، وجاءه (العتل بن قميئة) فضرب يده اليمنى فقطعها، فحمل اللواء بيده اليسرى فقطعها عدوُّ الله، فضمَّ اللواء إلى صدره بعضديه، وهو يقول: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ﴾ [آل عمران: 144]، فضربه ضربة ثالثة فقتله فمات شهيدًا رضي الله عنه.
لقد كانت خاتمةُ مصعبٍ الشهادةَ في سبيل الله، ولقد صدق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه».
مصعب بن عمير الشاب الذي كانت ترمقه العيون إكبارًا وإعجابًا؛ لحُسنِه وغِناه ومكانته - ينسلخ من ذلك الترف والنعيم كله مبتغيًا وجهَ الله تعالى وما أعده لعباده المؤمنين، يموت في سبيل الله، فلا يجد المسلمون عند موته غيرَ ثوبٍ قصير ورداء خشن لا يكفي كفنًا له.
فرضي الله عنه وأرضاه بهذا الشرف، وقد ينال هذا الشرف كلُّ مصعبيٍّ أتى بعده، يحمل همه، ويقدم كل ما يملك من راحة النفس والنعمة والمال في سبيل هذا الدين.
لقد استُشهد مصعب ولم يطلب في يوم من الأيام نعمةً ولا ثراءً، ولم يكن يفكر يومًا بمنصب، ولم يكن له همٌّ سوى انتصار دين الله، فآتاه الله أجره، وأعطاه هو وإخوانه من كل شيء، أعطاه من عنده من كل ما يتمناه طلاب الدنيا وزيادة، وأعطاه هو وإخوانه كذلك كل ما يتمناه طلاب الآخرة ويرجونه؛ قال تعالى: ﴿ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 148].
رحل مصعب الشاب كما سيرحل جميع الناس، ولكنه رحل عزيزًا... رحل كريمًا... رحل صادقًا... رحل شهيدًا... رحل كبيرًا... رحل وقد أعذر إلى الله بعمله الصالح وجهده المضيء، فحاز نيشانَ الفخر، ونال وسام الشرف من رب جواد رحيم كريم: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: 169].
رحل مصعب ولم ترحل ذكراه، ولا ذكرى بطولاته، ولا ذكرى دعوته إلى الله، ولا ذكرى تضحياته في سبيل الله.
رحل مصعب ليقول لك: أيها التائه في البحث عن السعادة:
من كان يظن أن السعادة في المال والجاه والمنصب فقد أخطأ.
ومن كان يظن أن السعادة في العقارات والعمارات والقصور والدُّور فقد أخطأ.
إنما السعادة كل السعادة في معرفة الله، السعادة كل السعادة في شرع الله وفي تقوى الله، السعادة كل السعادة والرفعة والعزة والكرامة في طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون: 8].
فهذه هي سيرة الصحابي الجليل مصعب بن عمير رضي الله عنه، هذه هي سيرته من بداية إسلامه إلى أن لقي ربه شهيدًا، كلها تضحية وفداء، كلها دعوة وإخاء، كلها صدق وبناء، كلها نقاء وصفاء، كلها دعوة وتعليم وعطاء.
فاغرسوا يا أيها الكرام في نفوس أولادكم وناشئة اليوم حبَّ هؤلاء العظماء؛ لينشؤوا على التوحيد، ويترعرعوا على حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم وحب صحابته الكرام، ولتثمر في قلوبهم شجر الخير، وتنضج في نفوسهم ثمار الفضيلة.
فوداعًا مصعب بن عمير... وداعًا أول سفير في الإسلام... وداعًا يا من كان له شرف المشاركة في وضع البنى الأساسية لمجد الإسلام وعزته ومكانته ورفعته في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم... وداعًا يا من ترك نعيم الدنيا الفاني؛ ليظفر ويفوز بنعيم الآخرة الباقي.
وداعًا حتى الملتقى في دار تجمع سلامة الأبدان والأديان إلى جوار الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]
اللّهمّ صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد
0 / 100
إقرأ المزيد :
الفئة: أصحاب رسول الله خطب إسلامية