وقفة مع سورة العصر

وقفة مع سورة العصر

وقفة مع سورة العصر



يقول الله تعالى في محكم التنزيل: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [سورة العصر].

أقسم الله –سبحانه- بالعصر الذي هو الليل والنهار ومحلُّ أفعال العباد وأعمالهم؛ أنّ كل إنسان خاسر وفاقد لأرباح كثيرة, وكلمة (العصر) مصدر عَصَرتُ، وإذا عُصِرَ الشيء خرج منه عَصير، وكأنّ الإنسان ليس فقط مطالبًا باغتنام الليل والنهار على التساهل والتراخي، بل مطالب بعَصرها والانتفاع بكلّ ما ينتج من العصر، وهو استثمار كلّ دقيقة فيها، وإلا فإنه سيخسره، ومع أنّ الخسارة تتفاوت فأعظمها خسارة الكافر، حيث يخسر خسارةً مطلقة بفَقده الجنة واستحقاقه الخلود في النار، إلا أنّ الجميع أيضًا يخسَرون أشياءً؛ المؤمن والكافر، وكلّما كان العصر أقوى استخرجت عصيرًا أكثر، وكلما قصرت وسوّفت وأجّلت وفرّطت فاتك من العصير بقدره؛ لأنّ الخسارة قد تكون في بعض الوجوه دون بعض، لكن الجميع خاسرون، باستثناء من استثنى الله تعالى في هذه السورة العظيمة، وهم من اتّصفوا بأربع صفات:

أولها: الإيمان بما أمر الله بالإيمان به، ولا يكون الإيمان بدون عِلم، فهو فرع عنه لا يتمّ إلا به.

ثانيها: العمل الصالح، وهذا شامل لأعمال الخير كلها، الظاهرة والباطنة، المتعلّقة بحق الله وحق عباده، الواجبة والمستحبة. وقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾ [الزلزلة:7، 8] هو داخل في هذا المعنى؛ فكل خير تعمله ربح، وكل شر تأتيه أو خير تقصر فيه فهو مسجل عليك خسارة، فأكثِر إن شئت أو أقلل، واعمل ما شئت فإنك مجزىٌ به.

وثالث صفات الذين ينجون من الخسار: التواصي بالحق الذي هو الإيمان والعمل الصالح، أي: يوصي بعضهم بعضًا بذلك ويحثه عليه ويرغبه فيه، والله عز وجل يريد من الأمة المسلمة أن تكون واعية، قائمة على حراسة الحق والخير، يشعر كل فرد من أفرادها أن عليه عملا، وله دور تجاه المجتمع، فلا يكتفي أن يعمل هو فقط، بل مطالب أيضًا أن يوصِي غيره بذلك، وهذا يستدعي صبرًا في مودة وغيرةً وإشفاقًا على المسلمين أن ينالهم شرٌ أو يفوتهم خير.

والصفة الرابعة من صفات من استثني من الوقوع في الخسارة: هم المتواصون بالصبر بكلّ أنواعه؛ لأن النهوض بالحق عسير، والمعوقات عنه كثيرة، منها هوى النفس ومنطق المصلحة وأعراف الناس وتقاليدهم وطغيانُ الظالم وجورُ الجائرين، فالتواصي تذكير وتشجيعٌ وإشعارٌ بالقربى ووحدة الهدف والقيام بحق الأخوة. وطبيعة هذا الدين كذلك لا يقوم إلا في حراسة يشترك فيها الجميع، كل بما يستطيع؛ بيده أو لسانه أو قلمه أو جاهه أو ماله، فإن عدِم تلك الأشياء كلها فبدعائه، حيث لا يستطيع أحدٌ أن يقف بينه وبين الدعاء، والدعاء انعكاسٌ لما يكمن في القلب إذا عجزت الحواس الخارجيّة والوسائل المذكورة.

إن هذه السورةَ جليلةُ القدر عظيمة المعنى، ولهذا قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم". وروى الطبراني عن عبد الله بن حصن قال: "كان الرجلان من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا التقيا لم يفترّقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها، ثم يسلّم أحدهما على الآخر"، يعني: إيذانًا بالافتراق.

أكثر من الصلاة على النبي يكفيك الله ما أهمك من دنياك وآخرتك
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
0

إقرأ المزيد :




عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية