اليأس والقنوط: اسبابه وعلاجه

اليأس والقنوط: اسبابه وعلاجه

اليأس والقنوط: أسبابه ومظاهره وعلاجه


المقصود باليأس والقنوط


خلق من مساوئ الأخلاق، وخصلة من قبيح الخصال، داءٍ يجعل النفوس ترضى بكل منكر، وتنأى عن كل خير، وتسدّ باب الأمل، وتستبعد حصولَ الفرَج، داءٌ من ابتلي به عاش في دنياه في قلق وحيْرَة واضطراب، وفوّتَ على نفسه ما به تكون النجاة ويكون الفوز والفلاح في الدار الآخرة، ذلكم هو داء اليأس والقنوط، آفة كبرى، وبلية عظمى، تطفئ سراج الأمل، فيترك العبد العمل، ويَخلد إلى الكسل.

اليأس هو القطع على أنّ المطلوبَ لا يتحَصّلُ، لتحققِ فواتِه.

والقنوط هو شدة اليأس من الخير.

اليأس والقنوط سَـدّ لباب التفاؤل والأمل، وتوَقعٌ للخيبة والفشل، واستبعادٌ للفرَج بعد الشدة، واليُسْر بعد العُسْر، وتغييبٌ للرّجاء في رَحمة الله وعفوه وغفرانه.

واليائسُ القنوط من ضاقت نفسُه من كثرة الذنوب، وتوالي الهموم، فلا يتوقعُ الخيرَ ولا يرجو الفرَج.

خطر اليأس والقنوط


اليأسُ والقنوط كبيرة من كبائر الذنوب، وصفة من صفات أهل الكفر والضلال؛ فلا ييأسُ من رحمة الله إلا القوم الذين حادُوا عن الطريق وضلوا عن السبيل، وتركوا الرجاء في الله، لعدم علمهم بربهم، ولجهلهم بكمال فضله وعظيم كرَمه وإحسانه سبحانه، قال تعالى على لسان إبراهيم -عليه السلام-: ﴿قالَ وَمَنْ يَقنَطُ مِن رَحْمَةِ رَبِّهِ إلا الضَّالونَ﴾ [الحجر: 56]، وقال عز وجل على لسان يعقوبَ -عليه السلام-: ﴿إِنَّهُ لا يَيْأسُ مِن رَوْحِ اللَّهِ إلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87]، ويقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "الكبائر: الإشراكُ بالله، والأمْن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من رَوْح الله"

أسباب اليأس والقنوط


اليأس والقنوط داء ابتلي به كثير من الناس، لأسباب كثيرة، ودواعي عديدة، فمن الناس من أصيب باليأس والقنوط، نتيجة جهله بالله -تعالى-، وعدم معرفته بسَعَة رحمة الله وعظيم فضله وكرمه وإحسانه.

ومن الناس من أصيب باليأس والقنوط بسبب غلوّه وإفراطِه في الخوف من الله -تعالى-، حتى وقع في اليأس من رَوْحه، والقنوطِ من رحمته، فحَدّ الخوْفِ ما حَجزك عن المعاصي. أما ما زاد على ذلك فهو غيرُ محتاج إليه؛ لأنه يُوقع صاحبه في اليأس والقنوط، وفيه سوءُ أدب مع رحمة الله التي سبقت غضبه سبحانه.

ومن الناس من أصيب باليأس والقنوط، نتيجة مصاحبته لليائسين والقانطين والمقنطين؛ فإنّ مصاحبة هؤلاء والإنصاتَ لهم، والاستسلامَ لكلامهم، والركونَ إلى أقوالهم باعِثٌ قوي على القنوط من رحمة الله -سبحانه وتعالى-.

ومن الناس من أصيب باليأس والقنوط بسبب قلة صبره وتحمّله واستعجاله للنتائج؛ فإنّ ضَعْفَ النفوس عن تحمّل البلاء والصبر عليه، واستعجالَ حصول الخير، باعث على اليأس والقنوط، لاسيما مع طول الزمن واشتداد البلاء على الإنسان.

ومن الناس من أصيب باليأس والقنوط نتيجة شدةِ تعلقِهِ بالدنيا والركونِ إليها والفرَحِ بأخذها؛ فهو يحزن ويتأسف على ما فاته منها من جاه وسلطان وأولاد ومال وعافية، وصدق الله -تعالى- إذ يقول: ﴿وَإذا أذقنَا النَّاسَ رَحْمَة فرحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَة بِمَا قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ إذا هُمْ يَقنَطونَ﴾ [الروم: 36]، ويقول سبحانه: ﴿لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِن مَسَّهُ الشَّرّ فَيَئُوسٌ قنُوطٌ﴾، ويقول عز وجل: ﴿وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرّ كانَ يَؤُوسا﴾ [الإسراء: 83].

بعض مظاهر اليأس والقنوط


ولليأس والقنوط صور كثيرة، ومظاهرُ عديدة، كلها تبعث على الحزن والأسى، وتورث القلق والهمّ، وتفوّت على المرء مصالحَ دنياه وأخراه.

ومِن أخطر مظاهر اليأسِ والقنوطِ: اليأسُ والقنوط من مغفرة الله ورحمته؛ حين يظنّ المرء أنه قد هلك وخاب وخسر، ويقطع على نفسه باب الرجاء، ويسدّ على نفسه باب الأمل في عفو الله والطمع في مغفرته ورحمته، فيترُك العمل، ويَخلد إلى الخمول والكسل، ويخوض مع الخائضين، ولا يسلك طريق التائبين. فلِمَ يُغلقُ المرءُ على نفسه باب التوبة والرجاء؟ والله -سبحانه وتعالى- يقول: ﴿قلْ يَا عِبَادِيَ الذِينَ أسْرَفوا عَلى أنْفسِهِمْ لا تقنَطوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]، يقول ابن كثير -رحمه الله-: "هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العُصاة من الكفرَة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبارٌ بأنّ الله -تبارك وتعالى- يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت، وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر".

ولِمَ يُغلقُ المرءُ على نفسه باب الرجاء؟ والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار"

ولِمَ يُغلقُ المرءُ على نفسه باب الرجاء؟ وأبوابُ الخيرات كثيرة، وأسباب المغفرة عديدة، فرائضُ ونوافل، واجبات ومستحبات، جود وإحسان، ذكر ودعاء وقرآن، فهنيئا لمن اجتهد في أنواع الطاعات والقربات لكسب ما به يثقل ميزانه من الحسنات، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أصبح منكم اليوم صائما؟" قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا، قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟" قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا، قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟" قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا، قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضا؟" قال أبو بكر -رضي الله عنه-: أنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما اجتمعْنَ في امرئ إلا دخل الجنة"، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قال سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة، حُطتْ خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر"

اليأس والقنوط من زوال الشدائد وتفريج الكُرَب؛ فمن الناس من إذا اشتدّتْ عليه الكروب، وأحاطت به الهموم، وتوالت عليه المصائب، فأصيب بمرض في بدنه، أو بإعاقة في جسده، أو بفقد لماله أو منصبه، أو بعُقم أو عقوق أو قطيعة. أصابه الجزع واليأسُ والقنوط، وغاب عنه الصبر والرضا، وسدّ على نفسه بابَ الأمل والرجاء.

فمَن الذي أنزل من السماء ماء بعدما قنط العباد من شدة القحط والجفاف؟ إنه الله؟: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيّ الْحَمِيدُ﴾ [الشورى: 28].

ومَن الذي كشفَ الضرّ عن أيّوبَ حين ناداه؟ إنه الله: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 83 - 84].

ومَن الذي رزق عبده زكريا بغلام بعدما كبرت سنة واشتعل رأسه شيبا؟ إنه الله: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 89 - 90].

ومَن الذي نجّا نبيَّه موسى ومن معه بعدما أدركه فرعون وجنده؟ إنه الله: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ﴾ [الشعراء: 61 - 66].

ومَن الذي نجّا نبيَّه إبراهيم بعدما ألقِيَ في نار مشتعلة؟ إنه الله: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ [الأنبياء: 68 - 70].

ومَن الذي نجّى نبيّه محمدا -صلى الله عليه وسلم- بعدما أحاط به الأعداء وهو في غار ثور؟ إنه الله: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 40].

فمَهْمَا كانتْ هُمُومُك ومَصائبك، لا تيأسْ من رَوْح الله، ولا تقنط من رحمته، ففضلُ الله عظيم، وكرَمُه جزيل، وعَطاؤه عَميم، ورَحمته وَسِعَتْ كل شيء، وقد قال سبحانه: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل: 62]، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يزال يُستجابُ للعبد ما لم يَدْعُ بإثم أو قطيعةِ رَحِم، ما لم يَستعجلْ" قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: "يقول قد دَعَوْتُ وقد دَعَوْتُ فلم أرَ يَستجيبُ لي، فيَسْتحْسِرُ عند ذلك ويَدَعُ الدعاء".

اليأس والقنوط من توبة العُصاة؛ فإذا رأيتَ كثرة العُصاة، وانتشارَ المنكرات، فلا تيأس ولا تقطع باب الرجاء، بلْ قمْ بدورك في بذل النصيحة والدعوة إلى الخير بالموعظة الحسنة، وكن قدوة حسنة في أقوالك وأفعالك وأخلاقك، فقد قال سبحانه: ﴿وَإِذْ قَالَتْ أُمَّة مِنْهُمْ لِمَ تَعِظونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: 164].

وإياك أن تحكم على الناس بالهلاك والخسران نتيجة عصيانهم وغفلتهم؛ فهذا تألٍّ على الله وتطاوُلٌ على حق من حقوقه، فالأمرُ أمرُه، والمُلك مُلكه، والهداية بيده سبحانه، وهو أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ الراحمين، روى مسلم في صحيحه عَنْ أبي هُرَيْرَة -رضي الله عنه- أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ، فهُوَ أهْلكهُمْ" قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لاَ أَدْرِى أَهْلَكَهُمْ بِالنَّصْبِ؛ أَوْ أَهْلَكُهُمْ بِالرَّفْعِ، وعن جندب بن عبد الله البجلي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدّثَ: أن رجلا قال: والله لا يغفرُ الله لفلان، وإنّ الله -تعالى- قال: "من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفرَ لفلان؟ فإني قد غفرت لفلان، وأحبطتُ عملك"

علاج اليأس والقنوط والوقاية منه


اليأسُ والقنوط داء عضال، ومرض فتاك، فما السبيل إلى وقاية النفس منه؟

أولا: الإيمان بأسماء الله وصفاته؛ فإنّ العلمَ والإيمان بأسماء الله وصفاته الدالة على رحمته ومغفرته وكرَمه وَجُوده وحِلمه ولطفه وإحسانه؛ مما يجعل المسلم راجيا لرحمة الله، طامعا في مغفرته وإحسانه، غيرَ آيس من رَوْحِه وفضلِه وعطائِه: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ [الشورى: 25 - 26].

فلا ييأسُ مِن رحمتِه مَن يخافُ انتقامَه، ولا يأمَنُ انتقامَه مَنْ يرجو رحمَته، وذلك باعث على مُجانبةِ السيئة ولو كانت صغيرة، وملازمةِ الطاعة ولو كانت قليلة، يقول العَلاّمة محمد السفاريني -رحمه الله-: "حالُ السلف رَجاءٌ بلا إهمال، وخوف بلا قنوط. ولابدّ من حُسن الظن بالله -تعالى-".

فعلى العبد أن يكون بين الخوف والرجاء؛ يخاف الله ولا يقنط من رحمته، يخاف ذنوبه، ويعمل بطاعة ربه، ويرجو رحمته، فقد قال تعالى في مدح عباده المؤمنين: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90].

ثانيا: حُسْنُ الظن بالله، ورَجاءُ رحمتِه؛ فواجبٌ على العبد أن يُحسن الظن بربه، وعليه أن يتدبرَ الآياتِ والأحاديثَ الواردةَ في كرَم الله وعفوه ورحمته ومغفرته، مع الأخذِ بالأسباب التي اقتضتها حِكمة الله -تعالى- في شرْعه وقدَره وثوابه وكرامته.

فلا ييأسُ مَكروبٌ من الفرَج، ولا ييأسُ مُبتلىً في بدنه أو ماله أو ولده من الفرَج، ولا تيأسُ امرأة عقيم من -رحمة الله-، ففضلُ الله عظيم، والأملُ في رحمته كبير، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله -تعالى-: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "قال الله -تبارك وتعالى-: يا ابن آدم؛ إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي. يا ابن آدم؛ لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم؛ إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة"

وفي الصحيحين عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: "إنّ ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وَزَنَوْا وأكثروا، فأتوْا محمداً -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحَسَن، لو تخبرُنا أنّ لِمَا عَمِلنا كفارة؟"، فنزل: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ﴾ [الفرقان: 68]، ونزلتْ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 53].

ثالثا: الصبرُ، مع تمام الرضا بقضاء الله وقدَره؛ فإذا علم المرءُ وأيقن أن ما حصل له إنما هو بقضاء الله وقدَرهِ، استراحَ قلبُه، ولم ييأس لفوات شيء، قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد: 22]، وقال سبحانه: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التغابن: 11].

فليس للمسلم في أيام الرخاء أنفعُ من الشكر والثناء، وليس له في أيام البلاء أنجعُ من الصبر والدعاء، فذلك مما يجعل المسلم ينطلق نشيطاً قوياً مهما تتابعت الفتن أو تواترت المصائب من بين يديه أو من خلفه؛ لأنه يعلم أن الأمر بيد الله، وأن الملك كله لله، وأن الله وعد عباده باليُسر والفرَج، فقال سبحانه: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: 5 - 6]، وقال عز وجل: ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً﴾ [الطلاق: 7]، وقال نبينا -صلى الله عليه وسلم- في وصيته لابن عباس -رضي الله عنهما-: "واعلمْ أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرَج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا"

وعن صهيب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عجبا لأمر المؤمن، إنّ أمرَه كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سَرّاء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرا له"

كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن تمني الموت بسبب الضر والبلاء؛ ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لن يُدخِلَ أحدا عمله الجنة" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا، ولا يتمنيَنّ أحدكم الموت إما مُحسنا فلعله أن يزداد خيرا، وإما مسيئا فلعله أن يَسْتعتِب".

رابعا: التأسي بأنبياء الله ورُسُلِه؛ ففي سِيَرهِم أروع الأمثلة في الصبر والثبات وعدم اليأس والقنوط، لبثوا في أقوامهم يدعونهم ويعلمونهم سنين عددا، من غير ملل ولا يأس ولا قنوط، وما دعا بعضهم على قومه بالهلاك إلا من بعد أن بين الله له وأوحى إليه: ﴿أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ﴾ [هود: 36].

ومن أروع القصص في الصبر على البلاء، وحسن الظن بالله، ورجاء الفرَج من الله، وعدم اليأس والقنوط: قصة نبي الله يعقوب -عليه السلام- عند فقده لابنه يوسف -عليه السلام-، فعندما جاءه نعيُ أحبّ أولاده إليه يوسفُ -عليه السلام- لم يفقدْ صَوَابَه، بل قابلَ قدَرَ الله النازل بالصبر والحِلم والاستعانة بالله -تعالى- في رَفعِه: ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: 18].

ولما عَظمَت المصيبة بفقد ابنه الثاني ازداد صبرُه، وعظم رجاؤه في الفرَج من الله -سبحانه-: ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف: 83].

وحين عُوتِبَ في تذكّرِ يوسف -عليه السلام- بعد طول الزمان وانقطاع الأمل وحصول اليأس في رجوعه، قال بلسان المؤمن الواثق في وعد الله برفع البلاء عن الصابرين وإجابة دعوة المضطرين: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 86]، فلم ييأس ولم يقطع الأمل، بل أخذ بالأسباب في السعي والبحث عن يوسف وأخيه، فقال لأبنائه: ﴿يَا بَنِيَّ اذهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87]، فكانت العاقبة لمن صبر وأمّلَ ورضي ولم يتسخط، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا﴾ [يوسف: 96] جاء البشير مِنْ عندِ الحبيب مبشراً باللقاء القريب، فألقى قميصَ يوسف عَلَى وَجْهِهِ فرجع البصر، وبلغ الأمل، وزال الكرْب، وحصل الثواب لمن صبر ورضي وأناب: ﴿قالَ ألمْ أقلْ لكُمْ إنِّي أعْلمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تعْلمُونَ﴾ [يوسف: 96].

ولرُبّ نازلة يَضيق بها الفتى
            ذرْعا وعند الله منها المَخرَجُ

ضاقتْ فلما استحكمَتْ حلقاتها
             فُرِجَتْ وكان يظنها لا تفرَجُ

فاتقوا الله ، وعلقوا قلوبكم بالله، ولا تيأسوا من رَوْح الله، ولا تقنطوا من رحمة الله، فإن الله غفور رحيم، تواب حليم، جواد كريم.

أكثر من الصلاة على النبي يكفيك الله ما أهمك من دنياك وآخرتك
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
0

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية