أسباب عذاب القبر والنجاة منها

أسباب عذاب القبر والنجاة منها

القبر


ما أقصر عُمر الدنيا وما أسرع مروره، فمهما طال الليل لا بد من طلوع الفجر، ومهما طال العمر لا بد من دخول القبر.

الموت بابٌ وكل الناس داخله
            يا ليت شعري بعد الموت ما الدارُ
الدار دار نعيمٍ إن عملت بما
            يُرضي الإله، وإن فرَّطت فالنار

حسن الخاتمة

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا أراد اللهُ عز وجل بعبْدٍ خيرًا عَسَلَه» ، قيل: وما عَسَله؟ قال: « يفتَح الله عز وجل له عملًا صالحًا قبل موته ثم يَقْبِضُه عليه » ، وفي الدعاء: اللهم اجعل خير عُمري آخره وخير عملي خواتمه.

ها هو رجل من الصالحين كان إمامًا لأحد المساجد، وفي يوم من الأيام خرج كعادته من بيته متوجهًا إلى المسجد ليصلي صلاة الظهر، وبعد أن صلى السنة القبلية وقرأ شيئًا من القرآن، أُقيمت الصلاة وتقدَّم ليُصلي بالناس، وفي الركعة الثالثة في السجدة الثانية سمع الناس مثل الجشاء عبر مكبرات الصوت، وهم يقولون: سبحان الله سبحان الله، فتقدَّم أحدهم وأكمل الصلاة، وحرَّكوا إمامهم وقد صعدت رُوحه إلى بارئها. الله أكبر إنها الخاتمة الحسنة التي لا تأتي إلا من حُسن عمل، وصلاة على وقتها، وفعلٍ للخيرات، وأداء للحقوق، وأكل للحلال.

فلا حول ولا قوة إلا بالله إذا نزل بنا ملك الموت لقبض أرواحنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله إذا فارَقنا الأهل والأصحاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله إذا أُدخلنا في قبورنا مع أعمالنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله إذا طال يوم القيامة وقوفنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله إذا استدعانا للحساب ربنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله إذا تطايرت يوم القيامة صحائفنا.

اللهم إنا نسألك أن تُجيرنا من عذاب القبر، اللهم ارزُقنا أعمالًا تُبيض وجوهنا يوم نلقاك يا رب العالمين.

ضمة القبر

إن القبر له ظُلمة شديدة، قال عليه الصلاة والسلام ذلك عندما ماتت المرأة التي كانت تَقُمُّ المسجد في عهده، ففقَدها، فأخبروه أنها ماتت من الليل، ودفنوها، وكرِهوا إيقاظه، فطلب من أصحابه أن يَدُلوه على قبرها، فجاء إلى قبرها، فصلى عليها، ثم قال: «إن هذه القبور مليئة ظُلمة على أهلها، وإن الله تعالى منوِّرها لهم بصلاتي عليهم»[متفق عليه].

إن للقبر لضمَّة، لا ينجو منها أحد كبيرًا كان أو صغيرًا، صالحًا كان أو ظالِمًا، ولو نجا منها أحد، لنجا منها سعد بن معاذ، كما قال عليه الصلاة والسلام، سعد بن معاذ رضي الله عنه ذلك الذي تحرَّك لموته عرش الرحمن، وفُتحت له أبواب السماء.

زيارة القبور

القبور عباد الله مدرسة يتعلَّم منها المسلم الكثير من الدروس والعبر. القبور تُذكِّرنا بالآخرة وبقصر أعمارنا، قال ﷺ : «ألا وإني قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنها تُذكِّركم بالآخرة»[أخرجه النسائي].

القبور تغرس في قلوبنا أنَّ الناس سواسية لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى.

اذهبوا إلى القبور وتأمَّلوا هل تفرِّقون بين غني وفقير، بين عزيز وذليل، لا فرق بينهم.

أتيتُ القبور فناديتُها
أين المعظَّم والمحتقر
تفانوا جميعًا فما مُخبرٌ
وماتوا جميعًا ومات الخبر
تروح وتغدو بنات الثرى
فتَمحو محاسنَ تلك الصور
فيا سائلي عن أُناسٍ مضَوا
أما لك في ما مضى مُعتبر

وفي الحديث: كنَّا معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في جِنازةٍ، فجلسَ على شَفيرِ القبرِ، فبَكَى، حتَّى بلَّ الثَّرى، ثمَّ قالَ: يا إِخواني لمثلِ هذا فأعِدُّوا.

أخي القارئ ، كلنا زُرنا المقابر وشيَّعنا آباءً وأمهات أحبابًا وأصحابًا، هل أخذ الغني من ماله شيئًا في قبره؟ هل أدخل أحدٌ معه سراجًا أو نورًا؟ لا والله لا نور ولا سراج إلا نور العمل الصالح.

عباد الله، لو أُذن الله لأهل المقابر أن يخرجوا من قبورهم ليقولوا: لا إله إلا الله، لكانت هذه الكلمة خيراً من الدنيا وما فيها.

يا أهل الدنيا، أنتم في عمل ولا حساب، أما أهل المقابر فهم في حساب ولا عمل.

فالميت ينطلق معه إلى قبره ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله ويبقى عمله، وصدق الله القائل: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [النجم: 39].

والله لو عاش الفتى من عمره
ألفًا من الأعوام مالك أمره
متنعمًا فيها بكل نفيسةٍ
متنعمًا فيها بنُعمى عصره
لا يعتريه الهم طول حياته
كلا ولا ترد الهموم بصدره
ما كان ذلك كله في أن يفي
بمبيت أول ليلةٍ في قبره

الله المستعان، البيت الذي ظل أحدنا يبنيه سنين طويلة تركه ليَسكنه غيره، الزوجة التي قضى معها سنين طويلة وربما فضَّلها بعضهم على أمه، هذه الزوجة ربما تزوَّجت غير زوجها، المال الذي جمعه قُسِّم بين الورثة.

عباد الله، ما أصعب بناء بيت الدنيا وما أسهل بناء بيت الآخرة؛ يقول صلى الله عليه وسلم: «من صلى لله ثِنتي عشرة ركعة تطوعًا من غير الفريضة، بنى الله له بيتًا في الجنة»[رواه مسلم]. وقال: «من قرأ سورة الإخلاص عشر مرات بنا الله له قصرًا في الجنة» [أحمد].

وشتان بين بيت اللبِن والأحجار، وبيت الذهب والفضة، شتان بين بيت بناه البشر وبيت بناه ربُّ البشر.

سلْ غنيَّهم ما بقي من غناه؟ وسل فقيرهم ما بَقِيَ من فقره؟ واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا للذات بها ينظرون، واسألهم عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان تحت الأكفان؟ عفِّرت الوجوه، ومُحيت المحاسن، فأين خدمهم وعبيدهم؟ وجمعهم وكنوزهم؟ أليسوا في منازل الخلوات؟ أليس الليل والنهار عليهم سواءً؟ أليسوا في حُفرٍ ظلماء؟ قد حيلَ بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة والمال والأهل.

فيا ساكن القبر غدًا! ما الذي غرَّك من الدنيا؟ أين دارُك الفيحاءُ ونهرك المطرد؟ وأين ثمارك اليانعة؟ وأين رقاقُ ثيابك؟ وأين طيبك وبخورك؟ وأين كِسوتك لصيفك وشتائك؟

ها هو أحد التابعين وهو يزيد الرقاشي كان يحاسب نفسه كل يوم، ويتذكر الآخرة، ويقول: «ويْحَك يا يزيد، من ذا يصلي عنك بعد الموت، من ذا يصوم عنك بعد الموت، من ذا سيتصدق عنك بعد الموت، مَن الموت طالبه، مَن القبر بيته، من الدود أنيسُه، من التراب فراشه، مَن مُنكر ونكير جليساه».

تصوَّر نفسك يا عبد الله وقد جاءك الموت وأصبحت محمولًا على الأكتاف، فيا ليت شعري، ما تقول جنازتك؟ هل ستقول: قدِّموني قدموني، أم ستقول: يا ويلها أين تذهبون بها؟

ثم تصور وأنت تدخل المقبرة لا زائرًا ولا حاملًا بل محمولًا ميتًا، فتخيَّل أحب الناس إليك وأقرب الناس إليك وهم يُنزلونك إلى قبرك، ويضعون اللبن ليغلقوا قبرك، فغاب الضوء عنك، ثم بدؤوا يَحثون على قبرك التراب ويقول أحدهم: استغفروا لأخيكم وسلوا له الثبات، فإنه الآن يُسأل، ثم ذهبوا وتركوك وحيدًا فريدًا في ذلك الظلام، من فوقك تراب، ومن تحتك تراب، وعن يمينك تراب، وعن شمالك تراب، ثم تعاد روحك إلى جسدك، ويأتيك منكر ونكير، فيُجلسانك ويسألانك: مَن ربك؟ ما دينك؟ مَن نبيُّك؟ فإن كنت من الصالحين الصادقين التائبين، فإن الله سيثبتك، فهو القائل: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27]. فتقول ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد، فينادي منادٍ من السماء: «أن صدق عبدي فافرشوا له من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له نافذة إلى الجنة»؛ ثم يُفسح لك في قبرك مد البصر، ثم يأتيك رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الرائحة، وهو عملك الصالح وهو أنيسك في قبرك.

أمَّا إن كان العبد والعياذ بالله كافرًا مُضيِّعًا لدينه، تاركًا للصلاة آكلًا للحرام، فاعلًا للمنكرات ومات على ذلك، فإنه سيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي منادٍ من السماء أن كذب عبدي، فافرشوا له من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له نافذة إلى النار، ويُضيَّق عليه في قبره حتى تَختلف أضلاعه، ثم يأتي إليه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، قبيح الرائحة، وهو عمله السيئ وهو رفيقُه.

أخي، نعوذ بالله أن نكون من الذين: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ [محمد: 27].

أخي القارئ، ماذا أعددت لأول ليلة تَبيتها في قبرك؟ أما علمتَ أنها ليلة شديدة، بكى منها العلماءُ، وشكا منها الحكماءُ، وشمَّر لها الصالحون الأتقياء؟

روى الإمام أحمد في مسنده بسندٍ صحيح، حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال : خرجنا مع النبي في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولَمَّا يُلحَدُ، فجلس رسول الله مستقبلًا القبلة، وجلسنا حوله، وكأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض، فجعل ينظر إلى السماء، وينظر إلى الأرض، وجعل يرفع بصره ويخفضه ثلاثًا، فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثًا»، ثم قال: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ثلاثًا، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة مِن فِيِّ السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، فذلك قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴾ [الأنعام: 61]، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وُجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها، فلا يمرون - يعني بها - على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحوا له، فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها، إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي به إلى السماء السابعة، فيقول الله تعالى: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وما أدراك ما عليون، كتاب مرقوم، يشهده المقربون، فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض، فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فيرد إلى الأرض وتعاد روحه في جسده، قال: فإنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه مدبرين، فيأتيه ملكان شديدا الانتهار، فينتهرانه ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له، ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله فيقولان له: وما يحملك، فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدقت، فينتهره فيقول: من ربك، ما دينك، من نبيك، وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن، فذلك حين يقول الله تعالى: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [إبراهيم: 27]، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، فينادى مناد في السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا من الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت، فوجهك الوجه يجيء بالخير فيقول: أنا عملك الصالح، فو الله ما علمتك إلا كنت سريعًا في طاعة الله بطيئًا في معصية الله، فجزاك الله خيرًا، ثم يفتح له باب من الجنة، وباب من النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة قال: رب عجل قيام الساعة كيما أرجع إلى أهلي ومالي، فيقال له: اسكن».

قال صلى الله عليه وسلم: «وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الآخرة، وإقبال على الدنيا، نزل إليه من السماء ملائكة غلاظ شداد، سود الوجوه، معهم المسوح من النار، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فتقطع معها العروق والعصب، فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وتغلق أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ألا تعرج روحه من قبلهم، فيأخذها، فإذا أخذها، لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأٍ من الملائكة، إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث، فيقولون: فلان بن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى يُنتهى به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح له»، ثم قرأ رسول الله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأعراف: 40]، «فيقول الله تعالى: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى، ثم يقال: أعيدوا عبدي إلى الأرض، فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فيطرح روحه من السماء طرحًا، حتى تقع في جسده»، ثم قرأ: ﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ [الحج: 31].

«فتُعاد روحه في جسده، قال: فإنه ليسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه، ويأتيه ملكان شديدا الانتهار، فينتهرانه، ويجلسانه، فيقولان له، من ربك، فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ها هاه لا أدري، فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه، فيقال: محمد، فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون ذاك، قال: فيقال: لا دريت ولا تلوت، فينادى مناد من السماء: أن كذب، فأفرشوا له من النار وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف منه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فو الله ما علمتك إلا كنت بطيئًا عن طاعة الله، سريعًا إلى معصية الله، فجزاك الله شرًّا، ثم يقيض له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة، لو ضُرب بها جبل كان ترابًا، فيضربه ضربة حتى يصير بها ترابًا، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه به ضربة أخرى، فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ثم يفتح له باب من النار، ويمهد من فرش النار، فيقول: رب لا تقم الساعة».

ما أسباب عذاب القبر؟

أولًا: التهاون في الطهارة وسوء الخلق: روي أن النبي مرَّ على قبرين فقال: «إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير، أما هذا فكان لا يستنزه من البول، وأما هذا فكان يمشي بالنميمة» [رواه البخاري].

النميمة نقل الكلام للإفساد بين الناس، والتنزه هو الاستبراء والتطهر؛ لقوله: «تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه» [رواه الدار قطني].

ثانيًا: التهاون في الوضوء، وترك نصرة المظلوم؛ لقوله: « أُمِرَ بعبدٍ من عِبادِ اللهِ أنْ يُضْرَبَ في قبرِهِ مِائةَ جَلْدَةٍ، فلمْ يَزَلْ يَسْأَلُ و يَدْعُو حتى صارَتْ جَلْدَةً واحدةً، فَامْتَلأَ قَبْرُهُ عليهِ نارًا، فلمَّا ارْتَفَعَ عنهُ و أفاقَ قال: على ما جَلَدْتُمُونِي؟ قالوا:إِنَّكَ صَلَّيْتَ صَلاةً بغيرِ طُهورٍ، و مَرَرْتَ على مَظْلومٍ فلمْ تَنْصُرْهُ ».

ثالثًا: من أسباب عذاب القبر: جريمة السرقة: كانَ علَى ثَقَلِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، رَجُلٌ يُقَالُ له كِرْكِرَةُ، فَمَاتَ فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «هو في النَّارِ، فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إلَيْهِ، فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قدْ غَلَّهَا» [رواه البخاري]، والغلول: السرقة من الغنيمة، والشملة: هي الكساء من الصوف يتغطى به.

يقول ابن القيم رحمه الله: «فعذاب القبر عن معاصي القلب والعين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل، ولَما كان أكثر الناس كذلك، كان أكثر أصحاب القبور معذبين، والفائز منهم قليل، فظواهر القبور تراب وبواطنها حسرات»؛ [الروح ص: 112-113].

ولقد جاء في حديث رواه أبو سعيد رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم ذكر أرباب بعض الجرائم وعقوباتهم، فمنهم من بطونهم أمثال البيوت وهم على شاكلة آل فرعون، وأكلة الربا، ومنهم من تفتح أفواههم فيلقمون الجمر حتى يخرج من أسافلهم، وهم أكلة أموال اليتامى، ومنهم من تُقطع جنوبهم ويُطعمون لحومهم، وهم المغتابون، ومنهم من لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم، وهم الذين يمزقون أعراض الناس.

فكل هؤلاء وأمثالهم يعذَّبون في قبورهم بهذه الجرائم، بحسب كثرتها وقلتها، وصغرها وكبرها، ما لم يغفر الله لهم ويتجاوز عنهم بتوبة أو رحمة منه تعالى.

ما أسباب النجاة من عذاب القبر؟

أولًا: من أسباب النجاة من عذاب القبر الشهادة في سبيل الله، يقول صلى الله عليه وسلم: «إن للشهيد عند الله سبع خصال: أن يغفر له من أول دَفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلَّى حُلة الإيمان، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانًا من أقاربه» [رواه أحمد والطبراني].

ثانيًا: المداومة على قراءة سورة تبارك؛ لقوله: «إن في القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له» [رواه أبو داود والترمذي].

ثالثًا: الأعمال الصالحة الخالصة: لقوله ﷺ: «إن الميت إذا وُضع في قبره، إنه يسمع خفق نعالهم حين يولُّوا مدبرين، فإن كان مؤمنًا كانت الصلاة عند رأسه وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن شماله، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلاة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه، فتقول الصلاة: ما قِبَلي مدخل، ثم يؤتى عن يمينه فيقول الصيام: ما قِبَلي مدخل، ثم يؤتى عن يساره، فتقول الزكاة: ما قِبَلي مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه، فيقول فعل الخيرات من الصدقة والمعروف والإحسان: ما قِبَلي مدخل» [الطبراني في الأوسط وابن حيان في صحيحه].

رابعًا: أن يحاسب العبد نفسه ويجدِّد توبته قبل النوم؛ يقول ابن القيم رحمه الله:
«ومن أنفع الأسباب المنجية من عذاب القبر: أن يجلس الرجل عندما يريد النوم لله ساعة يحاسب نفسه فيها على ما خسِره ورَبِحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحًا، ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته تلك مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبلًا للعمل مسرورًا بتأخر أجله، حتى يستقبل ربه ويستدرك ما فاته» [الروح: ابن القيم ص: 115].

خامسًا: الدعاء للميت والاستغفار والصدقة عنه ووفاء ديونه، وقضاء ما قصَّر فيه من حج، فإنه له نفع للأحاديث: «كان النبي إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل»؛ [رواه أبو داود وقال الحاكم صحيح الإسناد].

وروي أن رجلًا أتى النبي، فقال: «يا رسول الله، إن أمي افتُلِتت نفسها، «فأجأها الموت»، ولم توصِ، وأظنها لو تكلمت تصدَّقت، أفلها أجر إن تصدقتُ عنها؟ قال: نعم»؛ [رواه الشيخان].

اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت أن تجعلنا من الذين تثبتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

اللهم اجعل قبورنا وقبور آباءنا وأمهاتنا، وقبور مَن له حق علينا، وجميع المسلمين - روضة من رياض الجنة، ولا تجعلها حفرة من حفر النيران، يا أرحم الراحمين.

وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

لا تنس ذكر الله
سبحان الله والحمدلله ولا إله إلا الله والله أكبر
0 / 100

إقرأ المزيد :





عدد الزوار :
Loading...
شارك على مسنجر مكتبتي الاسلامية
Masba7a أضف إلى الشاشة الرئيسية