نعمة العافية
عباد الله، إن نعم الله سبحانه وتعالى كثيرة، ومن كثرتها لا نستطيع عدها أو إحصائها؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34]، واليوم نريد في هذه الجمعة المباركة أن نتحدث عن إحدى أجلِّ النعم التي أنعم الله بها علينا بعد نعمة الإسلام والإيمان، نعمة اليوم لولاها لَما شعرتَ بلذة محبوب، وطعم موهوب، ولولاها لَما طلبتَ كل شهيٍّ ومرغوب، ولولاها لتكدرتْ حالُك وانشغل بالك، ولولاها لم يكن لك قرار وثبات واستقرار، ولولاها لم تتزوج وتطلب المال وترغب في الحياة والعيال، ولولاها لم يدُمْ لك مطعم وشراب، ولا ما اشتهيتَ مما لذَّ وطاب، نعمة اليوم يا كرام لا تصلح الدنيا إلا بها، ولا العيش والأمن إلا في أجوائها، بها ينال المرء كل مطلوب، ويسعد في كل مرغوب، نعمة اليوم تُذهِب القلق وهموم الحياة وتزيل الشقاء والعناء، إنها سُلَّمُ الأمان، وتاج الأبدان، وأنس السعداء، ومنَّةُ الصلحاء، إنها حصانة من الفتن، ووقاية من المحن، إنها أهنأ عطية، وأفضل قسمة مرضية، لا يعدلها شيء ولا يساويها شيء، إنها من أفضل النعم، وأهنأ العطاء والكرم، إنها نعمة جديرٌ بنا أن نتحدث عنها في هذه الأيام، التي تنتشر فيها الأمراض وتكثر فيها الأوبئة والأوجاع، إنها نعمة العافية، وما أدراك ما العافية! هي العيشة الرضية الهنية، والسعادة الأبدية، والراحة الروحانية، لا عيش أهنأ منها، ولا لباسَ أحسن من لباسها، إذا فُقدت عُرفت، وإذا دامت جُهلت، هي تاج عظيم على رؤوسنا لن نشعر بقيمتها وفضلها إلا إذا فقدناها؛ ولهذا قالوا: "الصحة تاج على رؤوس الأصحاء، لا يعرف قدرها إلا المرضى"، نعم، إذا أردت أن تعرف قدر نعمة الله عليك وعافيته بك، فاذهب إلى أقرب مستشفًى أو مركز صحي لترى العجب العجاب، فهذا مريض يئنُّ من شدة المرض، وذاك يصرخ من قوة الألم، والآخر يبكي بأعلى صوته، ورابع يعيش في غيبوبة دون حس أو وعي، وخامس ينزف الدم من جسده، وسادس لا يستطيع العيش إلا والأكسجين على أنفه، والسابع معاق قد فَقَدَ عضوًا من أعضائه، والثامن في غرفة قد سموها غرفة الإنعاش؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ))، فالحمد لله أولًا وآخرًا، وله الحمد والشكر حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه.
أيها الأحباب الكرام، لقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يسأل ربه العافية في كل يوم من أيامه؛ فكان يقول صلى الله عليه وسلم من ضمن أذكاره اليومية في الصباح والمساء: ((اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ...))، بل كان صلى الله عليه وسلم يخصص الدعاء بالعافية لبدنه وسمعه وبصره؛ نظرًا لأهمية العافية في هذه المواضع المهمة؛ فيقول صلى الله عليه وسلم: ((اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري، لا إله إلا أنت))، فيسأل الله العافية في بدنه كله؛ لأنه بالعافية يقوم الإنسان ويتحرك لطاعة الله، وبسلامة الأعضاء من الآفات والأمراض يتمكن المرء من مزاولة الطاعات وأداء الواجبات، والعافية هي نعمة الدنيا والآخرة، وهي من أجلِّ نعمِ الله على العبد، ولباس العافية من أجمل الألبسة وأعلاها وأغلاها؛ لذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم من ربه العافية في بدنه وسمعه وبصره، والبصر نعمة عظيمة ينعم الله بها على عباده، ومن فقدها فَقَدْ فَقَدَ شيئًا كثيرًا، وسأل ربه العافية في بصره؛ يقول بكر بن عبدالله المزني رحمه الله: "يا ابن آدم، إذا أردتَ أن تعلم قدر ما أنعم الله عليك، فغمِّض عينيك"، أغمض عينيك دقيقة واحدة، وتخيل أنك أعمى لا ترى شيئًا في حياتك كلها، وستعلم فضل الله عليك بالعافية لك في بصرك؛ قيل لرجل وكان أعمى: "ماذا تتمنى؟ قال: أتمنى أن أبصر فقط؛ لأرى قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾ [الغاشية: 17]، فإني لا أتمنى شيئًا إلا حينما أمرُّ على هذه الآية وأقرؤها، أتمنى أن أرى؛ لأن الله أمر بتمعن النظر فيها، فتمنيتُ النظر لأنظر إليها نظرةَ اعتبار وتفكر.
فاسألوا الله العافية يا عباد الله، وأكثروا من دعاء الله بالعافية؛ فقد روى أحمد والترمذي عن العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه قال: ((قلت: يا رسول الله، علمني شيئًا أسأله الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: سَلِ الله العافية، قال العباس: فمكثتُ أيامًا، ثم جئتُ، فقلتُ: يا رسول الله، علمني شيئًا أسأله الله، فقال لي: يا عباس، يا عمَّ رسول الله، سَلِ الله العافية في الدنيا والآخرة))، ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: ((سلوا الله العافية؛ فإن أحدًا لم يُعطَ بعد اليقين خيرًا من العافية))، ويقول أحد الصالحين: "أكثروا من سؤال الله العافية؛ فإن المبتلى وإن اشتد بلاؤه لا يأمن ما هو أشد منه، وليس المبتلى بأحق بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء"، ويقول سفيان الثوري رحمه الله: "نحن لا نخاف من البلاء، وإنما نخاف مما يبدو منا حال البلاء من السخط والضجر، ثم يقول: والله ما أدري ماذا يقع مني لو ابتُليتُ، فلعلي أكفر ولا أشعر"، فاحمدِ اللهَ سبحانه وتعالى على نعمة العافية، احمده على أنك تأكل وتشرب وتخرج وتتحرك وأنت صحيح معافًى، ولتتذكر كم من مريض عنده أطيب أنواع المأكولات، وأفخر أنواع العصائر والمشروبات، ولكنه لا يستطيع الأكل والشرب بسبب مرارة فمه؛ فحُرم بذلك التلذذ بالطعام والشراب! فإذا لم تُحرم هذه النعم، فاحمد الله واشكره كثيرًا على ذلك، ولا تفكر في نوعية الطعام أو قيمته، ولكن فكِّر في نعمة العافية التي طيبته، ولتعلم كذلك أن الرزق دون عافية لا يساوي شيئًا ولو كثُر، وكل شيء دون عافية لا يساوي شيئًا ولو شرف؛ لأن مفتاح النعيم هو العافية، وباب الطيبات هو العافية، وكنز السعادة هي العافية، ومن رُزق العافية، فقد حاز نفائس الأرزاق كلها؛ قال رجل لصاحبه وكانا ينظران إلى الدور والقصور: أين نحن حين قُسمت هذه الأموال؟ وكان صاحبه أعقل منه وأحكم، فأخذ بيده وذهب به إلى المستشفى، وقال له: أين نحن حين قسمت هذه الأمراض؟ فسكت الرجل، وعلِم أن العافية لا يساوي قدرها شيء، وكم من إنسان عنده من المتاع والقصور ولكن تنقصه العافية! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح منكم آمنًا في سِرْبِهِ، معافًى في بدنه، عنده قوت يومه وليلته - فقد حِيزت له الدنيا بحذافيرها))، وقال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
أما بعد:
أيها الكــرام، نعمة العافية كنز لا يساويه أو يوازيه أي كنز من كنوز الدنيا؛ فَسَلُوا الله العافية في الإيمان، وسلوا الله العافية في الدين والثبات عليه حتى الممات، وسلوا الله العافية في اليقين والسلامة من الشكوك والوساوس، وسلوا الله العافية في الجسد، وسلوه العافية في المال والأهل والولد، فما طاب طعام إلا بالعافية، ولا لذَّ مشروب إلا بالعافية؛ ولذلكم كان الحجاج بن يوسف الثقفي - على ما فيه من صلف - جوادًا كريمًا لا تخلو مائدته من آكلٍ، وذات يوم كان خارجًا للصيد، وكان معه أعوانه وحاشيته، ولما حضر غذاؤه، قال لهم: التمسوا من يأكل معنا، فتفرقوا كل جهة فلم يجدوا إلا أعرابيًّا، فأتَوا به إليه، فقال له الحجاج: هلمَّ فكُلْ، فقال: لقد دعاني مَن هو أكرم منك فأجبته، قال: من هو؟ قال: الله دعاني إلى الصوم، قال: تصوم في مثل هذا اليوم الحار؟ قال: صمتُ ليومٍ هو أشد حرًّا منه، قال: أفطر وصُمْ غدًا، فقال الأعرابي: أيضمن لي الأمير أن أعيش إلى غد؟ فقال: إنه طعام طيب، فقال الأعرابي: والله، ما طيَّبه خبازك ولا طباخك، ولكن طيبته العافية.فيا أيها الأحباب الكــرام، إننا والله نعيش في غفلة كبيرة جدًّا عن هذه النعمة العظيمة؛ نعمة الصحة والعافية، وسلامة أعضائنا من الآفات والأمراض والعيوب، فلنتذكر دائمًا هذه النعمة الجليلة، ونشكر الله سبحانه وتعالى عليها قبل أن نفقدها؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((بادروا بالأعمال سبعًا، هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا، أو غِنًى مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هَرَمًا مفنِّدًا أو موتًا مجهِزًا، أو الدجال فشرُّ غائب يُنتظر، أو الساعة، فالساعة أدهى وأمرُّ))، فاغتنموا صحتكم وعافيتكم قبل حلول المرض وتدهور الصحة وذهاب العافية؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اغتنم خمسًا قبل خمس، وذكر منها: وصحتك قبل سقمك))، اللهــم أدِمْ علينا العافية في أبداننا، والأمن والأمان في أوطاننا، والإيمان في قلوبنا.
﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
إقرأ المزيد :
الفئة: خطب إسلامية